حافظ :العديد من المنجزات والقفزات النوعية والتاريخية هذا العام    خطيب المسجد النبوي: يفرض على المسلم التزام قيم الصدق والحق والعدل في شؤونه كلها    "رفيعة محمد " تقنية الإنياغرام تستخدم كأداة فعالة لتحليل الشخصيات    رئيس جمهورية جامبيا يصل إلى المدينة المنورة    خطيب المسجد الحرام: أعظم مأمور هو توحيد الله تعالى وأعظم منهي هو الشرك بالله    المملكة تؤكد على أهمية استدامة الفضاء الخارجي وضمان استمرار الفوائد التكنولوجياته    تشكيل النصر المتوقع أمام الاتفاق    تراجع أسعار النفط إلى 73.62 دولارًا للبرميل    الجبير ل "الرياض": 18 مشروعا التي رصد لها 14 مليار ريال ستكون جاهزة في العام 2027    محافظ بيش يطلق برنامج "انتماء ونماء" الدعوي بالتزامن مع اليوم الوطني ال94    أمطار متوسطة على منطقة المدينة المنورة    محافظ حفرالباطن يرأس المجلس المحلي    الأخدود يتعادل سلبياً مع القادسية في دوري روشن للمحترفين    الأمم المتحدة تؤكد أنها نفذت خطط الاستجابة الإنسانية ل 245 مليون شخص    «الجيولوجيا»: 2,300 رخصة تعدينية.. ومضاعفة الإنفاق على الاستكشاف    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    وظيفةُ النَّقد السُّعودي    جمعية النشر.. بين تنظيم المهنة والمخالفات النظامية المحتملة    «المجنون» و«الحكومة» .. مين قدها    5 محاذير عند استخدام العلم السعودي    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    النصر وسكّة التائهين!    سوق المجلس التراثي بشقراء يواصل استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني 94    ماكرون: الحرب في لبنان «ليست حتمية».. وفرنسا تقف إلى جانب اللبنانيين    قصيدة بعصيدة    شرطة الرياض: القبض على مواطن لمساسه بالقيم الإسلامية    حروب بلا ضربة قاضية!    دراسات على تأثير غطاء الوجه على صحة الإناث..!    التزامات المقاولين    الذكاء الاصطناعي يقودني إلى قلب المملكة    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    قراءة في الخطاب الملكي    ديفيد رايا ينقذ أرسنال من الخسارة أمام أتلانتا    هدف متأخر من خيمينيز يمنح أتليتيكو مدريد على لايبزيغ    جوشوا ودوبوا يطلقان تصريحات التحدي    مصادرة صوت المدرجات    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    جازان: إحباط تهريب (210) كيلوجرامات من نبات القات المخدر    أمانة الطائف تكمل استعداداتها للإحتفاء باليوم الوطني 94    سَقَوْهُ حبًّا فألبسهم عزًّا    نائب أمير جازان يطلق البرنامج الدعوي "انتماء ونماء" المصاحب لليوم الوطني ال 94    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    نائب أمير منطقة جازان ينوه بمضامين الخطاب الملكي في افتتاح أعمال السنة الأولى من الدورة التاسعة لمجلس الشورى    فريق بحثي سعودي يطور تكنولوجيا تكشف الأمراض بمستشعرات دقيقة    أمطار متوسطة إلى غزيرة مصحوبة بالبرد وتؤدي لجريان السيول على 5 مناطق    المواطن عماد رؤية 2030    وفد من الخطوط السعودية يطمئن على صحة غانم    المهندس الغامدي مديرا للصيانة في "الصحة"    الأمير سعود بن مشعل يشهد اجتماع الوكلاء المساعدين للحقوق    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 7,922 رجل أمن من مدن التدريب بمناطق المملكة    تعزيز التحول الرقمي وتجربة المسافرين في مطارات دول "التعاون"    سلامة المرضى    هيئتا الأمر بالمعروف في بلجرشي والمخواة تفعّلان برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خلفيات حوادث سياتل وواشنطن : المعارضة الجديدة في الولايات المتحدة
نشر في الحياة يوم 14 - 06 - 2000

ثمة تحولات مهمة ومثيرة وراء التظاهرات التي حصلت حديثاً في واشنطن ضد بنك العالم World Bank، والصندوق الدولي International Monetury Fund، وقبلها في دافوس في سويسرا، ومدينة سياتل في غرب الولايات المتحدة ضد المؤسستين بالإضافة الى المنظمة العالمية للتجارة World Trade Organization. بيد أن سبر هذه التحولات يتطلب العودة الى حدثين بدآ في ثمانينات القرن الذي مضى أخيراً، في أول العقد وآخره.
انطلاقة الرأسمال العالمي الكبرى التي نشهدها اليوم بدأت بمجيء رونالد ريغان الى سدّة الرئاسة في الولايات المتحدة في بداية العام 1981. الحقيقة أن ريغان لم يمثل في الدرجة الأولى التيار الداعي الى تخطي عقدة الهزيمة في حرب فيتنام وإعادة الهيبة الأميركية الى المكانة التي فقدتها، لكنه مثل، من حيث يدري أو لا يدري، جماعة رجال أعمال أغنياء وأقوياء جداً ولاؤهم ليس لأي بلد على الاطلاق، بل للمال. وكان المطلوب من ريغان سنّ قوانين، وإلغاء قوانين أخرى، بحيث تكون النتيجة تسهيلات لا سابقة لها لكل ما يؤدي الى جمع الأموال سريعاً، من حريات تجارية شتى وضرب النقابات العمالية الى خفض الضرائب والفوائد وتهديد البلاد الضعيفة بالعقوبات إن رفضت الانصياع.
إثر هذه الإجراءات المختلفة، أصبح من الممكن أن تسيطر زمرة من أصحاب الأموال الكثيرة، قد يكون معظمها حُصل عليه بديون أزيلت عنها القيود بدورها، على شركات صناعية بغية الربح والبيع الفوري بغضّ النظر عما قد يحل بموظفين خدموا هذه الشركات بوفاء لسنين طويلة تصل أحياناً الى ثلاثين أو أربعين سنة ودورها الاجتماعي في مناطق وجودها. هذه الزمر عرفت باسم "غُزاة الشركات" Corporate raiders. فما لبث أن حُلّت شركة تلو الأخرى تحت طائل اموال وأطماع هؤلاء الغزاة، وانهارت مجتمعات عديدة متوسطة الحجم في أنحاء البلاد، وتشتت مئات الألوف من العمال الذين اضطروا للاسترزاق في قطاعات أخرى فرضت عليهم معاشات منخفضة وضمانات صحية تكاد تكون عديمة لرداءتها. أما مصير العمال الذين حاولوا المقاومة بواسطة نقاباتهم، مع العلم أن النقابات أضعف في الولايات المتحدة مما هي في أوروبا الغربية وكثير من بلدان "العالم الثالث"، فكان غالباً كالذي أصاب مراقبي النقل الجوي، فطردوا جميعاً من عملهم، وأغلقت أبواب العودة نهائياً، وجيء بطاقم جديد يفتقد الخبرة اللازمة، ودرّبوا سريعاً، وأخذوا وظائف المفصولين. خفض المعاشات وعرض شتى الشركات للبيع في السوق الحرة كأنها مجرد سلع اتّحد مع عناصر أخرى ليحصر الأرباح الطائلة بأيد قليلة. أرباح استقطبتها سوق الأسهم في نيويورك وغيرها، فبدأ الجنون الذي وصل ذروته في نهاية العام المنصرم، ومعه الاعتقاد السائد أن الطريق الأسلم لجلب المال ليس العمل، بل السهم.
الربح السريع يؤدي بدوره الى الصرف السريع. لذا رأينا تغييرات في التسويق، فزادت أهمية الأسماء البارزة في السيارات والساعات والثياب والأحذية والفنادق والمطاعم وغيرها، وانشغلت الأيادي حول العالم بصناعة الأشياء التي مجمل قيمها بالأسماء التي تحملها، مما شوّه الحياة الاقتصادية وأقصاها عن نمط معتدل عرفه العالم لمدة تناهز الخمسين سنة، بين انهيار عام 1929 وبداية عهد ريغان. فأين الاعتدال عندما يكسب لاعب في كرة السلة او كرة القدم أو ممثل سينمائي أو مضيف لبرنامج منوعات تلفزيوني عشرات الملايين من الدولارات سنوياً في حين أن المهندس المدني عندما يباشر حياته المهنية لا يختلف وضعه كثيراً عن جامع النفايات؟ وأين الاعتدال عندما يستطيع موظّف كبير للأموال أن يربح مبالغ ببضع دقائق تفوق بأضعاف ما يحصّله الكثيرون ممن يعملون بنشاط وذكاء ونزاهة مدى الحياة؟ وأين الاعتدال عندما يلعب مضارب وحيد بأسعار العملة باقتصاد بلاد بأكملها؟
هذا بعض ما أعقب تنفيذ برنامج رجال الأعمال المتسترين وراء شعبية رونالد ريغان وخطابه الحماسي وجاذبيته. الى ذلك، تجب الإشارة الى الانحلال الاخلاقي والروحاني الملازم للتسهيلات المالية. هذا موضوع طويل ومركّب لا مجال للخوض فيه بعمق هنا. ما يهمنا هو تحويل الولايات المتحدة الى سلسلة من الأماكن المتشابهة وإعطاء كل جديد صفة موقتة، وفرض ايقاعات غريبة على معظم العاملين كي "يتحرّر" الأميركي من كل ما يجذبه للمكان وخصوصيته. أصبح الانسان العامل في هذه البلاد تماماً كقطعة غيار، تُستبدل الواحدة بالأخرى ويؤتى بها من أي مكان. وأصبح المواطن هنا هائماً، دائم التنقل كالبدو، لكنه دونهم حساً وشعراً وتضامناً وتواصلاً مع الطبيعة. أصبح هائماً يتشرب الفراغ من التلفزيون والانترنت - أو هكذا أريد له أن يكون، تسهيلاً لتنقلات رأس المال العالمي الحر والسريع. وبقدر ما يقاوم الانسان بفطرته هذا المصير المظلم، تكون المعارضة لهذا التيار الجارف والجشع. لنستبقي هذه الفكرة ونحن نستعرض الحدث الأساسي الثاني الذي أوصلنا الى ما نحن عليه اليوم.
وانهيار الشيوعية في أوروبا وآسيا السوفياتية بين عامي 1989 و1991 أدى بدوره الى تغييرات كبيرة وخطيرة في الخريطة العالمية، وزاد من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والوجودية المحيقة بالانسان. ما ان حدث الانهيار الشيوعي حتى أصاب الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية غرور واستكبار لا مثيل لهما. صرنا نسمع، وللمرة الأولى أن النظام السياسي الوحيد الملائم للبشر أينما كانوا، ومهما كان تراثهم، هو الديموقراطية الليبرالية، والخيار الاقتصادي الوحيد هو الرأسمالية وتحرير السوق من أكبر عدد ممكن من القيود. وقرأنا مقالات بعناوين مثل "نهاية التاريخ"، وغيرها التي تدّعي النصر النهائي وكأننا أشرفنا على أبواب يوم القيامة عند جميع المِلل والنحَل. وإذا الإله الجامع هو السوق الحرة التي يصوت لها الناخبون حول العالم في صناديق للاقتراع اختزلت بها الديموقراطية. والسوق الحرة بدورها ما برحت أن كشفت لنا حقيقتها، وهي الإتاحة لسيطرة قِلّة من الغزاة الجدد عليها، وهم في عالم المال مثل جنكيز خان وتيمورلنك في اجتياحهما الرهيب لأراض شاسعة في أنحاء آسيا وشرقي أوروبا. فلم يكترث أحد للمآسي التي أصابت الملايين بعدما فرض الصندوق الدولي إلغاء شِباك الأمان الاجتماعية في بلدان عديدة، مما أدى الى التفقير الفوري لمعظم أعضاء الطبقة الوسطى. لقد رأيت بنفسي جامعية سابقة تعيش وتنام في شوارع مدينة صوفيا عاصمة بلغاريا ودلائل أخرى للبؤس والعوز - والمعروف انني لم أحبّذ الشيوعية في أي مرحلة من حياتي لأسباب كثيرة، ليس أقلها نفسيتها الحاقدة وإصرارها على الإلحاد.
الى ذلك، فُرضت إجراءات أخرى على دول العالم "الثالث" زادت من معاناة الفقراء، فدُفعت الحكومات المحلية الى سحب المعونات المالية التي ضمنت أسعاراً مخفوضة للوازم الحياة المادية، كالخبز والأدوية والنقل العمومي والمحروقات. كل ذلك من أجل ما سمّاه الغربيون "العَقْلَنة" Rationalization - فهيهات ما بين العقلنة التي يدعو اليها بعض العلمانيين في العالم العربي، بحسن نية ولكن بقصر نظر مع شيء من السطحية، و"العقلنة" التي تطل علينا من أبراج الصندوق الدولي العاجية ومثيلاتها في بنك العالم ووزارات المالية والاقتصاد في الغرب. والجدير بالذكر أن مصدر القرار الرئيسي ليس الصندوق ولا البنك، بل الحكومات المعنية، يتزعمها المسؤولون الأميركيون في واشنطن، وقد علمت بذلك مباشرة من أصدقاء لي يعملون في المؤسستين وقد وصفوا لي بدقة، على مدى سنين، كيف صنعت قرارات نُفّذت بالفعل. ومن الواضح أن انهيار الشيوعية ليس انتصاراً للحرية وحقوق الانسان، ولم يغدُ فرصة فريدة للعيش بكرامة والإبداع الثقافي كما تمنّينا، بل أضحى مدخلاً لعصر يدفع بالطموح الى بالوعة الطمع، ويهدد الإنسان بالسقوط الى مرتبة كيانية ليست جذورها في السماء. زالت المحاور التقليدية. زالت المحاور - فالحدود بين الأمم تتلاشى، والأحزاب أمست واهنة ومبتذلة، والقيادات الجديدة التي تبرز تُستقطب فوراً الى مدينة ملاهٍ اعلامية ليُبطل مفعول معارضتها، هذا إن فرضنا أنها معارضة جدّية أصلاً.
زالت المحاور - والانسان الذي تنحبس في سريرته صرخة المعارضة ضد المحاولة ل"سَلْعَنَتِهِ" أي لجعله سلعة والعدوان على جوهر انسانيته لم يعد يعلم أين يتوجه. أين الوسيلة للعمل بتضامن مع الغير؟ لا دولة تتبنى مُثله وأحلامه، لا حزب، لا جامعة.
الجواب يبدأ بسجية الإنسان ذاته. الإنسان ما برح إنساناً ما انفكّ حي الوجدان، لا تشبعه ولا يمكن أن تشبعه السلع مهما تنوعت وتقدمت، لا يقبل أن يُسَلَّع مهما ثابرت قوى "السَلْعَنَة" المتنكرة بعقلنة بالغة الزيف في قذفه في عدم متاهات السوق الحرة لاستعباده. هذه الفطرة والقريحة ميزة انسانية في كل مكان. وهي مهددة في كل مكان. الحياة الحلوة التي تملأها عشرة الأقرباء والأصدقاء والأحباء، حيث يتسع الوقت لينمو ويسرح الوجدان، مهددة في كل مكان. مهددة في البلاد العربية وفي الولايات المتحدة ذاتها على حد سواء، في فنلندا وفي السنغال، في روسيا والصين، في الهند وباكستان، في كل مكان. وأيّاً كان القطاع الذي يعمل فيه الإنسان فيمكنه أن يشعر برفض شديد للأمر الواقع. يمكن أن ينتمي الإنسان المعارض الى جهاز حكومي أو الى نقابة، يمكن أن يكون مسؤولاً في مؤسسة دولية، أو عاطلاً من العمل، يمكن أن يكون طالباً أو مدرّساً، يمكن أن يكون صاحب شركة صغيرة، أو مزارعاً، أو أجيراً يعمل في مزرعة.
هنا نلوّح أن المعارضة النامية ليست ضد الولايات المتحدة أو ضد أي بلاد أخرى، لأن الولايات المتحدة ذاتها وقعت في مصيدة المهيمنين على السوق الحرة. فالرئيس كلينتون، على رغم عيوبه الظاهرة، رجل يملك وعياً اجتماعياً، ويظن أن التسهيلات الاقتصادية وتوسيع مجالات التجارة والسوق الحرة سينعكسان إيجاباً على جلّ مواطني بلاده، ويجهل سلبيات اجراءاته تماماً. دخل لعبة الأرقام كغيره، إذ يتغنّى بازدهار اقتصادي مدعوم بإحصاءات مختلفة، ولا يلاحظ ما يحلّ بنوعية حياة أكثرية مواطنيه. كما بريطانيا من قبل، ابان الثورة الصناعية، أضحى الانسان في الولايات المتحدة ذاتها ضحية نجاحه المادي والتقني الباهر، وهناك من يعي ذلك، وهناك من بدأ يتحرك.
لنرسم المحور الجديد إذاً. هو خط يقطع كل المحاور التقليدية، إذ يقطع حدود الدول والمعسكرات وجميع القطاعات تقريباً. إننا على أبواب معركة تكاد تكون دولية، وهي معركة من أجل الحفاظ على جوهر الانسان والأرض المدهشة التي أهداه إياها كائن الكيان. هي مقاومة متشعبة، مركبة، واسعة الانتشار، صارمة برفضها للسلعنة واللامعنى.
والمشاركون في هذه المقاومة يعون تاريخ المقاومات والمعارضات، يعون لا جدوى العنف والتنظيم الهرمي والقيادات البارزة والتعبئة التي تقتل الانسان، لأن مفهوم التعبئة يناسب الآلات والمصانع، ولا يليق بكائن كُتب له أن يكون حرّاً فريد الشخصية. التعبئة، التعبئة الوطنية والثورية، هي ما أدى بالانسان الى السلعنة، ثم الى الانصياع لفكر اللامعنى عندما اتضح فراغ الفكر القومي الحديث والعمل الثوري. الانسان لم يُخلق للتعبئة، بل للوجود المليء الحر. التعبئة قد تبدو صالحة للجماعة، لكنها جماعة بالأرقام فاقدة لروح الجماعة. المجتمع السليم هو عشرة حرة بين أحرار، وليس آلة يهندسها علماء الاجتماع.
المعارضون يتحركون بطريقة جديدة، ذكية، خلاقة. يستخدمون التكنولوجيا الحديثة لتكوين وحدات مستقلة تتجمع وتتفرق بعضوية مستوحاة من علم البيولوجيا. لا مركزية سياسية وتنظيمية، وتركيز على الهدف. يجرون اجتماعات خارج المدن الكبيرة، أو في مبان متواضعة في المدن من الصعب ملاحظتها. يثقفون جمهورهم ويخبرونهم عن سلبيات العولمة والسياسة النقدية السائدة والاجراءات الاقتصادية التي تنفذها وترسخها. هم غالباً من الأجيال الطالعة، جامعيون متفوقون ما لبث أن أنّبهم ضميرهم عندما علموا بما يقاسيه الكثر من البشر، في الولايات المتحدة وفي الخارج. ضمائرهم ما برحت حية، وكذلك مثلهم وإحساسهم أنه لا يجوز للمال أن يطمر الرحمة والتعاطف والأخلاق. درسوا الأفلام الوثائقية وقرأوا الكتب التي روت أحداث الستينات في القرن الماضي: تظاهرات وإضرابات واضطرابات من أجل محاربة تحويل الولايات المتحدة الى مصنع ضخم لا يهمه إلا الأرقام المتعلقة بالانتاج، أي تماماً كالاتحاد السوفياتي من هذه الناحية، وأخطر منه، لأنه يجيّر الناس لقبول أدوار لا إنسانية وهم أحرار - أو هكذا يظنون. لكنها حركة تلهت عن الهدف أثناء حرب فيتنام، وكان لذلك مبررات واضحة إذ واجه معظم المعارضين شبح التجنيد الإجباري لحرب وحشية وعبثية. ثم تعرضت الحركة لضربات قوية وأخيراً قاضية من أجهزة الدولة التي عرفت نقاط ضعف الطلاب والشباب المتمردين فأخافتهم من المستقبل. وقد أدى بروز زعماء التمرد في الستينات وظهورهم مراراً على شاشات التلفزة الى سهولة النيل منهم. أما اليوم، فإن سأل سائل عن زعامة المعارضة الحالية، فلا أحد يجيب. لا زعماء. فقط قضايا. وشباب وشابات أذكياء، ملتزمون، مثاليون، يعيشون بتقشف ويتخلون حتى عن النوم لأيام متتالية، يتصلون مع بعضهم بعضاً من المحيط الى المحيط، لا يربطهم إلا وحدة المصير، ولا يريدون إلا التصدي لجرّافة المادية واللامعنى.
هكذا نجحت المعارضة في منع المشرفين على العولمة المادية العبثية من الاجتماع في سياتل. خمسون ألفاً كانوا، في وحدات مَرِنَة، في حوزتهم خريطة لوسط البلدة، يتبعون خطة عبقرية ابتكرت عفوياً في المنازل وفي أماكن عمل صغيرة. وإذا بالوحدات تشكل حلقة مقفلة حول أماكن الاجتماع، مقفلة لكن دائمة الحركة، يتغيّر شكل الحلقة باستمرار والوحدات تنتقل من شارع الى آخر من دون فك الحصار للحظة. لم تواجه الشرطة هكذا فطنة وحيوية في تاريخها، وكلما زاد شعورها بالإحباط، كلما ردت بعنف أكثر - الى أن قذفت القنابل المسيلة للدموع وانهالت الهراوات على الأبرياء... بعد فوات الأوان. فقد سمع الجميع بأحداث سياتل، وعُلم أنه يوجد حركة مناهضة لعولمة يخشاها الكثر، وبحق. كان العنف دليلاً على إفلاس الحجة عند المشرفين على العولمة، وانكشف أن دعامتهم الوحيدة هي قوتهم المادية.
ليست أول مرة نشاهد فيها معركة بين المادة والمعنى. وتاريخ الانسان يجوز فهمه كحركة مدّ وجزر مستمرة بين المادة والمعنى: يجوع فيهرع الى المادة، ثم يطمع ويفقد المعنى، فيتوق الى المعنى، فيتزمت بمفهومه للمعنى ويفرض نظرته المتزمتة على الآخرين، ثم يجوع ثانية. ويفوت الانسان في معظم الأزمنة الاعتدال القائل بأهمية المادة والمعنى والمستحسن بعدم الإفراط بإحديهما ولئن كان من الضروري الإفراط بالمعنى الى حد ما في يومنا هذا، فلأننا نعيش في جو من الإفراط بالمادة. لماذا الفشل النسبي للتظاهرة الأخيرة في واشنطن، إذاً؟ خطأ استراتيجي! فالاجتماع في واشنطن كان محصوراً بالصندوق الدولي وبنك العالم، ولم يضم منظمة التجارة العالمية. لذلك لم يستقطب الحماسة التي اصطحبها والمناهضة لاجتماعات سياتل. وصفوف الشرطة الطويلة في كل مكان لعلها أكبر دليل الى أهمية ما يقوم به المعارضون الجدد. هنا أنوه أن كلمة "معارضة" فُرّغت من جل مدلولها في التعاطي المعاصر بين الأحزاب التقليدية، ففي الولايات المتحدة، لا فرق بين الجمهوريين والديموقراطيين، بين بوش الابن وغور، إلا في السطحيات. من يبحث عن المعارضة هنا لن يجدها في السياسة الكلاسيكية، بل في ما يتجلى بحركات كثيرة كالتي شهدناها أخيراً في التظاهرات. السؤال يبقى: من هم المعارضون، وعلامَ يقاومون؟
التسهيلات الاقتصادية والمالية حول العالم، وانهيار المحورية السياسية التقليدية بعد سقوط معظم الأنظمة الى درجة من الهيمنة لا سابقة لها. حتى شيء بسيط جداً كفنجان القهوة أوشكت أن تحتكره شركة وحيدة هي "ستارباكس". وهذا الاحتكار يتم على حساب مزارعي شجر القهوة، ومنتجي البن، وأصحاب المقاهي الصغيرة الجميلة والحميمة أحياناً والعاملين لديهم. وقد عُلم أخيراً أن الضغوط لتحديد سعر البن من قِبل الدول القوية والغنية يؤدي بالعاملين في مزارع شجر القهوة الى حافة الجوع، وجميعهم كما نعلم في العالم "الثالث"، من أميركا الجنوبية الى افريقيا واليمن الى جنوب شرقي آسيا. فما لبث أن ركز المتظاهرون اهتمامهم على "ستارباكس"، وأجبروها أخيراً على التعهد بشراء البن بأسعار عادلة للمنتجين الشعار الجديد هو "تجارة عادلة، ليس تجارة حرة" Fair trade, not free trade. والمصير ذاته كان من نصيب الشركة المحتكرة لصناعة الأحذية للرياضة Nike التي انكشف استغلالها لليد العاملة في بلدان عديدة، إذ فرضت على موظفيها ساعات عمل طويلة لأجور مخفوضة جداً في بيئة عمل مشينة من دون أي ضمان اجتماعي في أماكن تسمى Sweatshops في الانكليزية أي "مخازن التعرُّق". أما شركة "كوكا كولا"، فظهر أنها ضغطت بالرشوة وبالتهديد أحياناً على متاجر كثيرة في أوروبا كي تبرز منتجاتها على الرفوف على حساب شركات أخرى، كما أنها فكرت جدياً بإجراء تعديلات على براداتها بحيث تضع فيها ميزاناً للحرارة يزيد السُّعَرَ أوتوماتيكياً عندما يمسي الجو حاراً! شركة "ماكدونالدز" المحتكرة هي الأخرى لسلعة بسيطة هي "الهامبرغر" أثارت المهتمين بمسائل الصحة لأنها استخدمت الزيوت المؤذية في قلي البطاطا وأضافت كميات كبيرة من السكر على طحينها بهدف إدمان الأطفال والمراهقين على نكهتها. شركة "مايكروسوفت" بدورها أمنت سيطرتها على سوق المعدات لبرامج الكومبيوتر Software من خلال قهرها لجميع المنافسين بأساليب غير قانونية وعديمة الأخلاق، ما أدى الى فرض عقوبات صارمة عليها من قبل الحكومة الاميركية ذاتها، والداعمة للشركات الكبيرة في معظم الأحوال.
أما من الناحية الثقافية، بدأت هذه الشركات المشهورة، وجميعها انطلق من الولايات المتحدة، تمثل نوعاً من الرتابة. فالثقافات المحلية تتراجع أمام هذا الاجتياح، أمام السهل والسطحي الذي يؤثره الصغار ويبقى تأثيره فيهم عند مباشرتهم للعمل فيما تتضاءل فسحات أوقات فراغهم وهم يتسارعون للاقتناء ويحلمون بالثروات التي تلوح أمامهم على شاشات التلفزيون. لذلك تثار حفيظة الحريصين على فرادة المكان وثقافته وتقاليده، فنشاهد تحطيم "الماكدونالدز" من فرنسا الى روسيا، وعلى مستوى أرفع تجرى محاولات من قِبل الحكومات لحماية الصناعات المحلية، من السينما الى المأكولات، والمعالم التي تدل على الهوية والتراث. والهدف وقف اجتياح انطلق جغرافياً من أميركا الشمالية، لكنه يبدو وكأنه خال من أي مدلول مكاني معين، كأنه نزل علينا من كوكب آخر، ميزته أنه يختزل سائر الموجودات بالأشكال الباهتة والأرقام.
قلنا سابقاً أنه يجوز رسم المحور الجديد بخط يقطع كل المحاور التقليدية، وها نحن نرسمه الآن. المعارضون هم المتضررون في كل مكان من الاحتكار والاستغلال الاقتصادي، ومن الرتابة الثقافية، ومن الاستهانة بالصحة والبيئة، ومن الاعتداء على أنماط معينة للحياة أثبت الزمن على صلاحيتها للانسان. وهم أصحاب الضمائر الحية في كل مكان الذين يقومون عن مبدأ في وجه هذه التحولات ولا يكترثون لمصالحهم المادية. إذاً نجدهم في الولايات المتحدة في قطاعات عديدة، فهم من الجامعيين والنقابيين والأقليات المهاجرة المستغَلّة وحتى بين الموظفين الحكوميين كالذين يشرفون على وضع حد لتجاوزات شركة "مايكروسوفت". ونجدهم في الخارج أيضاً بين الجامعيين والنقابيين، وبين العمال المحتكَرين ونخب ثقافية ترمي الى الحفاظ على التراث المحلي. ونجدهم بين المتعاطفين مع الذين شُردوا من منازلهم في البلدان التي فرضت عليها "عقلنة" اقتصادية، ومع الذين فقدوا أرزاقهم وأراضيهم تحت وطأة مشاريع "تنمية" تبنّاها بنك العالم بدعم من الغرب. وأخيراً نجدهم بين الداعين الى الحفاظ على البيئة، من الأحزاب "الخضراء" في أوروبا الى منظمات مثل "السلام الأخضر" Green peace.
التحليل الطبقي الماركسي لن يفيد هنا. لقد ولّى، وأنا لم أظنه صائباً حتى في الماضي، فهو لا ينطبق إلا جزئياً على المجتمعات الصناعية في طورها الأول. أما الآن، فما يجب البحث عنه هو المبدأ والقضية. مثال ذلك، الحفاظ على التراث المحلي قضية تعلو فوق الولاءات الحزبية والانتماءات الطبقية، وتتعدى الحدود القومية. الخطر المحدق بالفرادة ينتشر في كل مكان، ومحاربته لا تتطلب الا قليلاً من الاحساس والشهامة. الانسان لا يحتاج الا لرواسب وأصداء انسانيته كي يقوم حفاظاً على الأجواء التي تصونها. النضال للانسانية قضية تجمع البشر بتناغم تلقائي، من دون أحزاب ومنظمات، ومن دون ذهنية تعبئة كادت أن تقتل الانسان. لذلك نرى أن النقابيين في الولايات المتحدة يتحالفون مع الطلاب الثائرين بينما كانوا يكرهونهم في الماضي، لأن النقابي الأميركي متعصب لبلاده وكان يرى في معارضة الطلاب للمؤسسات التي يقدسها أيادي إبليس "الحمراء"! لكنه أيقن الآن أن هناك قضية تتعدى العصبيات القومية تجمعه مع الشباب، وأن المسؤولين عن المؤسسات التي ما زال يقدسها يخونونها. الحركة الجديدة بعيدة جداً عن تحليلات علماء السياسة والاجتماع الواهنة لأنها لا تطلب إلا شيئاً واحداً، بسيطاً، شفافاً، غير قابل للتجريد. الحركة الجديدة لا تطلب إلا أن يظل الانسان إنساناً.
* كاتب وأكاديمي لبناني مقيم في واشنطن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.