ثمة خلاف في اوساط المعارضة العراقية حول تقييم المؤتمر الموسع الذي عقد في لندن قبل اسبوعين، وضم العديد من الفصائل. فصدقية المؤتمر الذي شكل تجربة تعددية مشهودة للمعارضة جاءت منقوصة، لا سيما بفعل امساك الجانب الاميركي بالمبادرة من حيث الاعداد بل حتى التدخل بالمجريات ورسم معالم النتائج. وبالاضافة الى القرارات ذات الطابع العملي، فأهم ما نتج عن المؤتمر وضع وثيقة "الانتقال الى الديموقراطية في العراق" امام الملأ للمراجعة والمناقشة. وطموح هذه الوثيقة التي اتت ثمرة لجهود مجموعة من المثقفين العراقيين المقيمين في الغرب، ان تشكل مسودة للخطاب السياسي والفكري العراقي للمرحلة القادمة. وعلى رغم الطابع غير الالزامي الذي تتمسك به هذه الوثيقة، والآراء المتعارضة التي توردها جهاراً في اطار حرصها المعلن على التعددية، فإنها تميل الى التسليم بعدد من المواقف المتداولة اليوم في اوساط المعارضة العراقية، والتي تستحق التمحيص والتعليق من العراقيين وغيرهم على حد سواء. والمسألة الاولى هي الافتراض بأن النظام الفيدرالي الاتحادي هو الشكل الذي لا بد ان يتخذه عراق الغد. وتأتي الوثيقة على ذكر عدد من المشاريع في هذا الصدد تختلف فيها الولايات المقترحة ضمن الاتحاد العراقي عدداً وتركيبة، مع الاقرار المتكرر بأن الصيغة الاتحادية تحظى بشبه اجماع لدى المعارضة وانها الانعكاس الافضل للواقع القومي التعددي في العراق. غير ان لهذا الافتراض اشكاليات عدة من الناحيتين العملية والمبدئية. والملاحظة الاولى ان التاريخ المعاصر حافل بتجارب فرز اتحادي فاشلة، حيث الانتقال على طريق الوصول الى حال تقسيمية كاملة كما في الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، وربما ايضاً الاتحاد الروسي، اما التجارب الناجحة فحالات الضم لا الفرز كما في الولاياتالمتحدة وسويسرا والامارات العربية المتحدة. فهل بوسع العراق ان يشكل حالة فريدة في هذا المضمار، ام هل اعتماد صيغة الفرز الاتحادي هو الحد الممكن اليوم، بالنسبة للبعض، بانتظار الظرف الملائم لتحقيق التقسيم؟ ليس في هذا التساؤل انكار لحق هذا البعض، والمقصود به هم الناشطون الداعون الى اقامة الدولة الكردية المستقلة في السعي الى تحقيق هذا الهدف السياسي، بل تنبيه من يراهن على امكانية تبديد دعوة الاستقلال الكردي بصيغة توفيقية اتحادية ان التجربة التاريخية لا تحبذ نجاحه في هذا الرهان. بل العكس هو الصحيح: فالدعوة الى الاستقلال التام لا تحظى اليوم بتأييد الاغلبية في الوسط الكردي العراقي لاسباب عدة منها الرصيد التاريخي الثقافي المشترك بين العراقيين الاكراد وسائر مواطنيهم، وهذا الرصيد عرضة للتقلص والتهميش مع انتقال اطار التفاعل الثقافي من المستوى الوطني الى مستوى الولاية. والملاحظة الثانية هي حول مرجعية اقرار النظام الاتحادي: هل هي الجمهور العراقي برمته، ام هل تقتصر على المقيمين في الولاية العتيدة؟ ففي حال جاءت نتائج الاستفتاء العام حول الاتحادية لتبين ان الاكثرية في عموم العراق لا توافق عليها، لكن الاكثرية في المحافظات الشمالية كردستان العراق تريدها، فهل تفرض الاتحادية ام ترفض؟ وثمة غبن بديهي في الحالتين. وان جرى اعتماد مبدأ ان حق تقرير المصير يقتصر على المقيمين في الولاية العتيدة، فهل يحق للمسيحيين او غيرهم في النواحي والبلدات التي يشكلون فيها اكثرية ضمن كردستان العراق اقامة ولاية خاصة بهم؟ الجواب هو عادة بالنفي، مع التأكيد على صون الحقوق القومية والدينية والثقافية للاقليات في كردستان العراق. فالسؤال هنا هو: لم لا يطبق مبدأ صون الحقوق القومية والدينية والثقافية في عراق احادي، دون اللجوء الى الصيغة الاتحادية؟ والجواب هو عادة ان تجربة التاريخ العراقي الحديث لا توحي بالثقة. ولا يمكن بالطبع الاستهتار بالتجربة التاريخية المريرة التي شهدها العراقيون الاكراد، وغيرهم من غير العرب، الا انه لا بد من وضع هذه التجربة في سياق لجوء النظام العراقي الحاكم منذ ثلاثة عقود الى مختلف الوسائل المتوفرة له لتحقيق سلطته الشمولية. فالعرب، كما الاكراد وغيرهم، تعرضوا للقمع والتنكيل والعقاب الجماعي. وسواء كان شكل الاضطهاد قومياً او طائفياً او عشائريا، فالمضمون كان دوماً تثبيت الحكم القائم، لا تحبيذ فئة على اخرى. لا يعني ذلك بالطبع أن الظلم لحق بجميع العراقيين بقدر متساو، كما لا يمكن انكار خصوصية كل تجربة وحق اصحابها بمعالجتها ضمن الاطار الذي يرتأونه. ومن جهة اخرى، ليس في هذا التأكيد ابراء ذمة للفكر القومي العربي الذي بقي مقصراً في نقده للممارسات التي تسترت به، غير انه لا يجوز اعتبار ان هذا الفكر المحرك الفعلي لاساليب القمع، او ان الجلاد كان عربياً وسنياً فيما الضحية كردية او شيعية. فالحكم القائم في بغداد، رغم اشهاره القومية العربية غالباً انما ليس حصراً، نجح في توريط كافة الفئات العراقية، بمختلف اطيافها وطوائفها، عرباً واكرادا وغيرهم، في ممارساته القمعية. وسواء جاء هذا التوريط في كردستان العراق من خلال "جحافل الدفاع الوطني" الجحوش او "الفرسان"، فالتجربة التاريخية العراقية المعاصرة غير قابلة للاختزال بمعادلة بسيطة، ولا بد من مراجعة دقيقة لاستيعاب المسؤولية المعنوية الجسيمة لكافة الاطراف، في العراق كما في جواره وعلى الصعيد الدولي. ثم ان تجربة حكم الامر الواقع في المنطقة الشمالية، رغم الاطراء التي تحظى به من العديد من الجهات، تكشف عن خطر تكرار النهج السياسي الاشكالي على مستوى الولايات ضمن النظام الاتحادي. لا يمكن بالطبع المقارنة بين الحكم الشمولي القائم في بغداد والسلطتين المحليتين في كل من اربيل والسليمانية، لكن الفئوية المقنّعة هنا بالديموقراطية لا تشكل انتقالاً نوعياً باتجاه الشفافية والنظام التمثيلي الصادق. وثمة اصوات ضمن الاقليات القومية والدينية في كردستان تحذر من غبن وتجاهل يطالانها. فالربط بين الدعوة الى النظام الاتحادي والتجربة التاريخية الحديثة ليس امراً يمكن التسليم بصوابه تلقائياً. والواقع ان تجربة العراق، في عمومه وشماله على حد سواء، تثبت فحسب ان المطلوب هو النظام السياسي العادل القائم على التمثيلية الصادقة والشفافية المتواصلة. ولا يختلف مجمل المواطنين العراقيين الاكراد في هذا الصدد عن اشقائهم العرب، اذ ما يسعون اليه حفظ كرامتهم وصون حقوقهم الانسانية وصواب تمثيلهم. واذا كانت مركزية الحكم في العراق هي فعلاً عائق للوصول الى هذه الاهداف وهو امر يتطلب الدراسة لتأكيده، فالاصح ان تقوم اللامركزية الادارية، لا الاتحادية، وعلى اساس المحافظات القائمة حالياً، او على اساس التجانس المناطقي لا القومي او الديني او ما شابه. وفي حال اصرار البعض على الاتحادية الفيدرالية كشرط للتعاون ضمن المعارضة، فقد يكون الحل التعهد بإجراء استفتاء بهذا الشأن بعد مرحلة انتقالية محددة زمنياً، على امل ان تشهد استتباب الحكم التمثيلي الصالح. وذلك لاتاحة الفرصة امام كافة العراقيين، لا سيما الاجيال التي نشأت تحت وطأة الحروب والعقوبات، لاختبار الرصيد العراقي الواحد، فلا تكون الاتحادية والتقسيم الذي قد يلحقها وليدي ظرف تاريخي شاذ في تاريخ العراق. والرأي الهامس في العديد من اوساط المعارضة، وان تطرق اليه كنعان مكية صراحة في الكلمة التي القاها في المؤتمر، هي ان "الاكراد" بالصيغة الجماعية المفترضة يريدون الانفصال، لكنهم يدركون استحالته، لذلك فهم اليوم يستعيضون عنه بالمطالبة بالاتحادية. وفي هذا الرأى قدر من التأحيد لمواقف العراقيين الاكراد وتفويض الناشطين القوميين منهم النطق باسمهم. اي ان هذا الرأي ينطلق من قبول ضمني بأصالة الفكرة القومية. والاجدى اعتبار القومية الكردية، كما القومية العربية، مشروعاً عقائديا سياسيا، لا حقيقة موضوعية. فالشعور القومي الكردي هو طبعاً احد المقومات الثقافية المتداولة في اوساط الجمهور الكردي في كردستان العراق وخارجها، بل هو يرتقي، وفق الظروف لا سيما في اطار استهدافه والعمل على طمسه وتهميشه، الى مصاف اهم هذه المقومات. لكن من التعسف الافتراض أن هذا الشعور وحده دون غيره هو العامل الاصيل الثابت الذي تُحسم على اساسه الهوية السياسية للمواطن العراقي الكردي. فهذا، شأنه شأن غيره، يتفاعل مع مستويات متعددة في صياغته لهويته، البعض منها اصغر من الدائرة القومية عشائري، مناطقي، لغوي والبعض الآخر اكبر وطني، اسلامي. وفيما شهدت المنطقة العربية خلال القرن الماضي رفضاً لديمومة منظومة الاقطار التي فُرضت عليها في اعقاب الحرب العالمية الاولى، وعبرت عن رفضها باعتناق الفكر القومي العربي، فإن العقود الاخيرة شهدت ترسخاً لهذه المنظومة التي ابتدأت دخيلة ثم تأصلت على غير صعيد، وتراجعاً بالتالي للطروحات القومية التأحيدية. وكنعان مكية، في دعوته الى اعتماد المواطنة العراقية اساساً للهوية، يشكل جزءاً من ظاهرة التأصل والابتعاد هذه. لكن موقفه ينطوي على قدر من التناقض حين يسعى الى التوفيق بين الاتحادية والمواطنة. فالاتحادية هي فعلياً اقرار منه بأصالة الفكرة القومية، اذ تقر للجانب الكردي بحقه في تجسيد هذه الفكرة ضمن اطار تقسيمي، وإن مقيّد، للعراق. لكن مكية ينكر في المقابل حق الجانب العربي بالسعي الى تجسيد هذه الفكرة ضمن الاطار التوحيدي الذي يتعدى العراق عبر مطالبته عرب العراق بالتخلي عن الصفة العربية لوطنهم. فهدفه، إذاً، من الدعوة الى "عراق غير عربي" انصاف مختلف الفئات التي يتكون منها العراق، ليكون الوطن على الحياد ازاء الانتماءات القومية. وموقف مكية هذا يتفق مع المفهوم العرقي للهوية القومية، حيث العرب والاكراد والتركمان وغيرهم فئات متمايزة، وهو تحديداً المفهوم الذي سعى النظام الحاكم في بغداد الى تثبيته. وهو ايضاً المفهوم الشائع في الاستيعاب الغربي للموضوع القومي تحت خانة "الاثنية". والواقع ان التصنيفات القومية، في ما يتعدى المواقف العقائدية تبقى مسألة اشكالية فرضية. وأُسَر العراق تتداخل عرباً واكراداً وتركماناً وفرساً وهنوداً واشوريين وكلدانا وسريانا ومندائيين وارمن وغيرهم. واللغة المشتركة هي العربية، ونتاجها الماضي للانتاج الثقافي كما استعمالها الحاضر للابداع الادبي، ليسا حكراً على الناطقين بها كلغة أم. فلم الحرج اذاً من اطلاق صفة "العربي" على العراق؟ لا بل في اطلاقها عليه تحرير لهذه الصفة من استثنائيتها وتأكيد على التواصل بين الثقافات في المنطقة ككل. فالعراق عربي ولا حرج، والعراق كذلك كردي وتركماني الخ، والارث الثقافي العربي برمته ملك معنوي لكل عراقي، سواء كانت لغته الأم العربية أم لا. والمساواة الثقافية تكون اما بإنكار الخصوصيات او باستيعابها جميعاً. أما في المنحى الاول، وهو الذي اختاره مكية، فيكمن خطر الانفصال عن الذات والمحيط. حق مكية طبعاً ان يقدم الموضوع العراقي الداخلي على اي اعتبار آخر في سعيه الى رسم ملامح الغد العراقي. وهو هنا يدعو الى عراق منزوع السلاح، في مراجعة منه لتورط العراق في حروب عقيمة لم تجلب الا الموت والدمار. ولهذه الدعوة محاذير عملية، اهمها استعداء المؤسسة العسكرية في المرحلة الانتقالية، واخرى سياسية على رأسها تحقيق تبعية دائمة ازاء القوة العظمى التي يعول عليها ضمان الامن الخارجي للعراق وتعطيل القدرة على تغليب مصالح حلفائها في المنطقة، ومزيد من الامعان في تقليص دور الحكومة المركزية لا سيما في اطار اتحادي. الا ان النتيجة التي تعني الشرق العربي برمته ان العراق المنزوع السلاح محيّد ازاء القضايا التي تعني هذا الشرق، لا سيما في اطار توازن القوى مع اسرائيل المدججة بالسلاح الاميركي وبوسائل التدمير الشامل. الحكم القائم في العراق اليوم يزعم تمثيل عراق موحد عربي قوي، وهو كاذب دون شك في زعمه المثلث. ورفض المعارضة هذا الحكم تترجم احياناً نفوراً من مقومات هذا الزعم. والسؤال هنا: هل يتفق الجمهور العراقي مع هذا النفور؟ ام هل ان المعارضة بسعيها الى تقويض هذه المقومات تبتعد عن الرأي السائد في اوساط جمهور تسعى الى استقطابه؟