نفي الدكتور عمرو موسى أن يكون "صدّامي الهوى" لا ينفي واقع أن الأهواء الصدامية هزت أوتاد الجامعة وقدرتها على اثبات نفسها كمنظمة اقليمية فاعلة، مثلما شلت "النظام العربي" الهش وجعلت العالم العربي بؤرة تناقضات يدرك الأمين العام قبل غيره صعوبة لملمتها. أما حرص موسى على الكويت وأمنها، فهو طبيعي ومطلوب، شرط أن يترافق مع حرص الجامعة على شعب العراق أولاً، أي على حقه، خصوصاً، في التخلص من حكم أخذ بلاده الى حربين عدوانيتين وأهدر ثرواتها وفتح الباب واسعاً أمام الوجود الأجنبي في المنطقة وأمام ضربة عسكرية يحمل موسى نفسه يافطة بذل الجهد لتجنب حصولها. وبغض النظر عن سجال النواب الكويتيين مع الأمين العام للجامعة على خلفية تلكؤ الأخيرة في ادانة فضيحة "اعتذار صدام"، فإن الكويت تستحق لفتة تقدير. ليس فقط لأنها توحدت حول قيادتها في رفض اعتذار هو أقبح من ذنب، بل أيضاً لأنها الدولة العربية الوحيدة التي لم تتردد في أن تتمثل في مؤتمر المعارضة العراقية في لندن، في حين فضلت سائر الدول وعلى رأسها "نظام" الجامعة دفن الرأس والنأي عن الحدث التاريخي، أو الانضمام الى "مربد" السياسة العربية المعقود لواؤه لعمرو موسى، حتى ولو كان ملهمه صدام حسين، وشاعره المباشر طارق عزيز، وعنوان قصيدته الملقاة في جموع "المتكسبين" في بغداد وثوقاً لا يرقى اليه الشك في "نصر الأمة على أعدائها". ليس الغياب العربي شبه الشامل عن مؤتمر المعارضة أمراً مستغرباً في سياق المواقف العربية التي تلت أحداث 11 أيلول سبتمبر. لكنه برهان على عجز الدول العربية وجامعتها عن مواكبة الأحداث الجسيمة وإصرارها على البقاء في هامش التطورات. وحدها الكويت شذّت عن هذه القاعدة. ذلك ان الغزو العراقي ربما حمل فائدة وحيدة، وهي أنه حرر بلداً عربياً، دولة وشعباً، من عقدة "الشارع العربي"، وأحلَّ أولوية المصالح الوطنية محل أوهام التضامن الأعمى، وأعاد الاعتبار الى العقل المتفاعل مع التطورات بدلاً من إطلاق الغرائز وتلقي الانعكاسات. وفي هذا الإطار ترتكب الجامعة العربية ودولها التي لا تنفك تتحدث عن ضرورة اعادة تركيب "نظام عربي" يحمي قضايا الأمة، خطأ استراتيجياً كبيراً في تجاهلها مؤتمر المعارضة العراقية وعدم استشرافها المتغيرات وحجز مقعد أمامي فيها. إذ ليس من المبالغة القول - إذا استثنينا واجب التحفظ - إن التغيير في العراق أصبح على مرمى حجر. وليس مؤتمر لندن الذي جمع شتات القوى المعارضة الرئيسية، على رغم عثراته، إلا إشارة انطلاق وطلقة البداية. فلا عقده في عاصمة الحليف الأول لواشنطن في حرب الارهاب يقلل من صدقية المجتمعين، ولا شموله بالرعاية الأميركية يؤذي نبل مقاصدهم. فالقوى المجتمعة عميقة الجذور في المجتمع العراقي ولا تحتاج الى شهادات في الوطنية من أنظمة تحابي نظام صدام أو من مثقفين وشعراء عرب هاجسهم الدفاع عن الديكتاتور بعدما ناصروا غزواته وصمتوا عن الكارثة التي حلت بشعبه. ليس سراً ان الدول العربية آخذة، كل على انفراد في تلمس طريقها لئلا تبقى على هامش الأحداث أو لئلا تصنف في خانة المعادين للحرب على الارهاب. بعضها يعقد اتفاقات علنية مع واشنطن، وبعضها الآخر يفضل الملامسة بالواسطة أو تحت الطاولات. ومن المؤسف أن يكون "النظام العربي" العزيز على قلب الجامعة قد تفكك في حضورها، ومقبلاً على اعادة التشكل في غيابها، أي في غياب موقف عربي جامع يُفترض بالجامعة صوغه بغية رعاية التغيير المقبل في العراق بدلاً من الإصرار على الانصياع وراء "الشارع" ومعاداة طموح شعب لن يغفر بسهولة لمن وقف في طريق خلاصه من المأساة. هل فات أوان المراجعة؟ ربما. ولكن أن تأتي متأخرة خير من ألا تأتي أبداً. لأنها حينذاك ستجعل الجامعة في ذيل الملتحقين بالركب وستسجل في قائمة المساهمين الأساسيين في تصديع بناء "النظام العربي". ويبدو ان على عمرو موسى الاختيار بين حق شعب العراق، ممثلاً بمعارضته، في الحرية والديموقراطية، وبين "هوى" الشارع و"مرابد" السياسة والشعر على وقع شعار "لماضينا نغني...".