لا بد من وقف دوامة الدم التي تعيشها فلسطين مهما كان الثمن... ولا بد من وقفة حازمة وحاسمة من العالم والعرب والمسلمين لرفع الضيم عن الشعب الفلسطيني. فما يجري لا يمكن السكوت عنه بعد اليوم ولا السماح باستمراره. ولا بد من أن تفهم الولاياتالمتحدة أن الجرائم الاسرائيلية ستنقلب عليها وتهدد مصالحها وتزيد من حدة الكراهية لسياستها والرغبة في الانتقام من انحيازها الى إسرائيل. فهي التي أرادت ان تتفرد ب"شرف" رعاية السلام، فجاءت اسرائيل لتلطخ هذا الشرف بالدم والبارود وتحوله الى عار سرعان ما يتحول الى نقمة. ولو كان لدى المسؤولين الأميركيين ذرة موضوعية وإنصاف لوضعوا الأمور في نصابها... وأوقفوا اسرائيل عند حدها بعد أن خربت كل مبادرات السلام، وآخرها المبادرات الأميركية من كامب ديفيد الى "تينيت" الى "ميتشيل" وصولاً الى "خريطة الطريق" التي ضلت طريقها بعدما زورت اسرائيل اشاراتها وأطفأت أنوارها. ولا بد من أن تفهم اسرائيل ان العنف لن يحل مشكلاتها وأن استخدام القوة المفرطة لن يفلح في قمع الشعب الفلسطيني وانتفاضته المجيدة، فهذا الشعب اتخذ قراره وأعلن النفير للجهاد مصمماً على التحرير الكامل وطرد المحتل وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف مهما كان الثمن، لأنه يعرف أن النصر سيكون للحق، وأن المجاهدين سينالون إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة. ومن لم يصدق بعد من الاسرائيليين ان من المستحيل قهر شعب اختار الموت بشرف على العيش في ذل الاحتلال، عليه أن يسأل قادته الذين استخدموا كل وسائل القوة والإرهاب ثم اكتشفوا عدم جدوى المكابرة... أو أن يسألوا سفاحهم شارون عن "جهنمه" التي بشَّر بها، فلم يجلب لهم بعد سنتين من حكمه الأسود سوى القتل والرعب والعار فخسر الأمن والسلام ومعهما قتلى وجرحى اسرائيليين وانهيار اقتصادي وشيك. ولم يبق سلاح يمكن أن تستخدمه اسرائيل إلا واستخدمته ضد الشعب الفلسطيني: طائرات ف 16 والأباتشي والمدافع وتدمير المنازل وقتل واعتقال وحصار وإبعاد وتعذيب ولكن من دون جدوى... ولم يبق لديها سوى السلاح النووي الذي سيرتد عليها إن آجلاً أو عاجلاً. أما سلاح الوقت فقد ثبت أنه يفيد اسرائيل على المدى القصير ولكنه يؤجج النار على المدى البعيد عندما تضطر اسرائيل لمواجهة استحقاقات السلام ومتطلبات مواجهة الواقع على الأرض. في المقابل لا بد من وقفة عربية حاسمة لنصرة الشعب الفلسطيني. فالسكوت بعد اليوم يعتبر جريمة موصوفة، ولا مجال بعد اليوم للتهرب ولا للتشبه بالنعامة أو للتشرذم واللامبالاة. ولا بد من تحرك جدي جماعي وضغوط تمارس على الولاياتالمتحدة والدول الكبرى لوضع حد لهذه المأساة... وإضافة الى مضاعفة الدعم السياسي والمادي للشعب الفلسطيني لا بد من اتخاذ موقف موحد حاسم يهدد بخطوات حازمة ورادعة من جهة، مع تأكيد الرغبة في السلام وتحريك المبادرة العربية والمطالبة بأن تكون "خريطة الطريق" الأميركية التي تبنتها اللجنة الرباعية خطوة تمهيدية لتبني هذه المبادرة وتنفيذ بنودها. أما على الصعيد الفلسطيني فبات متفقاً عليه ان يسعى الجميع لإنجاح الجهود الرامية لتوحيد الصفوف واعتماد التنسيق الكامل بين جميع القوى حتى لا يعلو صوت فوق صوت المصلحة الفلسطينية. والمصلحة تقتضي، كما تسرب من معلومات عن الحوار بين فتح وحماس وغيرهما، ان تتكثف المساعي لإحباط مخطط العدو لإثارة الفتن وإشعال نار حرب أهلية مدمرة وأن يمتنع جميع الأطراف عن اعطاء أي ذريعة أو حجة لإسرائيل لتكمل ما بدأته من قبل لتركيع الشعب الفلسطيني وتدمير مؤسساته وضرب البنى التحتية ومعها أي أمل بإقامة دولة مستقلة. الانتفاضة الفلسطينية أثبتت وجودها وأسمعت صوتها المدوي، وتقتضي المصلحة الآن أن تبدأ وقفة مع النفس لالتقاط الأنفاس أولاً ولملمة جراح الشعب الفلسطيني والعمل على تحصين الذات وإيجاد الوسائل اللازمة لمساعدته على الصمود حتى تحقيق الأهداف المرجوة منها. لا أحد يتجرأ على المطالبة بوقف الانتفاضة، ولكن الحكمة تقتضي اعادة النظر ببعض العمليات التي تعطي ذرائع للعدو ينتظرها لإكمال ما بدأه ثم يستغلها لتكميم الأفواه ومنع دول العالم من التدخل أو التنديد بجرائمه. ومع أننا نعرف طبيعة هذا العدو وحقيقة مخططاته، إلا ان الظروف الدولية الحالية تستدعي تطبيق مبدأ "إلحق الكذاب لما وراء الباب"! فهناك خطة معروضة، وهناك انتخابات تسيطر عليها اتجاهات اليمين المتطرف، وهناك جهود عربية تسعى الى كبح جماح الثور الهائج وحمل الولاياتالمتحدة على التخلي عن سلبيتها، كما أن هناك عاصفة كبرى تنتظر المنطقة في حال تنفيذ التهديدات بتوجيه ضربة عسكرية للعراق. صحيح ان اسرائيل لا تحتاج الى ذرائع وحجج لكي تنفذ مخططاتها التوسعية والعدوانية، إلا أنها تنتظر مثل هذه الذرائع لتسارع الى تنفيذها مستخدمة مظلتها لتبرير جرائمها وإطلاق يدها وشل قدرة العالم على التصدي لها أو حتى مجرد التنديد بها. وعندنا ألف مثال ومثال على هذا الأمر حيث قدم البعض "هدايا مجانية" لإسرائيل واستخدم أساليب خاطئة أو توقيتاً سيئاً استغلته اسرائيل. وقبل أيام اطلعت على أحد هذه الأمثلة السافرة الذي كنا نعرف تفاصيله إلا أنه لم يكن بمثل هذا الوضوح والتحديد... والصفاقة. هذا المثال عثرت عليه بين سطور كتاب جديد مثير للجدل عنوانه "ملعون هو صانع السلام" عن المبعوث الرئاسي الأميركي في عهد الرئيس ريغان السيد فيليب حبيب الى المنطقة إبان الاجتياح الاسرائيلي للبنان في صيف عام 1982. الكتاب جون بويكن - دار النهار يروي تفاصيل كثيرة عن الاجتياح وظروفه وأحداثه، إلا ان ما استوقفني منه المقطع الخاص بالذريعة التي استخدمتها اسرائيل لتبرير غزوها للبنان الذي كانت خططه معدَّة سلفاً وأهدافه معروفة، كما نجد فيه تفاصيل مثيرة عن المساومات التي أجرتها اسرائيل مع الولاياتالمتحدة حول شكل "الاستفزاز" الذي سيستخدم كذريعة وحجمه وحجم الرد الاسرائيلي ومداه. هذه المساومات تركزت بين السفاح شارون الذي كان وزيراً للدفاع آنذاك وألكسندر هيغ وزير الخارجية الأميركي الذي كان متعاطفاً حتى النخاع مع اسرائيل التي "استعملته" سنداً وظهيراً ولعبت على ألفاظه وإيحاءاته ثم ورطته وأودت به الى التهلكة ليجبر على الاستقالة ويرمى في مزبلة التاريخ. ففي المحاضر السرية للاجتماع بين هيغ وشارون دار حديث طويل عن حجم الهجوم ونوعية الشرارة التي تعتبر مرضية للرأي العام الدولي، وورد على لسان هيغ قوله: "ان الولاياتالمتحدة، كحليف، لا تستطيع ان تقول لإسرائيل ألا تدافع عن مصالحها، لكن التفهم العاطف من العالم ربما يكون بمثل أهمية واقع الأمر. ينبغي وجود استفزاز يمكن تمييزه... ونأمل بأن تتحسس الحاجة الى استفزاز يفهم دولياً، وينبغي ان يكون أي رد متناسباً مع الاستفزاز. يجب أن نبذل كل جهد لتجنب النزاع". في مثل هذه الاجتماعات على مستوى الوزراء، يقتصر الكلام عموماً على رئيس كل مجموعة. لكن فيليب حبيب لم يبق صامتاً، فذكّر شارون بأنه عائد قريباً الى المنطقة "لتحسين احتمالات الأمن" بالوسائل الديبلوماسية. تخلَّص منه شارون بالقول: "إذا قتل أحد غداً، فسندخل لبنان"، لأن "اسرائيل لا تستطيع العيش مهددة بهذه الأخطار". ذكّره حبيب عندئذ بأن بيغن أدرك أهمية أن يكون أي رد عسكري متناسباً مع الاستفزاز، فذكّر شارون بازدراء بكلمتي "استفزاز واضح" الواردتين في صيغة هيغ، وقال: "الى أي عدد من اليهود يحتاج الأمر لتكوين استفزاز واضح؟". وجاء في الكتاب أيضاً أن شارون ذهب الى واشنطن لاطلاع هيغ مباشرة على ما يعتزم القيام به حتى يتمكن من القول عندما يغزو ان واشنطن كانت على علم كامل بالأمر. وسبق للاسرائيليين أن سمعوا تكراراً خلال شهور عدة شرطَي هيغ بأن يكون "الاستفزاز" معترفاً به دولياً والرد الاسرائيلي الانتقامي متناسباً مع "الاستفزاز". ويفسر أحد الديبلوماسيين الأميركيين الرسالة التي سمعها شارون بأنها كمن يقول: إياك أن تنفذ عمليتك إلا إذا حصلت على ذريعة معترف بها دولياً"، وهو ما اعتبره شارون "رخصة صيد" مستنتجاً ان ما قيل له هو: "جد لنفسك سبباً وعندها قم فوراً بما تريد"؟! ولم يمض وقت طويل حتى وجد شارون ضالته في عملية مشبوهة مساء الرابع من حزيران يونيو 1982 حين تعرض السفير الاسرائيلي لدى بريطانيا شلومو ارغوف لمحاولة اغتيال لدى خروجه من حفلة استقبال أمام أحد فنادق لندن. وجاء في الكتاب ان حبيب تبلغ الخبر بينما كان يحضر في أوكسفورد مؤتمراً سنوياً لبحث قضايا الشرق الأوسط، فأدرك ان المسألة خطيرة على رغم نجاة ارغوف وإصابته بجروح فقط، وتطلع الى زميل جالس قربه وقال: "رباه ها قد تصاعدت مرة أخرى. فالاسرائيليون سيستخدمون ما حدث للإقدام على عمل ما". وقال لزميل آخر انه مضطر لمغادرة المؤتمر وابلاغ ابنته بأن اجازتهما معاً ستؤجل بعض الوقت". رد الاسرائيليون على اصابة ارغوف بقصف أكثر من خمسة وعشرين موقعاً حول بيروت وفي مناطق أخرى من لبنان" بما في ذلك مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، ومبنى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، و"المدينة الرياضية" الخالية التي اشتبهوا في كونها مستودع ذخيرة لقوات منظمة التحرير. وأدت تلك الهجمات الى مقتل أكثر من ستين شخصاً وجرح مئتين، فرد الفلسطينيون بوابل من الصواريخ على جنوبلبنان وشمال اسرائيل طوال أربع وعشرين ساعة، فقتل اسرائيلي واحد وأصيب خمسة عشر بجروح. في الدقيقة التي صفر خلالها الصاروخ الفلسطيني الأول فوق الحدود، حصل شارون أخيراً على ما يترقبه من مسوغات وذرائع للحرب" فانتهى العمل باتفاق 24 تموز يوليو 81 لوقف اطلاق النار، وبدأت عملية غزو لبنان. والباقي معروف، بل ان بعض المعلومات يؤكد ان الاجتياح بدأ عملياً قبل ساعتين من وقوع محاولة اغتيال ارغوف، ما يدفعنا الى التساؤل عن ألغاز هذه القضية وخفاياها ومحاولة تحليل أبعاد العملية ومعرفة ما إذا كانت اسرائيل تنتظر حدثاً ما لاستخدامه ذريعة أو أنها كانت تعرف سلفاً به... إن لم نقل انها شاركت فيه لتبرير عدوانها. والله أعلم! هذا المثال يجب أن نأخذ منه ومن غيره العبرة والدروس لئلا نرتكب الأخطاء نفسها. ويمر العرب اليوم، والفلسطينيون بالذات، بأخطر المراحل وأشد الأخطار، والعالم كله مشلول، ويد اسرائيل طليقة تستخدم أي عمل كذريعة للمسارعة بتنفيذ ما تبقى من مؤامرتها لتركيع العرب وتصفية القضية الفلسطينية والقضاء على كل ما تبقى من قرارات الشرعية الدولية والبنى التحتية للدولة الفلسطينية، ما يستدعي توافر أقصى درجات الحذر والحكمة لدى العرب واتجاه الفلسطينيين لتوحيد صفوفهم والتنسيق في ما بين فصائلهم والامتناع عن أي عمل يؤدي الى شق الصف وإثارة الفتن وإشعال نار حرب أهلية مدمرة، كما يستدعي استغلال الانتخابات المقبلة للتنسيق مع المعتدلين وأنصار السلام ومواجهة الليكوديين. فالسلام العادل والشامل مع اسرائيل في ظل سيطرة المتطرفين والمتعصبين والارهابيين بعيد المنال... * كاتب وصحافي عربي.