غالباً ما يدور الكلام عن أدب "المنفى" العراقي، عن شعراء هذا المنفى وعن روائييه، حتى أصبح من الممكن تصنيف ذلك الأدب كما لو أنّه نتاج قائم بذاته. أما أدب "الداخل" العراقي فهو قليلاً ما يحظى بالمتابعة النقدية أو المواكبة الإعلامية، نظراً إلى حال الحصار التي يعيشها خارجياً وداخلياً... علماً ان أصواتاً كثيرة في الداخل لا تقلّ أهمية عن الأصوات الأخرى في الخارج، لكنّ ابتعادها من الأضواء وإغراقها في الصمت وانقطاعها عن النشر في العواصم العربية ساهمت كلّها في عزلها عربياً. ماذا عن الأدب العراقي في الداخل؟ هذا السؤال تحاول "الحياة" ان تجيب عليه عبر هذه المقالات التي تتناول ثلاثة نماذج، رواية وشعراً، تمثل بعض التمثيل حال الأدب العراقي المحاصر. ولعلّ هذه المقاربة تبدو أفضل طريقة للدخول الى عالم أدب الحصار الذي يحتاج الى المتابعة الدقيقة نظراً إلى واقعه المضطرب وأحواله المختلطة. "عندما ينام العقل، تستيقظ الوحوش" بعبارة الفنان الإسباني غويا هذه، يفتتح القاص والروائي العراقي محمد خضير رواية جديدة في عنوان "كراسة كانون" دار الشؤون الثقافية، بغداد. وخضير المعروف، عبر مجموعتيه الشهيرتين "المملكة السوداء" و"الدرجة 45 تحت الصفر"، كاتباً للقصة أكثر منه للرواية، يكتب هنا رواية تجريبية يمكن وصفها باللارواية. فهي من حيث "التجنيس"، ومن حيث بنيتها، لا تنتمي إلا إلى ذاتها. فالكراسة، من جهة، نص يجمع البحث الجمالي والقراءة التحليلية لأعمال تشكيلية، إلى السرد والتذكر والتداعي، ومن جهة ثانية فهي عمل تتداخل فيه الوقائع التاريخية القريبة والمعاصرة، مع وقائع تاريخ سومري قديم عاشته مدينة البصرة، أو تخيل الكاتب أنها عاشته من خلال الكاتب السومري دودو. والبصرة هي العالم الأثير لدى خضير، ولنتذكر كتابه الأهم "بصرياثا"! منذ البدء، يضعنا المؤلف أمام السيرة الكاملة لكراسته، بدءاً من شروعه، في شهر كانون الثاني يناير من عام 1991 أي عشية القصف الأميركي للعراق، في تخطيط الوجوه الستة التي تتكون منها، مروراً بتعريفنا على محتويات الكراسة، وهي عبارة عن "تخطيطات مرسومة في ليالي التعتيم التي أعقبت الهجوم الجوي"، وصولاً إلى الذكرى العاشرة، وظهور أطفال العراق الذين ولدوا في ذلك الهجوم، وقد احتشدوا في قطار يفترض أن يعبر بهم قرناً جديداً. ففي الدقيقة الأولى التي تلي منتصف الليلة الأخيرة من كانون الأول ديسمبر عام 2000، سيزيد عمر كل طفل مئة عام، وسيبدون لمن يستقبلهم في محطة القرن المقبل عجائز وشيوخاً تقوست ظهورهم. أما المستقبلون في المحطة فسيبدون لعجائز القطار أطفالاً أعمارهم ساعات قليلة. هي رواية بلا مركز محدد، وعملية التأليف والتركيب هي الحدث الأساس. فيها يرسم المؤلف صورة المكان، ساحة "ذات الأثافي" و"تل الخفاش" في مدينة انتسخت من ذاكرة المدن السومرية، مركبة من خيال بيكاسو المكعب وحلم غويا العقلي المتعدد السطوح. مكعب بانورامي لمدينة عراقية: شخصيات، بفوانيس وعباءات سود، تشارك المؤلف/ الراوي حلمه، ويشاركها هو الحياة على مكعب أحلامها المتقلب في تخطيطاته. ولرسم معالم مدينته، يأخذ خضير من المدن القديمة أشكال بواباتها، أسوارها المخندقة، قلاعها المشرفة عليها من التلال. ومن رسم قديم لمنارة "سوق الغزل" التي تحلق حول قمتها الطيور، يستعير شكلاً لبرج اتصالات، حوّله حلمٌ عقلي إلى جمجمة إنصات وإنذار ولغز محير. وحتى يصل "البحث" إلى ما هو عليه، فهو يجتاز كراسات غويا وبيكاسو وهنري مور وتخطيطاتهم، يلقي عليها نظرات الروح المحاصر، والجمال المنتهك، والضمير الجريح، خصوصاً الدفترين الأخيرين لبيكاسو اللذين يضمان سلسلة تخطيطات "الرسام وموديله"، حيث الكتابة الشابة تتسلم القناع من الرسم الشائخ. والغاية من استعارة هذه الأعمال تبيين نقاط لقاء الرؤية معها. إن المستويات المتراكبة والمتداخلة، ما بين اللوحة والكتابة، وهي تذكرنا بأسلوب الكولاج في غورنيكا بيكاسو وبين شخوص الواقع الشبحيين وشخوص التاريخ والفن، وتقطيع النص إلى اثني عشر مقطعاً، تضعنا أمام نص تجريبي بامتياز، نص عابر للأنواع بحسب تعبير إدوار الخراط، حيث في مقابل ما دعاه الخراط ب"القصة - القصيدة"، نجد هنا "الرواية - اللوحة". وهذا نمط من التجريب غير المجاني، بل التجريب بحثاً عن معنى لما جرى، وبحثاً عن الحقيقة أيضاً! فالرسم "ليس هو الحقيقة" كما يقول الراوي/ المؤلف، إلا أن الرسم، والفن عموماً، "شاعرية تسمح لنا بالتقرب إلى الحقيقة". ففي نص "ليلة الديكة"، يرسم خضير لوحة سوداء ساخرة، حين يستحضر كوميديا "السحب" للكاتب اليوناني أريستوفان، التي سخر بها من سوفسطائية سقراط، ويتذكر ديكة مقهى في البصرة، وديكة من عرض سينمائي في الهندوراس، ليقيم منها جميعاً جدلاً روائياً معرفياً في "كوميديات كانون"، في أول ليلة من ليالي الهجوم الجوي. وفي استعارة حلم غويا/ كابوسه مع وعاء الحساء والجرذ، يصور خضير حواراً بين غويا الذي سقط في حفرة، وجرذ يعرض إنقاذه، في مقابل ثمن، فيعرض الفنان رسم الجرذ في صورة "تخلدك بين أبناء جنسك"، لكن الجرذ "يعتقد" أن شهرة الصورة تضع صاحبها أمام أعدائه، فلا يستطيع التخفي عنهم، ويفضل الظهور في أحلام غويا، بعيداً من الضوء؟ ومثلما يعود المؤلف إلى سومر في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، يعود إلى أزمنة وأماكن متعددة، فنراه يطرح الصراع بين "حضارة" الطائرة والمدفع والآليات المقبلة من العصور الجليدية المستقبلية، متمثلة في عاصفة الصحراء، وبين حضارة الصحراء، حيث الزوابع الرملية في ناقوسي الساعة تطمر، عاماً بعد عام، تلك الآليات. حضارة عمرها آلاف السنين في مقابل حضارة تقوم على القوة والتطور، وتخاطرات متقاطعة بين عين دودو وعين الحاسوب العائم في الخليج، فلمن الغلبة؟ هذا سؤال من أسئلة الرواية. ومن هنا يعود إلى زمن المعلقات، فيرى قصيدة جاهلية معلقة على جدار دبابة أميركية. ثم نراه يعود إلى "ميزوبتاميا"، المدينة أو البلاد "المستريحة على جفن العين الزرقاء ليمامة حرة.."، وهو اسم لم تعرفه - بحسب علمنا - الرواية العراقية الحديثة. وباللجوء إلى خياله العلمي، يرسم خضير، في محطة القرن الحادي والعشرين، ساعات تخلو من عقارب الوقت وأرقامه، وقطاراً لا يحمل أرقاماً أو شارات تدل إلى نقطة انطلاقه أو الناحية التي يتوجه إليها، فيما يندفع في ذاكرة الزمان المغبرة. وفيها محطات لضخ الحليب مكان محطات ضخ البنزين القديمة، وأوعية تشبه الأثداء المطاطية استعارها من رواية البريطاني أنتوني بيرجس "البرتقالة الآلية". "كراسة كانون"، كما تبدو في الفصل قبل الأخير، تضم مشاهد من حلم، وتخطيطاً لأربع لوحات، وفتاة تمارس الموت بصفته شبيه الطيران. اللوحات تختلط فيها خطوط الرسامين وكلمات المؤلف، وهي لوحات سيشحنها المؤلف في قطار العابرين إلى محطة القرن المقبل. وأخيراً، نجد الراوي وقد تحول سائقاً للقطار، ونجد حارس المحطة الرجل العجوز يجلس جلسة دودو في جوار محطة لكش، كما تخيله المؤلف وصوَّره في مقطع سابق.