من منا لم يسمع أو يقرأ عن إسرافنا في الحديث عن سياسات الولاياتالمتحدة الاميركية وحكومات الغرب القائمة على الكيل بمكيالين أو اكثر في تعاملها مع قضايانا كعرب ومسلمين. والواقع أن في سياسات كل دولة، حتى العربي والاسلامي منها، عنصرا يمكن اعتباره كيلا بمكيالين ولا يمكن لأية سياسة الخلاص من عنصر الكيل بأكثر من مكيال، ذلك أن اسلوب تعامل أية حكومة في اية دولة مع قضية من القضايا، خصوصاً ما يتعلق منها بالعلاقات الخارجية لا يمكن ان يصلح بذاته اسلوباً للتعامل مع قضية اخرى، فالقضايا تختلف من حيث ماهيتها واسباب وجودها وطرائق السير بها الى حلول ممكنة، كما أن حكومة تتصرف تبعاً لمصالحها لابد واجدة نفسها مدفوعة الى سياسات تختلف باختلاف القضية المطروحة عليها، ولذلك نلاحظ كيف تغيّر حكومات معينة من العرب والمسلمين، كما من الغرب، سلوكها السياسي تبعا للقضية المطروحة عليها، فهي تفاوض او تراوغ او تتلاعب وتستعمل الديبلوماسية او القوة الاقتصادية او العسكرية بحسب الاحوال. إذن لا يصح لنا من حيث المبدأ أن نتوقع من حكومة لنا او لغيرنا أن تتناول كل القضايا التي تهمها بأسلوب واحد، ولا يستساغ منا أن نطالبها بذلك على أي حال، وعليه فانه يظل جديراً بنا ان نفهم بواقعية سياسات الكيل بمكيالين أو بأكثر فهذه حكاية سائدة بيننا نحن العرب والمسلمين ولعل اظهر مثل عليها لدينا قيام دولة فينا بغزو دولة اخرى مستندة الى اسباب إن صحت لا تبرر تصويب بنادق كان يجب أن تصوب الى اعداء فصوبت الى صدور عربية. ونحن لازلنا نشهد كيف أن حكومات عربية واسلامية تتخذ من الموقف ازاء بعض منها ما يجدر بها أن تتخذه في مواجهة الغير، وبعبارة أوضح تواجه حكومات عرب ومسلمين مشاكل مع عرب ومسلمين آخرين مشابهة لتلك التي لديها مع آخرين، ومع ذلك تختلف معالجات تلك الحكومات باختلاف المشاكل او تغير الخصوم من الصمت الكامل الى الغزو الكامل وغالبا ما يتخذ الموقف تبعاً لضعف الضحية او قوتها، ونحن لا نستطيع وبغض النظر عن مدى صواب او خطأ السياسات العربية والاسلامية إلا أن نسلم للحكومة صاحبة السياسة باختصاصها في تنويع تناولها لقضاياها حسب ما تراه صالحاً لها وهذا ما يمنحها في حد ذاته صفة الكائلة بأكثر من مكيال. إذن فسياسات المكاييل المتعددة هي السياسات الواقعة والمنطقية والصالحة من دون غيرها لخدمة مصالح واهداف من يطبقها من الحكومات ولا يعبر انتقادنا للفكرة في حد ذاتها إلا عن فهم ساذج للسياسة عموماً، فالسياسة الناجحة ليست إلا سلسلة من المواقف التي تتمتع بقدر من التنوع والمرونة بما يمكن من استخدامها لحماية مصالح وتحقيق اهداف لا يصح السعي اليها جملة واحدة ولا بطريقة واحدة، وما تقوم عليه سياسات اميركا والغرب عموماً من مرونة وتنوع وتلون وفقاً للقضية المطروحة نفعله نحن كل صباح ومساء ليس ازاء قضايانا الخارجية فحسب بل حتى ازاء ما في داخل الدولة من مشاكل. إننا، وإذ نسلم بأن طبيعة السلوك السياسي هي كما وصفنا ونقبل بأن تعدد المكاييل امر لا يعيب اية سياسة بل ما يعيبها هو الجمود على نسق واحد لا يختلف باختلاف طبيعة القضايا القائمة او التي تقوم. واذ نفعل ذلك، لا نسلم ابداً باستبعاد القيم الانسانية والاخلاقية من عجين اية سياسة ومهما تعددت فيها المكاييل. وإذا كانت ثقافة العصر السياسية في الغرب لم تصبح بعد محتوية بالقدر الكافي على عنصر الاخلاق والانسانية الا انها لا تفتقر الى ذلك كل الافتقار، نعم لازالت المصالح الوطنية. لاميركا والغرب ورغم بعض آثار الرأي العام الخيّرة هي العنصر الاساسي الذي يحرك ويوجه سياسات حكومات اميركا وحكومات الغرب، ولذلك لا يصح لنا أن نستغرب اختلاف مواقفهم من قضية معينة إزاء قضية اخرى شبيهة بها، فهم مثلنا والمصالح غالبة على اهدافهم، لا بد من ان يتبعوا سياسات مختلفة ازاء القضايا المتماثلة والمتشابهة بحسب ما تمليه المصلحة، أي أن اختلاف المصلحة بشأن قضية عن أخرى هو ما يملي تغير السياسة التي سبق اتخاذها ازاء قضية تماثلها. إن انكارك لتعدد المكاييل على شخص من الاشخاص أمر شبيه بمطالبتك لمصرف معين بأن يقرضك المبلغ نفسه الذي سبق واقرضه لشخص يشبهك وتشبه ظروفه ظروفك، فان رفض اتهمته بالكيل بمكيالين مع أنه لا بد لذلك المصرف، إن سلمت له بحقه في حماية مصالحه، من أن يتخذ منك كقضية موقفاً يختلف عما اتخذه من الشخص الذي وافق على اقراضه إذا ما اختلفت الفائدة التي يراها في اقراضك عن تلك التي يتوقع ان يجنيها من اقراض غيرك. اننا إذا ما فهمنا حكاية الكيل بمكيالين او تعدد المكاييل في سياسات اميركا والغرب على نحو ما تقدم واعترفنا بأننا نحن ايضا من الممارسين لتلك الحكاية بشغف حتى في ما بيننا وازاء مواطنينا سنصبح أكثر واقعية واكثر قدرة على التعامل مع السياسات التي هي بطبيعتها متعددة المكابيل، وقد ننجح في الانصراف عن المطالبة المستحيلة بوحدة المكيال، الى المطالبة بأن تعتمد سياسات الدول الكبيرة معايير اخلاقية افضل وانسانية اوفر في تعاملها مع القضايا الدولية ومع اننا لا نعتمد عرباً ومسلمين في سياساتنا إلا قدرا ضئيلاً من تلك المعايير الاخلاقية والانسانية التي نعلن عنها في الخطب ووسائل الاعلام، فانه لا بأس من مطالبة اميركا والغرب باعتمادها لعلنا نحمي بذلك بعضاً من مصالحنا. إن ما يبديه سيل الكتابات والمناظرات التلفزيونية العربية والاسلامية من استنكار لما في سياسات الغرب، وخصوصاً اميركا من معايير مزدوجة لا يزيد في نظر المرء عن محاولة للتضليل، فالواحد منا لا يستطيع أن يتهم كتابنا أو ساستنا أو المتناظرين منا بسوء الفهم الى هذا الحد، وإنما يستطيع ان ينسب اليهم رغبة في تسويغ سياسات عربية أو في تسفيه أخرى إذ يختار من يتحدث منا عن ازدواج المكاييل او تعددها مناسبات معينة تبدو فيها الرغبة في استنكار اي موقف تقفه اميركا ولا يرضون عنه حتى ولو حقق مصالح لعرب او مسلمين، ثم يقوم بشجب تلك السياسات على أساس أن متبعيها لم يتبعوها على الدوام في كل القضايا، ضارباً عرض أي حائط بحقيقة اختلاف المصالح واختلاف طبيعة القضايا، وكأنه يرى حكومات الغرب تلاميذ في فصل لتدريس السياسة يقف هو فيه موقف الاستاذ. من منا عندما يتعامل بالقدر اللازم من الصراحة لا يدرك أن الذين استنكروا اقدام اميركا والغرب على تحرير الكويت وعايروهم بتعدد المكاييل لانهم لم يحتشدوا ايضاً لغزو اسرائيل التي تحتل ارضاً عربية وبالطبع فان مفهوم المخالفة يعني اباحة احتلال الكويت الى حين ظهور حكومة قادرة على اسعافها وبريئة من ازدواج المكاييل حتى نسمح لها بتحرير عرب جرى احتلالهم. نعم إن سياسات اميركا والغرب عموما كما قلنا هي سياسات متعددة المكاييل وكذلك سياساتنا بل وسياسات أية حكومة، لكن إدانة متعدد المكاييل إن صحت لا يجب أن تتخذ ذريعة لشجب اية سياسات تخدم مصلحة عربية معينة وما نشاط الشجب غالباً الا بهدف استبعاد اميركا من ان تكون مؤهلة لمساعدة أي بلد عربي يجري غزوه أو الاعتداء عليه مع انها الحكومة الوحيدة المؤهلة للعب مثل ذلك الدور. أيضاً في موضوع السودان وحرب الجنوب فيه، تلك الحرب التي تواصلت منذ زمن طويل وسابقة على نظام الحكم الحالي ومع ذلك يواصل الرسميون اتهام اميركا والغرب عند احتجاجهم على تجاوزات لحقوق الانسان بانها حكومة مزدوجة او متعددة المكاييل، ويعنون بذلك أن عليها ان تواجه كل ما يحدث في العالم، وخصوصاً في اسرائيل من خرق لحقوق الانسان والا فما عليها الا ان تترك النظام السوداني يتصرف كما يشاء، تماماً كأن يستنكر شاعر قيام ناقد بنقد شعره لان ذلك الناقد لم ينتقد اشعار جميع الاخرين، أو أن يرفض أحد الاشخاص تبرعاً من آخر لأن المتبرع لايداوم التبرع للآخرين. اننا سمعنا وقرأنا لعرب مسلمين كثيراً من السخط الموجه الى عمليات حلف الاطلسي في كوسوفو، إذ رفض البعض تلك العمليات على اعتبار ان اميركا وحلفاءها يكيلون بمكيالين، فيما عزفوا عن التدخل لمحاربة اليهود في فلسطين، كما عزفوا أخيراً عن مساندة المسلمين الشيشان، وكأنهم يقولون لنا إن لا قبول بأي موقف مساند لحق عرب أو مسلمين من اميركا بالذات، إلا إذا ثابت الى رشدها ووحدت مكاييلها ولا يحق لها قبل ذلك أن تتدخل في اية قضية تخصنا او تعنينا. إن المطلوب من اميركا ومن الغرب ان يتدخلوا، ولو عسكرياً في كل من الصومال ورواندا وبوروندي والكونغو، وفي كل مكان تلتهب فيه النزاعات وإلا حكمنا عليهم بازدواج وتعدد المكاييل ونزعنا عنهم الحق في أي تدخل في أي مكان. إن اختلاط الفهم عند البعض واعتياد تلوين الحقائق خدمة لبعض النظم عند آخرين، هو أمر يجعل المرء عند محاولته مواجهة التضليل يبدو وكأنه يدافع عن سياسات اميركا ويبرر ما تتخذه من مواقف إزاء قضايا عربية واسلامية، مع ان الأمر ليس كذلك على الإطلاق. إن الامر لا يتجاوز الرغبة في الدعوة الى الحذر من عادة تلوين الحقائق بغير الوانها الاصلية والتي تؤدي الى تضليلنا عن مكامن الاخطار. إن ما نحتاج اليه في شأن حكاية ازدواج او تعدد المعايير والمكاييل في سياسات اميركا والغرب هو تناول تلك السياسات بواقعية، واقعية تعتبر تعدد المكاييل امراً لصيقاً بفكرة السياسة ثم التعامل مع المواقف الغريبة من قضايانا كل على حدة فنشجعها عند وقوفها موقفا يخدم مصالحنا ونعترض حال اتخاذها ما يؤذينا من سياسات، اما تخويف عرب ومسلمين من التعامل اصلا مع السياسات الغربية وبدعوى رفض كل مواقف الذين لا تحكم سلوكهم وحدة المعايير، فهو موقف اشبه بمواقف التلاميذ عند توافر حسن النية، وهو تضليل لنا عن حقائق العلاقات الدولية عند غيابه. * كاتب. رئيس وزراء ليبي سابق