يوم الثلثاء الماضي 3 كانون الأول ديسمبر نشر الدكتور ادوارد سعيد في هذا المكان مقالاً تناول فيه موقف ورؤية مثقف عراقي هو كنعان مكية من الأحداث الجارية في العراق. ولقد حزنت عندما قرأت ذلك المقال لسببين رئيسين، أولهما أن ادوارد سعيد قد أوجد لنفسه اسماً لدى القارئ العربي، على انه مدافع حقيقي عن الظلم و الطغيان، كما هو ظاهر في كتاباته ضد الصلف الإسرائيلي، فسقط في الدفاع عنه. والسبب الثاني أن اللغة التي استخدمها سعيد لغة بالغة القسوة وغير موضوعية وأنا انتقي كلمات توصيفية مخففة فأصبح سعيد غير بعيد عن مهاترات العوام، وقد فوجئت بلغة الخطاب الذي تبناه سعيد في نقده غير المنصف لمكيّة، حتى وصل معه الأمر، من بين اتهامات أخرى، إلى القول إن من مثالب مكية انه لم يكتب باللغة العربية! بصرف النظر عن الذاتي هنا إلا أن كتابات ادوارد سعيد وربما غيره في الشأن العراقي تدل دلالة كبيرة إلى صحة المثل القائل "إن الذي يده في الماء غير الذي يده في النار"، فإدوارد سعيد غاطس في مجتمع يقدم ويضمن أوفر الحريات، ومكية عندما أراد تعرية النظام الذي هرب منه بجلده اضطر أن يختار اسماً مستعاراً لكتابه "جمهورية الخوف" اتقاء لقتل محقق في المنفى! ولعل بعض التفسير لموقف ادوارد سعيد يكمن جزئياً في السيرة الذاتية لإدوارد نفسه، فهو يتحدث في تلك السيرة عن "وقوعه بين ثقافتين" ثقافة غربية وثقافة شرقية، وهي ظاهرة تماثل ظاهرة الوقوع "بين دينين"، فهناك من المثقفين العرب الذين وقعوا بين ثقافتين مَن يتصورون أن الدفاع عن الثقافة العربية هي دفاع عن الواقع المعاش، بكل خطاياه وأهواله، من دون أن يختبروا هم أنفسهم بؤس هذا الواقع وتعثره وظلامه، وكذلك فشله الذريع في تقديم حد أدنى مما يطالب به الإنسان اليوم. والوقوع بين ثقافتين كالوقوع "بين دينين"، فبعض المثقفين العرب وهو في دفاعه الحماسي عن الهوية التي يود أن يكون جزءاً منها، لا ينظر إلى ما فعله المسلمون المحدثون بالإسلام نفسه. وأتحدث هنا عن صديق ومثقف عربي عالي الثقافة، قال لي مرة، لو كنت مسلماً لكتبت بأكثر نقداً مما هو متوافر عن ممارسات المسلمين اليوم، إلا أن ديانته تمنعه من ذلك لئلا يفسر موقفه تفسيراً لا يحبه ولا يرضاه، وهناك آخرون، كي يظهروا بمظهر مختلف، أو لأنهم يعتقدون بأن هذا ما يدقدق عواطف العامة، فإنهم يكيلون المديح لممارسات بعض المسلمين، وهي في نظر أي عاقل تتصل بالعصبية الضيقة على أقل تقدير، بل انهم يعتقدون بأنهم يدافعون عن الإسلام، وهم في الحقيقة يضروّن الاثنين الإسلام والمسلمين في الوقت نفسه. الواضح أن بعض المثقفين العرب يريد أن يصبح ملكياً أكثر من الملك نفسه، ففي نقد ادوارد سعيد لكنعان مكيّة لا يلحظ الفرق الواضح لكل عين، عدا أن تكون عيناً ناقدة مثله، بين ما يتمتع به من حريات في بلده الذي اختاره، الولاياتالمتحدة، وبين ما يعانيه الفرد العراقي من عذاب يومي، ليس معيشياً فقط، ولكنه إنساني أيضاً وهو الأهم. ففي الوقت الذي يستطيع سعيد أن يكتب ما يريد ويبحث وينشر ما يريد وهو قرير العين، لا يسأله أحد ولا يلاحقه، بل تضيف كتاباته تلك الى موقعه كمفكر وكاتب إضافات جديدة، يعاني شخص مثل مكية، وهو هنا رمز للمفكر والناقد والكاتب العراقي، عقبات دونها العذاب نفسه في العراق، من أجل أن يقرأ ما يريد، عدا أن يكتب ما يريد، ولعل ادوارد سعيد لا يعلم بعد أن عقوبة الإعدام تنتظر من يوجد في بيته جهاز فاكس صغير يتلقى عليه بعض الأوراق، أو ربما لا يعلم بعد أن كل حرف يكتب في بغداد يجب أن يمر على الرقيب، ربما أن سعيد نفسه لم يلتق بمثقفين عراقيين يشرحون له ما يلاقيه المثقف أو الفنان أو الكاتب المستقل في العراق من عنت، قدم فيه عدد وافر منهم حياته وبقي آخرون في السجون والمعتقلات، إلى درجة أن التعذيب والقتل الذي تم في العراق في العقود الأخيرة يهزأ بهما في قبره كل من المرحوم صلاح نصر أو محمد أوفقير! ممارسات النظام العراقي لم تعد مخبئة بين القبور وطي النفوس، لقد أصبحت في الفضاء الثقافي العالمي واضحة لا تحتاج إلى إيضاح آخر، وعندما ينقد سعيد مكيّة كمثال للمواطن العراقي الذي ضاق به وطنه فلجأ إلى الآخرين للمساعدة، فإنه يتحدث عن ثلاثة ملايين عراقي أو أكثر ضاق بهم وطنهم، وهم الآن في الشتات والمنافي، لا يعرف عذابهم إلا من شاهده وعرفه، إنها هجرة قسرية تشبه في بعض وجوهها إلى حد كبير، تهجير الصهيونية للفلسطينيين، عدا أن ذلك تم بقوة خارجية، وهذا تم بحكم داخلي، ولعل سعيد وغيره من الكتّاب الواقعين في الشق الضيق للثقافات والأديان نسوا في خضم ذلك الدفاع غير المبرر، القول العربي القديم ان "ظلم ذوى القربى أشد مضاضة". فإن يشتكي ادوارد سعيد ونشتكي معه من ظلم الصهيونية على إخوة لنا في فلسطين، لا يعني أن نتغاضى عن ظلم ذوي القربى الفظيع وغير النهائي والبشع، فلا يوجد مبرر أخلاقي ولا سياسي يمنع أن يحاول العراقيون جهدهم التخلص من هذا النظام وبصرف النظر عن القوى المساعدة. فحكم الظلمة زائل، تعلمنا ذلك من التاريخ الإنساني. وان يقف ادوارد سعيد بثقافته، معطياً رخصاً ولو من بعيد لمثل هذا النظام، فهو يقع في إشكالين: إما انه لا يعرف، وتلك الأخف والأقرب تفسيراً، أو أنه يبرر ذلك الظلم بسبب عقدة "الثقافتين"، وهو أمر يُخرج سعيد عن مسار إنساني تمنيناه له. لا يوجد دافع أخلاقي أو مبرر أيديولوجي لإدوارد سعيد كي يقسو على كنعان مكية هذه القسوة في النقد غير الموضوعي، وقد يستفيد من ذلك النظام العراقي، ولن أجد غرابة بأن يُعيد النظام في نشراته ذلك المقال أكثر من مرة ويوزع نسخاً منه على منتسبيه، ليعلمهم أن واحداً بموقع ادوارد سعيد يقف مع الجلاد ضد الضحية. وأقرب الظن أن سعيد نفسه قد لا يعرف أن ذلك يساهم في تقديم ورقة مساعدة للبروباغندا العراقية المستميتة لصوت واحد. وقد لا يعرف سعيد أن حكم القانون منتفٍ إلى العظم في العراق اليوم، وان الفساد المالي والإداري على أوسع نطاق، وان العائلة الحاكمة في بغداد تغوص إلى أذنيها في البذخ، فهم يصطادون البط بالقنابل اليدوية كما يصطادون الناس. قدرنا من المسؤولية أن نقف مع الشعب العراقي وأن نقف مع كل صوت يريد التغيير في العراق، أما شجب هذه المحاولات وتلطيخ بعض الأسماء المجتهدة في مسيرة التغيير بحجة التعاون مع الولاياتالمتحدة، فيذكرني بقصة بياع السمك في سوق السمك في عدن، عندما سأله رفيقي عن ثمن كيلو السمك قال ثمانية ريالات، فقال، ولكنه أيام الانكليز كان فقط بريالين، رد البائع بفلسفة شعبية عميقة: احضر الانكليز وخذ الكيلو بنصف ريال! أن نقول إن اصل البلاء هم الآخرون، الانكليز أو الفرنسيون أو الآن الأميركيون، فهذه فرضية تنزع المسؤولية عنا، وتضعها على كاهل الآخرين، وهو أمر قد يساهم فيه حتى ادوارد سعيد، الذي يفترض أن له فضاء من الحرية والحركة هناك في مكانه في جامعة كولومبيا تمكنه من أن يعطي توصيفاً حقيقياً للمشكلات التي يدرسها، فلديه الفضاء و لديه المنهج، إلا أنها البحث عن الشعبوية، لعنها الله، المتبقية من ثقافته الشعبية الشرقية، وعشق السير مع أفكار العوام، وهي سقطة مع الأسف ليست الأولى. * كاتب كويتي.