من زاوية ما، يبدو أن الفكرة الأساسية المتنازع عليها في القضية العراقية المتأججة حالياً، هي فكرة الوطنية. فالمواقف منها منقسمة بين سلطة تدّعي الدفاع عن المصلحة العليا للوطن ضد عدوان خارجي مرتقب، ومعارضين منقسمين بدورهم إلى معسكرين كلاهما يرفض شرعية السلطة في حماية الوطن وتمثيل مصالحه العليا، ويحملها مسؤولية ما آل إليه الوضع فيه. لكنهما يختلفان في تقدير الحلّ المطلوب في الظرف الراهن، فمنهم من يعارض السلطة والحرب الأميركية معاً، ومنهم من يعتبر التدخّل الخارجي الوسيلة الوحيدة المتبقية لإنقاذ العراق من دوامة الكوارث التي راكمها حكم مستبدّ ومغامر. نتناول أولاً صعوبة، أو ربما امتناع، حصول إجماع على تعريف شامل للصفة الوطنية في حالة ملموسة لاحتدام الصراع السياسي كالتي يشهدها العراق حالياً. فالحالة هذه، وهي ليست استثنائية كما نفترض، تبّرر إثارة أسئلة عامّة حول ما إذا كان هناك حقاً جوهر ثابت للوطنية لا يتغيّر على رغم اختلاف دوافع وغايات المنادين بها" وقيمة الاحتكام إلى الروح الوطنية حينما لا توجد، في الواقع، إلا منظورات متباينة ومنطلقات متنازعة لتفسيرها والتعبير عنها" ومدى استقرار مبدأ الوطنية أصلاً قبل أن تخترقه قوى العولمة الرأسمالية الكاسحة، وتعوّم معناه جزئياً أو كلياً سويّة مع معاني الثقافات والخصوصيات المحلية" وصحة اعتبار الوطن، كعلاقة لا يمكن استبدالها ولا التنصّل منها في الحياة المعنوية لأغلب البشر، مجرّد تجربة عابرة في تاريخ الأمم. في تعريفها البسيط المتداول تُنسب الوطنية إلى حبّ الوطن والتفاني في سبيله. فهي روحٌ جامعة توحِّد مجموعة بشرية بصفتها أمّة، وانتماءٌ مقدس يسمو على المصالح والغايات الجزئية. هكذا توحي الخطابات الحماسية لحركات الشعوب وثوراتها ضد الاحتلال أو الاستعمار، أو أيديولوجيات الأمم التي تعتبر ليبرالية لقيامها على النزعة الفردية والمساواة القانونية والاستنكاف من الحركات الشعبوية. الروح الوطنية واجب معنوي وفضيلة أخلاقية لا تستثني شعباً أو أمة، روح يبلغ التعبير عنها ذروته في أوقات الشدائد والحروب فتُلزم وتقيّد، وتخمد الحماسة لها في الأوقات العادية فينظر إليها كرابطة غير شعورية، وربما غير مرغوبة، يتقاسمها أبناء البلد باعتبارهم كائنات غير سياسية تسيّرها مصالح أنانية. عن دلالتها الأولى كُتب الكثير الذي أسبغ عليها صفة القداسة، ورفع شأنها إلى منزلة المطلق المشرعة أبوابه لحلول الأبناء. هكذا، مثلاً، أورد الروائي الروسي دوستويُفسكي في رواية "الشياطين" وصيّة ثري أميركي بترك ثروته الهائلة للمصانع والعلوم، وهيكله العظمي لدارسي الطّب، وجلده ليُصنع منه طبلٌ يقرعون عليه، ليل نهار، النشيد الوطني الأميركي. ومثله قال أحمد شوقي: وطني لو شُغلتُ بالخُلْد عنه/ نازعتني إليه في الخُلْد نَفْسي. أمّا دلالتها الثانية، فنصيبها غالباً وفاء لفظي وحماسة عابرة تقتضيها أحداث ومناسبات محدّدة. الوطنية هنا علاقة رمزية لا أكثر. إلى هذين الوجهين المتداوليْن للوطنية نضيف وجهاً ثالثاً لا يفترضها كمعطى طبيعي ولا كشعور غريزي ولا كنداء عاطفي. فهو يظهر في الصراع عليها لا من أجلها، في تشكيلها من الداخل وليس في التمسّك بها ضد أجنبي غازٍ أو معتدٍ. معنى الوطنية هنا يبدأ، نظرياً، من تحوّلها إلى قضية سياسيّة خلافية، ومن النظر إلى الوطن كخريطة وهمية لمشاريع تضم أو تستثني، توحِّد أو تفرّق. الخلاف على الوطنية لا يدور حول حنين رومانسي الى أرض أو ثقافة، ولا حول تحديد مدلول الولاء والخيانة لها، بل حول مبادئ عقلية براغماتية هي ذاتها مبادئ النظام الجمهوري بصيغته الكلاسيكية المعروفة: حكم الشعب لنفسه بنفسه. فحين نتخذ من التجربة الغربية في العصر الحديث مرجعاً - للتحليل لا للقياس- تبدو الوطنية مقترنة بالمصلحة العامّة وبالعلاقة التعاقديّة بين أفراد أحرار، وبين المجتمع والدولة. فهي، في أصلها الذي ينحدر من أيام الإمبراطورية الرومانية، فكرة تعدديّة الوطن للجميع قانونية ومفتوحة الآفاق، نقيضها الاستبداد والنزعة القوميّة التي تتصوّر الجماعة وحدةً عضويةً منغلقةً على ذاتها. هذا الوجه الخلافي للوطنيّة يطرح نفسه اليوم في الحالة العراقية حيث تتصارع للاستحواذ عليها، كما ذكرنا، ثلاث قوى ذات منظورات متضاربة. فللسلطة في بغداد التي تنطلق من الأمر الواقع، كونها مسؤولة، عملياً ومعنوياً، عن حماية بلد تهدده قوة خارجية، تفسيرها الخاص للوطنيّة. وهو تفسير سلطوي ضيّق يقصر الولاء للوطن على الولاء لحاكم مستبدّ أو لحزب شمولي بوليسي، ويضفي على الوطنية روحاً عصبيّة قبليّة. ولشطر من المعارضة تفسير آخر يستلهم النموذج السياسي التعدّدي ويستند إليه في موقفه المطالب بإسقاط السلطة، ويرفض، لاعتبارات مبدئيّة، التدخّل الخارجي في الشأن العراقي. مقابل ذلك، يتبنى الشطر الآخر من المعارضة نظرة غير تقليدية للوطنية لا تقتصر على الاعتراف بالحريات والمشاركة السياسيّة الواسعة، بل تشكّك بالمفهوم التقليدي للسيادة الوطنية من منظور يسلّم بحتمية الاندماج، إن طوعاً أو إكراهاً، في ما يُسمى بالنظام العالمي الجديد تحت الزعامة الأميركية. الثابت الوطني الذي يجمع النظام وبعض المعارضين في نقطة واحدة، يصبح هنا متغيّراً في سياق متغيّرات عالمية تتجاوزه وتختزل حضوره ودلالته. فلا الرابطة العاطفية المحايدة سياسياً أو الخامدة عملياً، ولا الترجمة القومية المشوَّهة للفكرة الوطنية تستطيع أن تستوفي تعقيدات الظاهرة الوطنية المعاصرة الداعية إلى نظام جمهوري يحاكي المبادئ الليبرالية ويستوحي نهجاً علمانياً معتدلاً، وإلى انفتاح غير مقيّد على حركة السوق والسياسات الموجّهة له. بهذا المعنى، كفّت الوطنية عن أن تكون حاملاً لمشروع سياسي مسْتقلٍّ كما كانت في الماضي القريب، لتصبح عاملاً ناتجاً عرضياً ضمن شبكة الهيمنة الإمبريالية النازعة إلى زيادة نفوذها إلى الحدّ الأقصى كقوّة إمبراطورية كونية. حتى الاحتلال الموقّت جائز، كما هو مطروح اليوم بصدد العراق، في سبيل بلوغ الصيغة الجديدة للوطنية التي صارت حاجة ضرورية تمليها حسابات السياسة العمليّة والتفكير المستقبلي. والظاهر أن أصحاب هذا الرأي يُسوّقون، بقصد أو من دون قصد، الجانب التحرّري من أطروحة "نهاية التاريخ"، ويغضّون الطرف عن جانبها القسري والعدواني. وعندهم أن العراق تنتظره مصادفة تاريخية سعيدة، في وقت تلاشت فيه من الأفق الحلول حتى أسوأها!! عدا أسلوب "تصنيع" الوطنية اليوم كشعار إجرائي وكأيديولوجيا تعبويّة، يرى المنافحون عنها أنّ حقيقتها ذات طابع نسبيّ يتغيّر مع تغيّر مواقع الناطقين بها، وأحوال الزمن وشروط الواقع. لذلك لا بد لمضمونها الحالي أن يتميّز عن مضمونها الموروث والمتعارف عليه. فوطنية اليوم، في عُرف هذا المنطق، هي غير وطنية الأمس، وتلك التي نادى بها الأسلاف ما عادت ملزمة للأخلاف. بالأحرى ليست هناك فكرة وطنية ثابتة المعالم وراسخة الجذور، بل هناك تعبيرات تاريخية متباينة لها، أو بعبارة أدق هناك وطنيون فقط. وكلّ قوّة أو شخصيّة سياسيّة لا تتوفّر على تلك الصفة إلا ضمن حدود خطابها وأفقها الأيديولوجي ومصلحتها العملية ودورها التاريخي. وإذْ لا يوجد تراث متّصل للوطنية، ولا معيار موضوعي للحكم عليها، يغدو من الممكن مقايسة وطنية النظام الملكي الذي حكم العراق حتى عام 1958، على وطنية الحكم الجمهوري الذي أسقطه. الليبراليون والشيوعيون والقوميون والإسلاميون وقادة العشائر وتجّار السّياسة ومروجو الخطط الأميركية هم وطنيون بالدّرجة نفسها. ونوري السعيد وعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وأحمد حسن البكر وصدام حسين كذلك وطنيون في نواياهم إن لم يكن في أفعالهم. التفكير النسبي يمكن أن ينتج معادلات مسطّحة من النوع المذكور أعلاه، لكنه يمكن أيضاً أن يقود إلى فهم تاريخي صارم يؤشِّر النقلات والانقطاعات الحادثة في نُسق المعارف والأفكار والممارسات الاجتماعية. في هذه الحالة، لا مجال للمقايسة بين وطنية الأمس ووطنية اليوم، ويلزمنا أن نضع بين قويسات وطنيّة جعفر أبو التمّن والجواهري وفهد وعبد الكريم قاسم وسواهم من رموز التاريخ الحديث للعراق. فالقول، مثلاً، إنّ ثورة العشرين ثورة وطنيّة لا يتضمن إسباغ طابع مثالي عليها، بل مخالفتها والانحراف عنها. فبمقدار ما نضعها في شروطها التاريخية نكون غير ملزمين بها، وبالتالي أقرب إلى تقدير حقيقتها الخاصة. والحجة نفسها تصحّ على الموقف من ثورة تموز يوليو 1958 التي جسّدت في وقتها مشروعاً تحررياً وطنياً بلغ في اللحظة الراهنة طريقاً مسدوداً نتيجة عوامل داخلية وخارجية معروفة. ومراجعة المشروع التاريخي الوطنيّ للاستقلال والتحرّر تسير يداً بيد مع الاعتراف بانحسار دور الدولة الوطنية التي تواجه، في الحالة العراقية تحديداً، أزمة تمثيل سياسي حادّة، وعجزاً مشهوداً له في استثمار الموارد الاقتصادية الهائلة وإدارتها بصورة عقلانية. في أحسن حالاته، يتضمّن هذا التصوّر للوطنية تخليصها من عنصر البراءة الرومانسية الملازم لتاريخها المضطرب والدامي، وكشف حدودها السائبة في الممارسة والتي تتطلب ضبطاً سياسياً وثقافياً، والانحياز لمنطق المنفعة العملية ضدّ أيديولوجيا التحرّر الجماعي. لذلك فهو يستحقّ التفكير والحوار من زاوية إدراك تغيّر وتعقد العلاقة بين البعدين الخاص والعام، الأنا والآخر. لكن مشكلته أنه يقوم حتى الآن على إجماع سلبي ضد النظام القائم وليس على إجماع حول مبادئ بديلة للمستقبل. فتنوّع أغراض المتبنّين له يحمل خطر الارتداد والتناحر، ولهجته العراقية الإنعزالية، التي يغذيها خطاب استعلائي جارف، قد تجعله منبوذاً عربياً، شعبياً على الأقل، إلى حين يطول أو يقصُر. أمّا رهانه على منطق القوّة والغلبة الاميركيين، فيعكس فصلاً ماكيافيليّاً للغاية عن الوسيلة حيث السيّاسة عارية من كل أرديتها المثالية. تحرير الحاضر من كابوس صدّام على الطريقة الأميركية يعني تطبيعاً مُسْبقاً للمرحلة المقبلة أو تكبيلها. وما ينتقص من الإجماع الصادق على إنهاء الحكم في بغداد، أن فيه ميلاً نفعياً طاغياً قد يكون قصير الأمد، لكنّه سيُدخِل السياسة في سوق الاستهلاك. والمفارقة أن هذا الميْل يُقدّم مغلفاً بلغة تحرّرية زاهية!! ذلك ما سيجري التحقّق منه بعد رحيل الحُكم، أما التفكير فيه فينبغي أن يبدأ الآن. * كاتب عراقي مقيم في بلجيكا.