تخبط الشارع الإسرائيلي وعدم يقينه ما يريده من عملية السلام أدى به لأن يأتي على رأس حكومته بالجنرال آرييل شارون، الذي يشكل تاريخه صورة مصغرة من تاريخ الجرائم الصهيونية التي ارتكبت في حق الشعب الفلسطيني. واعتقد هذا الشارع ان خيار الجنرال صاحب التاريخ الأسود وحده القادر على إرهاب المنطقة من جديد، وقادر على جلب "الأمن" لإسرائيل، وهو ما لم يستطع سلفه الجنرال ايهود باراك ان يستعيده. وبوصول شارون الى السلطة في إسرائيل بنسبة غير مسبوقة في التاريخ الإسرائيلي، يكون الشارع الإسرائيلي كمن أدخل ثوراً هائجاً الى محل للأواني الزجاج، ثور لا يمكن التنبؤ بحركته المقبلة، وبالتالي يمكنه خلط الأوراق بلا حساب في أي لحظة. يفتقد شارون وحكومته أي برنامج سياسي، ويعتقد ان "الأمن" هو الأولوية الثابتة في السياسة الإسرائيلية، اليوم وعلى المستوى الاستراتيجي، وعلى كل شيء ان يمر عبر بوابة الأمن. ويعتقد ان حكومته قادرة على إعادة الأوضاع في الأراضي الفلسطينية الى ما كانت قبل الانتفاضة، من خلال سياسة الأرض المحروقة التي يتبعها في الأراضي الفلسطينية. ويعتقد انه القادر على الإجابة الحاسمة عن الهاجس الأمني الذي يعانيه المجتمع الإسرائيلي وضمان الأمن الشخصي للإسرائيليين، ومن خلال إيلام الفلسطينيين بتدمير المناطق وتسويتها بالأرض تحت ذريعة انها مناطق تُطلق منها النيران على الجيش الإسرائيلي أو على المستوطنات الإسرائيلية، ومن الواضح انه يحاول استعادة تجربته غير المشرفة من تاريخ الجرائم التي ارتكبها اثناء خدمته في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، بتصعيد الأوضاع الى درجة غير مسبوقة، وصلت الى حد استخدام الطائرات الحربية من نوع اف 16. شارون كغيره من جنرالات اسرائيل اسير "النظرة الأمنية" المرضية التي تعانيها إسرائيل منذ قيامها، وليظهر حرصه المبالغ فيه على الأمن الإسرائيلي، لم يجد وسيلة لمواجهة الانتفاضة الفلسطينية سوى الاستخدام الأوسع للقوة العسكرية الإسرائيلية ولقوتها التدميرية من تلك التي استخدمها سلفه ايهود باراك، وحتى يدلل على انه رجل إسرائيل القوي، كان عليه ان يوزع تهديداته على الأطراف العرب الآخرين، فكانت تهديداته للبنان وقصف أراضيه، وتهديدات أخرى لسورية وقصف مواقع لجيشها في لبنان. كل ذلك على اعتبار ان العرب لا يفهمون بحسب منطق شارون واليمين الإسرائيلي سوى لغة القوة. ولتنتصر نظرته الأمنية يعتقد ان من غير الممكن التعامل مع الفلسطينيين المحتجين على الاحتلال إلا بصفتهم خطراً على إسرائيل، فعليه إسقاط اكبر عدد من الفلسطينيين، وقصف أوسع مناطق ممكنة وهدم اكبر عدد من المنازل وتسويتها جماعياً بالأرض. يحاول بذلك تجاوز ما يمكن القوة العسكرية ان تصنعه في السياسة، من خلال السلوك الوحشي لآلة الحرب الإسرائيلية. فهو يعتقد بالقدرة السحرية للسلاح لتنفيذ الأهداف السياسية، التي تقوم على الانتصار على شعب اعزل بآلة حربية ضخمة لتكرس الاحتلال ومصادرة حرية الشعب الفلسطيني. ولكن ما لم يتعلمه شارون من تجربته الشخصية، ومن تجربة إسرائيل مع القوة العسكرية، ان القوة العسكرية تستطيع ان تكسب معركة بعض الوقت، لكنها لا تستطيع ان تربح حرباً مع إرادة شعب، ولا تملك الوسائل لتدمير هذه الإرادة. كان شارون شخصياً مهندس الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وكان الهدف المعلن إبعاد قوات منظمة التحرير الفلسطينية عن الحدود الإسرائيلية مسافة 40 كلم. لكنه اصر على التوغل في لبنان وصولاً الى حصار مدينة بيروت الذي دام اكثر من ثلاثة أشهر، وتحول الهدف من إبعاد قوات منظمة التحرير الى تدمير البنية التحتية للمنظمة. وكان ان "انتصر" شارون بالمعنى العسكري الشكلي للكلمة، واستطاع إخراج القوات الفلسطينية من بيروت، لكن هذا "النصر" سرعان ما تحول هزيمة، إذ أوقع شارون إسرائيل في ورطة، ووجد الجيش الإسرائيلي نفسه يسبح في المستنقع اللبناني على مدى 18 عاماً من دون معرفة كيف يخرج منه. ومن أراد إبعادهم دخل بقدميه الى حدود اسلحتهم ومداها. وولّد هذا الاجتياح مقاومة لبنانية وطنية باسلة، استنزفت الجيش الإسرائيلي على مدى سنوات الاحتلال، ومرغت أنف هذا الجيش في التراب، وأعطت درساً ساطعاً بعدم قدرة السلاح، مهما كانت قوته على كسر إرادة الشعب. والدرس نفسه كان على الصعيد الفلسطيني. فالاجتياح الإسرائيلي للبنان الذي أدى الى خروج منظمة التحرير منه، لم يؤد الى موت المشروع الوطني الفلسطيني والحركة الوطنية الفلسطينية. ولم يقض على الإرادة الفلسطينية في بحثها المشروع عن حقها في وطنها حراً ومستقلاً، ولم يجعل الإرادة الفلسطينية تستسلم للعنجهية والصلف الإسرائيلي. فقد أدى تفاعل الاجتياح الإسرائيلي للبنان على الصعيد الفلسطيني الى انتقال ثقل العملية الكفاحية الفلسطينية الى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. وكان ان انفجرت الانتفاضة الفلسطينية الباسلة في وجه الاحتلال الإسرائيلي عام 1987 واستمرت سبعة أعوام، لم تستطع خلالها كل أدوات القمع الإسرائيلي من وقف الشعب عن المطالبة بحقه في الحرية والاستقلال. وبينت تلك الانتفاضة بوضوح الوجه الحقيقي لإسرائيل، وأعلنت في شكل مدو السقوط الأخلاقي للدولة التي تدعي انها "الديموقراطية" الوحيدة في المنطقة، وكشفت الوجه البشع للاحتلال الإسرائيلي والممارسات العنصرية السافرة. كان شارون احد الذين اختبروا القوة العسكرية الإسرائيلية. التي لم تستطع انجاز أهدافها السياسية. ولكن يبدو ان ذاكرة الجنرال تخونه مع التقدم في السن، ويعود الى الاعتقاد بقدرة السلاح على إنجاز ما لم تنجزه السياسة. لذلك لم يتوقف منذ حملته الانتخابية عن إطلاق التهديدات وعن تكرار القول ب"ضرورة وقف العنف قبل بدء المفاوضات"، ولكن المفاوضات على ماذا؟ بحسب وصفة شارون، المفاوضات على دولة فلسطينية في حدود 42 في المئة من الأراضي الفلسطينية، منزوعة السلاح، معزولة عن الخارج بإبقاء السيطرة الإسرائيلية على المعابر، وفضاء فلسطيني مفتوح للطيران الإسرائيلي، ونسيان قضايا القدس واللاجئين. هذه وصفة فاسدة لل"سلام". وبهذا الموضوع تخونه ذاكرته، ولكن هذه المرة لأشهر عدة مضت وليس لسنوات. فقد رفض الفلسطينيون في زمن سلفه عرضاً بأكثر من ضعفي ما يقدم، وهو كسلفه لا يريد أن يدرك ان الحقوق الوطنية الفلسطينية ليست معروضة في بازار السياسة الداخلية الإسرائيلية. يبني شارون متطلباته الأمنية على قاعدة ان إسرائيل في خطر يشكله الفلسطينيون، وحتى يتم التخلص منه، على إسرائيل ان تضرب بقوة وفي كل المواقع، فكان التدمير الواسع للمواقع الفلسطينية، وكان القصف الوحشي لقطاع غزة ونابلس وطولكرم وبقية المدن الفلسطينية. بذلك يعتمد شارون سياسة استباحة المناطق الفلسطينية واستباحة الأرواح الفلسطينية للوصول الى ردع امنية غير قادرة في كل الأحوال على كسر إرادة الشعب الفلسطيني. تحاول إسرائيل منذ زمن باراك وتستمر اليوم في رسم صورة لما يحدث على الأرض الفلسطينية وفي المنطقة على أساس ان هناك حرباً قائمة ضد إسرائيل، ترد عليها بالوسائل المناسبة، محاولة بذلك طمس حقيقة ما يحدث، من استمرار إسرائيل في احتلال الأراضي الفلسطينية، وأن لا حل لمشكلة الاحتلال إلا بالانسحاب من الأراضي المحتلة. أما إذا كانت كل دولة ستحتل أراضي الشعوب والدول الأخرى لدواعي حاجاتها الأمنية، فإن العالم سيتحول غابة. صفى العالم صيغة الاستعمار التي تدفع دولة الى احتلال دول وشعوب، لأنها تحتاج الى مواردها أو لضروراتها الأمنية أو حتى لتحديث هذه الدول والشعوب، وقد صُفيت الإيديولوجية الاستعمارية منذ عقود، ولم تعد اي تبريرات قادرة على تبرير حال الاحتلال والاستعمار. وحمل الاستعمار حقيبته ورحل من كل بلدان العالم منذ عقود، ولم تعد هناك مشكلة احتلال يصادر حرية شعب سوى في الأراضي الفلسطينية، وهو منطق ضد العدالة والتاريخ. يحاول شارون الوقوف في وجه التاريخ، ويعتقد انه قادر على تطويعه من خلال فوهة الدبابة، وهو ما فشل به قبل نحو عقدين من الزمن. ولأن لا يمكن إعادة عقارب الساعة الى الوراء، يجرب شارون سياسة إسرائيلية مجربة، كانت فشلت قبل عقدين في تحقيق أهدافها. وما أفشل تجربة شارون السابقة قادر على إفشال تجربته الحالية، ويضع حداً لعنجهية القوة العسكرية الإسرائيلية. حاول باراك فرض "السلام" الإسرائيلي من خلال التهديد، واليوم يحاول شارون فرض "سلامه" من فوهة المدفعية، وما يصنع بهذه الطريقة ليس السلام، إنما مشنقة السلام. فعندما تقرع طبول الحرب ويرقص شارون رقصته المفضلة، قد يحطم بعض الأواني الزجاج في المنطقة، لكنه لن يستطيع ان يدمر إرادات الشعوب، ولن تكون إسرائيل نفسها في منأى عن الدمار. فاطمة شعبان - فلسطينية مقيمة في دمشق.