الديبلوماسي الأميركي الراحل فيليب حبيب هو موضوع كتاب "ملعون هو صانع السلام" لجون بويكن الذي تنشر دار النهار في بيروت قريباً ترجمته العربية. كتاب عن فيليب حبيب ولكن، ايضاً عن الديبلوماسية والحرب والنهج السياسي والصراع العربي - الاسرائىلي من خلال أزمة حصار بيروت وترحيل منظمة التحرير الفلسطينية قيادة ومقاتلين. وتنشر "الحياة" بدءاً من اليوم ثلاثة مقاطع من الكتاب، تبين صورة الصراع بين الديبلوماسية الأميركية ممثلة بفيليب حبيب والعسكرية الاسرائىلية العدوانية ممثلة بآرييل شارون... وهنا الحلقة الاولى. ثمة امور ثلاثة كان لا بد من حدوثها كي ينجح فيليب حبيب في فك حصار بيروت سلمياً: موافقة منظمة التحرير الفلسطينية على مغادرة العاصمة اللبنانية، وموافقة رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن على وقف إطلاق النار ليتمكن قادة المنظمة ومقاتلوها من المغادرة، وموافقة دولة عربية أو أكثر على استقبالهم. كانت تلك المسألة الثالثة قطب الرّحى، إذ تركّز هدفُ حبيب حتى منتصف تموز يوليو على إقناع أيّ من الدول العربية بأن تقبل، منفردة، الدُّفعة الكاملة ممن يتم اجلاؤهم. ومع اتضاح فشل هذه المحاولة، استنتج حبيب ان الأمل الوحيد يكمن في توزيعهم على دول مختلفة. وقد سبق لمورس درايبر ان قام فعلاً بجولات مكوكية شملت العديد من العواصم العربية، وها هي الآن واشنطن تضيف مسعى مكثفاً لإقناع هذه العواصم بأخذ الفلسطينيين. لكن الجمود ظل سيد الموقف، واكتفى العرب بغضّ الطرف، فأصبح حبيب مثل متسلّق صخور متمسّك بحافة ناتئة، انقطع به السبيل صعوداً وهبوطاً وما من نجدة تلوح في الأفق. في القرارة الأكثر تجهماً لأشد تلك الأيام ظلمة، كتب من بيروت يوم السابع عشر من تموز: "لست الآن في حالة تفاوضية نشطة، حيث لا أستطيع التفاوض لإيجاد حل سياسي نهائي ما دام انه ليس لدينا مكان متفق عليه لنضع فيه مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية. من بعض النواحي، انا ايضاً رهينة في المأزق الراهن. فالناس هنا يعتمدون عليّ لرفع معنوياتهم، وللتدخل مع الإسرائيليين في ما يتعلق بكل انواع المشاكل اليومية. إذا غاردتُ لبنان، ولو لفترة وجيزة، فمن المتخيّل ان يُساء تفسير المغادرة بأنني أستسلم، أو - أسوأ من ذلك - بأنني اعطي الإسرائيليين ضوءاً اخضر لمتابعة التقدم الى بيروت". امتطي صهوة حصاني لكنّ فيليب حبيب لم يكن قط إنساناً يقعد ساكناً، ولم يكن ايضاً ليكتفي بحرية الاختيار بين امرين فقط: مأزق مطوّل او انقضاض نهائي. من هنا، وعلى رغم خطر التسبّب بمدركات حسية خاطئة، فقد قرّر في اليوم التالي، 18/7/1982، ان الوقت قد حان "كي أمتطي صهوة حصاني للتجول والبدء في تسويق هؤلاء النغلاء لتلك الدول الأخرى". واعتبرَ ان في استطاعته تجنب المدركات الخاطئة إذا زوّد الإسرائيليين سلفاً بشرح واضح للغرض من رحلته، "وعندها سوف يعلمون ان عليهم عدم الإقدام على اي شيء في اثناء غيابي". اعدّ حبيب العدّة ليبدأ في الثاني والعشرين من تموز بجولة سريعة على عواصم عربية مختلفة، كي يلْوي بنفسه بعض الأذرع، لكنه اخطأ في تقديره ان الإسرائيليين سوف يمارسون ضبط النفس خلال غيابه. فمن قبيل الصدفة ام لا، شن شارون في ذلك اليوم بالذات موجة جديدة مكثّفة من الهجمات، غير ان حبيب تابع رحلته على اي حال. كانت محطته الأولى سورية، التي لم يعرف فعلاً ما يتوقعه منها. فقد تعلم في ما مضى ألا يفترض ان اي تصور، ايجابياً كان ام سلبياً، سوف يدوم. وأثبتت تجربته في الأسابيع الأربعة السابقة مع سورية، كجهة مقصودة محتملة، بأنها مثلٌ ينطبق على الحالة: 28/6: منظمة التحرير الفلسطينية ترفض الذهاب الى سورية. 1/7: حبيب لا يريد ذهاب المنظمة الى سورية. 3/7: سورية تصبح المرشحة الرئيسية للتسلّم، وداريبر يفضّل سورية. 5/7: سورية توافق على ما يبدو على قبول منظمة التحرير الفلسطينية. 7/7: منظمة التحرير تريد البقاء في لبنان تحت حماية سورية. 10/7: سورية توضح انها مستعدة فقط لقبول قادة المنظمة ومكاتبها، ولكن من دون اي مقاتلين. 12/7: تقرير اخباري يكرّر القول ان سورية لن تستقبل اي مقاتلين، وتقرير آخر يقول إن سورية سوف تستقبل المقاتلين اضافة الى القياديين، غير انها لن تستقبل أُسرهم. 13/7: حبيب يقول إن الخيار السوري فُقد. 15/7: سورية تعرض أخذ القياديين فقط، وحبيب يقول إن سورية لم تعد بلداً متسلّماً 20/7: سورية تقترح أخذ خمسة الى ستة آلاف مقاتل من بيروت الغربية. ثمة سبب آخر لعدم معرفة حبيب بما يمكن توقّعه، هو ان اجتماعه المقرر مع الرئيس السوري حافظ الأسد سيكون الأول منذ وقف إطلاق النار، الذي عُقد في الحادي عشر من حزيران يونيو وتردّى تدريجاً الى الإخفاق التام. في ذلك الحين، فهم الأسد أقوال حبيب على انها تعهدات بالانسحاب الإسرائيلي من لبنان، لكن الإسرائيليين اقدموا، بدلاً من ذلك، على مهاجمة قوات الأسد وألحقوا بها هزيمة نكراء. تساءل الأسد خلال هذا الاجتماع عن مكمن الخلل في تلك المسألة، وعن سبب عدم احترام "التعهدات" التي قدمها حبيب، فأجاب الديبلوماسي الأميركي خجلاً: "كان الأمر فوق طاقتي، يا سيادة الرئيس". سأله الأسد: "هل يجب ألاّ يوثَق بوعد الولاياتالمتحدة؟ وما هو إذاً، معنى اي اتفاق دولي؟". لم تكن هناك فائدة في لوم الإسرائيليين على اعمالهم، ولم تكن هناك فائدة للشرح بأنهم خدعوا حبيب بقدر ما خدعوا الأسد. وأفضل ما خطر في بال حبيب ان يقوله، هو: "سيادة الرئيس، اننا نعيش في ازمنة سيئة جداً". لم يكن الأسد على عجلة من امره لمساعدة حبيب، إذ كلما تعجّل انهاء هذه الأزمة، تعجل ضغط اي ألعوبة اسرائيلية في الرئاسة اللبنانية عليه لسحب جميع قواته من لبنان - وهو آخر ما أراده الأسد. كرّر عرضه القائم باستقبال قادة منظمة التحرير الفلسطينية ومكاتبها، قائلاً إنه مستعد لأخذ الوحدات القتالية التي انطلقت اصلاً من سورية ومعها جيش التحرير الفلسطيني، مضيفاً انه قد يسمح باستخدام مطار دمشق كمنطقة تجمّع مرحلي للمقاتلين المتابعين طريقهم الى اماكن اخرى. لم يكن ذلك العرض ذا قيمة كبيرة، لكنه في الاتجاه الصحيح. الصمود لنيل المبتغى بعد سورية، توجه حبيب الى المملكة العربية السعودية لمقابلة الملك فهد. هم اكثر العرب نفوذاً، ولذا فقد حثّ مليكهم على بذل جهده لإقناع اشقائه من قادة الدول العربية الأخرى بالموافقة. ومع ان الرجلين لم يبحثا كيفية هذا الإقناع، فإنهما معاً أدركا ان المال السعودي حافز قوي لتلك الدول كي تتعاون معهما. وفيما يعتقد نائب رئيس البعثة الديبلوماسية الأميركية في بيروت، روبرت باريت، ان السعوديين دفعوا اموالاً لدول اخرى كي تستقبل الفلسطينيين، فكلّ ما يقوله درايبر هو ان السعوديين قرروا في نهاية الأمر "ممارسة الضغط على اصدقائهم، وقد حدث ذلك عبر الباب الخلفي". بعد السعودية، توجه حبيب الى مصر، التي اعتبرها دائماً على رأس الدول المرشّحة لقبول الفلسطينيين" معتزماً مطالبة الرئىس حسني مبارك بقبول خمسة آلاف مقاتل، على امل ان يقبل بألفين. لكن حبيب تأخر اكثر من اللازم، لأن مبارك لم يعد في حينه مقتنعاً بأن القوات الاسرائىلية ستشن حرب شوارع في بيروت الغربية، وتالياً فإن من غير الضروري لمنظمة التحرير الفلسطينية مغادرة بيروت كي تحول دون هجوم اسرائىلي. مع فقدان الاستشعار بالضرورة الملحة، حاول مبارك استثمار الوضع لكسب بعض النقاط السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية" الساعية يائسة الى ان تعتبر الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، وليس عصابة قذرة من الارهابيين. ومن شأن اعتراف الولاياتالمتحدة بالمنظمة على هذا النحو - وأشده فورية هو اجراء حبيب محادثات مع ياسر عرفات وجهاً لوجه - ان يحقق رغيبة سياسية عظيمة" كما ان من شأنه ممارسة ضغط على الاسرائىليين للتعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية. لذلك، قال مبارك لحبيب ان مصر ستستقبل الفلسطينيين الذين يتم اجلاؤهم شرط ان تحصل المنظمة على مكافأة سياسية - مثل الاعتراف الاميركي - في مقابل مغادرتها بيروت. كان من دواعي سرور حبيب ان يزيد من جاذبية المكسب لمبارك، عبر بعض الاشارات الى عملية السلام الطويلة الامد" لكن اعتراف الولاياتالمتحدة بالمنظمة هو اكبر بكثير مما يمكن القبول به. واعتقد حبيب ان الاعتراف الاميركي في تلك المرحلة بالذات لن يؤدي الا الى حفز اسرائىل "على ان تذهب في الاتجاه المعاكس وتمحو منظمة التحرير الفلسطينية من الوجود". حاج بأن خروج المنظمة من بيروت سالمة ومعاملة باحترام هو بحد ذاته مكافأة" مضيفاً ان منظمة التحرير الفلسطينية نفسها ارادت الخروج من دون اي مقابل. غير ان مبارك لم يقتنع بهذا القول، ولم يغير قط رأيه في ما بعد. اسوأ من ذلك، ان حبيب بدأ يسمع حجة مبارك عينها من الدول العربية الاخرى. وقد يئس حتى من ايجاد ملجأ موقت لمنظمة التحرير الفلسطينية، فصار يغلي خيبة وإحباطاً. لذا، شعر بقدر كبير من الامتنان والارتياح لدى اجتماعه بصديقه القديم، الملك حسين" الذي التقى به للمرة الاولى في مستشفى وولتر ريد العسكري، مباشرة بعد اصابته هو بنوبته القلبية الاولى. جرى اللقاء يوم السادس والعشرين من تموز يوليو في لندن، لوجود العاهل الاردني فيها خلال تلك الفترة. لم يكن لدى اي زعيم عربي اي اسباب افضل مما لدى الملك حسين، لرفض حتى مجرد البحث في قبول احد من منظمة التحرير الفلسطينية. لم يمض بعد على طرده قيادة المنظمة وقواتها من الاردن اثنا عشر عاماً، وها هو فيليب حبيب آتياً ليطلب منه اعادة بعضهم. قدم له حبيب عرضاً مفصلاً لمفاوضاته حتى هذه المرحلة، مركزاً على النقاط التي تستدعي وجوباً تحمل الدول العربية مسؤولياتها تجاه الفلسطينيين. شرح الوقائع وحقائق الامور، ووصف مأزقه بصراحة شديدة وحجة بسيطة: "ينبغي ان يبدأ احد ما، وللولايات المتحدة علاقة وثيقة جداً بالاردن. وان انت لم تستهل العملية، فلسوف يصعب جداً تسويق الخروج الجماعي لدى الدول الاخرى". واختتم رميته لتلك الكرة بالقول: "سيكون لقرارك تأثير قوي في مواقف المصريين والقادة العرب الآخرين. فهل يمكننا الاعتماد عليك لمساعدتنا في هذا الظرف الحرج؟". اجابه الملك حسين بأسلوبه الجليل: "سأستقبل اي انسان انا مسؤول عنه. فالاردن لن يرفض قبول عودة مواطنيه"" مقدراً ان ذلك قد يعني قبوله بما يصل الى ثلاثة آلاف من مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية. كما قدم بالطبع شروطاً محددة، ابرزها وجوب دخول كل هؤلاء المقاتلين مجردين من السلاح، وحتمية محاكمة اي مقاتل موجهة اليه تهم غير مبتوت فيها بارتكام جرائم في الاردن. لكن الملك حسين فاجأ حبيب ايضاً بقوله انه سينظر في مسألة ارسال مسؤولين اردنيين الى بيروت لغربلة المطلوب اجلاؤهم الى الاردن، كما سبق له ان اتصل بالعراقيين ونال موافقتهم على قبول بعض المقاتلين الفلسطينيين. ابتهج حبيب وامتلأ زهواً بهذا التقدم الحاصل على نحو حاسم. اعجب بموقف العاهل الاردني وامتن له ايما اعجاب وامتنان، لكونه "موقفاً حاسماً وفيه حنكة رجل الدولة". لدى توجهه الى الباب، شكر صديقه القديم وحثه على المساعدة في اقناع القادة العرب الآخرين بأن يحذو حذوه. وقد فسرت له كلمات الملك الوداعية المختصرة والمصحية جانباً كبيراً من الوضع" اذ قال ان استراتيجية شارون الاجمالية المتشامخة للمنطقة بأسرها ليست سراً، و"نعلم اننا في الاردن الهدف التالي". كسر الحلقة المرهقة المملة انهى حبيب جولته واثقاً بأن لديه الآن وجهات ترحيل جاهزة، لكن آخرين لم يشاركوه في وثوقه هذا. يقول تشارلي هل انها "كلها شروط يستحيل ان تقبل بها منظمة التحرير الفلسطينية، وقد ادركنا ذلك في وزارة الخارجية حتى وان اعتقد فيليب بأنه حقق تقدماً". فقد اضطر العرب لاظهار بعض الاستعداد لقبول المنظمة ومقاتليها - لكنهم وضعوا في خلال التفاوض معهم شروطاً إما ان المنظمة لن تقبل بها مطلقاً وإما ان تعني قبولهم بالفلسطينيين فقط كسجناء بالفعل وان لم يكن بالاسم. عندما عاد حبيب الى بيروت وتبجح امام الرئىس اللبناني بأن الملك حسين وافق على قبول حصة من مقاتلي منظمة التحرير، لم يترك ذلك التبجح في ذهن سركيس اثراً اعمق مما تركه في اذهان المسؤولين الاميركيين. فقد لفت سركيس انتباهه الى ان المملكة الاردنية وافقت على ألاّ تستقبل الا المقاتلين الذي لم تدنهم محاكمها، لكن "كل الفدائيين الفلسطينيين من لبنان مطلوبون لعدالة عمّان". لم ينزعج حبيب ولم يقلق، بل قال فوراً: "لست ساذجاً بقدر ما تظن. فقد حصلت من الملك حسين على عفو عام... عن جميع المغاورين الفلسطينيين الذاهبين من لبنان". ابتسم سركيس بتسامح وقال لحبيب: "انك ما زلت ساذجاً ولا تعرف الجوهر العربي. لا يكفي ان الحسين منح الفلسطينيين عفواً عاماً، وانما ينبغي ان يؤمنوا هم به! ليسوا مغفلين ولن يسلموا انفسهم" اذ لم ينسوا بعد "ايلول الاسود". كما انك ستحتاج الى عامين اضافيين على الاقل لتفهم لبنان، وتفترض انك تقدم اليّ توصيات". من المؤكد ان ذلك التقدم، حقيقياً كان ام تخيلياً، منح حبيب على الاقل شعوراً بالزخم تمس اليه الحاجة. ففي الثلاثين من تموز، بعث برسالة الى بيغن قائلاً: "لا مجال للشك في وجود قرار جلي وراسخ من جانب منظمة التحرير الفلسطينية بمغادرة بيروت". وقال انه سيبدأ باجراء مفاوضات تفصيلية في خلال الساعات الاربع والعشرين الى الثماني والاربعين المقبلة عن كيفية الانسحاب وموعده" "لذلك، فإن من الاهمية بمكان بذل كل الجهد لابقاء وقف اطلاق النار على كل الجهات"، ورفع الحصار المعيشي عن بيروت الغربية. وأضاف: "انني مقتنع بأننا الآن على الطريق الى تسوية سلمية، على رغم ان في العمل اجزاء عدة ينبغي انجازها". لكن القتال نشب مرة اخرى في الرابعة تقريباً من بعد ظهر ذلك اليوم عينه، وقال الجيش الاسرائىلي مرة اخرى ان المنظمة بدأت به، كما انذر بيغن المبعوث الاميركي مرة اخرى "بأننا سنرد بشدة"، وهدد الوزان مرة اخرى بقطع المفاوضات. سئم حبيب كلياً من هذه الحلقة المرهقة، المملة، القديمة" ورأى ان الوقت قد حان لكسرها ببعث فكرة نُبذت سابقاً، وهي المحادثات عن قرب - يجلس هو وعرفات جغرافياً قرب بعضهما بعضاً، فيما يمشي الوزان بينهما ذهاباً وإياباً. صحيح ان كل الاعتراضات القديمة ما زالت على حالها في الوضع الراهن، لكن اثارة الفكرة في هذه الفترة بالذات بدت انها تستحق المراهنة. اما المكان الذي يفي بالغرض، فهو اما عدد من المنازل المأمونة تحت تصرف مدير المخابرات اللبناني جوني عبدو في اطراف المدينة قرب نقطة تقاطع، وإما فندق الكزاندريا. ومع ان حبيب رأى في المحادثات القريبة سبيلاً لتسريع عجلة المفاوضات، فإن بيغن - المصغي الى الاستخبارات الاسرائىلية، المكررة له ان منظمة التحرير تماطل كسباً للوقت - رأى فيها مكيدة من المنظمة للخداع وإبقاء الآخرين منتظرين. لكن حبيب قال ان ما من احد يستطيع المماطلة معه، لأنه يعرف كيف "يركل المؤخرات" ويقدر "على التحرك بسرعة". بلّغ نائب رئىس البعثة الديبوماسية الاميركية في تل ابيب وزارة الخارجية في واشنطن بأن بيغن س"ينطح السقف" اذا تحرك حبيب باتجاه المحادثات القُربية. وأضاف: "ستكون نهاية مهمة حبيب، وسيراها العالم كله كخطوة نحو الاعتراف الاميركي بمنظمة التحرير الفلسطينية. نصيحتي هي ان لا تطلبوا مني نقل الخبر الى رئيس الوزراء، اذ ما من احد في اسرائيل سيرى فيها اي شيء سوى انتصار سياسي للمنظمة". وقلق السفير لويس من ان المحادثات عن قرب "قد تدفع بالاسرائيليين الى شفير اقتطاع جزء من جنوببيروت". حاول حبيب تذكير بيغن بأن المحادثات القُربية ترتيبٌ طلبته الحكومة اللبنانية، كما حاول التأكيد على انه سيجري هذه المحادثات عند الاقتضاء فقط، أي فقط عندما لا تترك له الهجمات الاسرائيلية اي سبيل آخر لتبادل الاتصالات مع منظمة التحرير الفلسطينية بسرعة وفاعلية. أضف الى ذلك، كما قال لبيغن، انه لن يجتمع مباشرة بأي ممثل للمنظمة: "يكونون في الطابق الأول وأنا في طابق اعلى، وحتى انني لن أراهم اطلاقاً، ولن تجري اي مصافحات". لكن بيغن لن يسمح بذلك مهما كان الأمر، قائلاً لحبيب ان من غير المقبول بتاتاً جلوسه في المبنى نفسه الذي يوجد فيه أي من مسؤولي المنظمة، حتى في طابقين منفصلين، او حتى ان يكون في مبنى مجاور. وحدد المسافة، الواجب ان تفصل بين حبيب وأي مسؤول في المنظمة، بثلاثمئة ياردة على الأقل. في ذلك اليوم نفسه لاحتجاج بيغن على توصية حبيب بإجراء محادثات عن قرب، شدد شارون من حدة القصف وكثافته. فقد اسقطت قواته على بيروت الغربية في الأول من آب اغسطس ما لا يقل عن خمسين ألف قذيفة طوال اربع عشرة ساعة. وفي رأي حبيب ان توقيت الهجوم لم يكن مصادفة، وان الاسرائيليين استعملوا مسألة المحادثات القُربية كذريعة لهجوم خططوا لشنه على أي حال. وقد حفز ذلك الهجوم المكثف مبعوث الرئاسة الاميركية على توجيه احد تهديداته القليلة بالاستقالة، قائلاً لواشنطن بغضب لا يوازيه سوى الضنى والسأم، إن ما فعله الاسرائيليون "إسرافٌ في القتل والتدمير، لعنة الله عليه، ومنعدم الضرورة الى حد بعيد. اذا قال الاسرائيليون هذا الهجوم بدأ بانتهاك منظمة التحرير الفلسطينية لوقف اطلاق النار، فهو قولٌ من غائط الثيران، وليس له علاقة بفكرة المحادثات عن قرب. هذا الهجوم مخطّطٌ له جيداً، ويقومون بذلك في هذه الساعة لكي لا يقدر أحدٌ في واشنطن على اتخاذ قرار قاس. يجب الا نُربط بهذا الأمر، وإذا سمحنا له بالاستمرار ولم نوقفه هنا، وجب علينا الخروج فوراً وبئس المصير. انها تمثيلية تحزيرية، لعنة الله عليها. لا أرى اي نفع في وجودي هنا، فقد أصبحت رمز عدم الجدوى الاميركية، ويُسمّيني الناس غطاء لهذا الأمر. وسوف يبتهج جيش الدفاع الاسرائيلي للتخلص مني، لأنني شوكة". قدم بيغن عرضاً آخر من عروضه لوقف اطلاق النار، مرهوناً بشرطه المعياري وهو وجوب كون الوقف متبادلاً ومطلقاً. قال حبيب لواشنطن: "إياكم ان تقبلوا بذلك الغائط! لن أكون طرفاً في وقف اطلاق نار آخر. ان كانوا يريدون وقفاً لاطلاق النار، فقولوا لهم تفضلوا واعلنوا بأنفسكم وقفاً له من جانب واحد، إذ هم سيعيدون الكرّة على اي حال. من المحتوم ان وقف اطلاق النار سيُنتهك على نحو هائل حول المخيّمات، لأن الاسرائيليين والفلسطينيين يقفون هناك الآن وجهاً لوجه. لا استطيع التفاوض في مثل هذه الظروف، ولا اعلم ان كان في استطاعتي استئناف المفاوضات حتى إذا جرى وقف لاطلاق النار. اصبح اخراج منظمة التحرير ممكناً قبل بضعة أيام، لكنني الآن لا استطيع تحقيق ذلك". وختم بالقول: "لا اعتقد ان ثمة تسوية سلمية لهذا الأمر". خارج النافذة بالَغَ حبيب نوعاً ما بهدف إحداث التأثير المطلوب، لكن حقائق الوضع على أرض الواقع تُسوّغ قطعاً شعوره بالتشاؤم. فأكثر ما خشي منه على الدوام هو إقدام شارون على تنفيذ تهديده المتكرر احياناً كثيرة بشن هجوم بري انقضاضي على بيروت الغربية بهدف "تنظيفها كلياً" من منظمة التحرير الفلسطينية، مخبأً مخبأً، وبيتاً بيتاً. في الرابع من آب، دخلت فعلاً أول مجموعة من القوات البرية الاسرائيلية الى داخل حدود بيروت الغربية، وتمركزت على بعد مئة متر داخل نقاط العبور كلها. رأى السفير الفرنسي بعض تلك القوات قرب فندق النورماندي، حيث الدبابات المزوّدة بأنصال الجرّافات تتقدم ناقلات الجند المدرعة، وتُزيل حواجز ترابية وفولاذية يبلغ ارتفاعها مترين. وأوحى مسار القوة الاسرائيلية بأن الهدف هو عزلُ المخيمات الفلسطينية الكبرى. قال مسؤول اسرائيلي: "ننتظر حبيب منذ ثمانية اسابيع لاستكمال مهمته. تدفع اسرائيل الثمن في العلاقات العامة، وندفع الثمن في الدم فقط إكراماً لطلب أميركي. لقد اعطينا منظمة التحرير الفلسطينية فرصة للمغادرة، وينبغي عليها، ان لم تغتنم هذه الفرصة، ان تعلم اننا سنضطر الى تنفيذها بوسائل أخرى". في الوقت نفسه لحدوث تلك التطورات، تلقى حبيب أحدث رسالة من قيادة المنظمة، فقال: "إنني أشعر بالخزي لاستلامي هذه الوثيقة. جيش الدفاع الاسرائيلي يطوّق بيروت الغربية، وها هي منظمة التحرير الفلسطينية قد أرسلت اليّ وثيقة بنّاءة جداً، بل الأكثر استعداداً للتعاون حتى الآن". كُتبت قبل بدء الانقضاض الشاروني وتضمنت بضعة تنازلات مهمة، لكن دخول الاسرائيليين الى بيروت الغربية تجاوزها وتخطى محتوياتها، فقد بدأ عرفات في حثّ اتباعه على الدفاع عن مواقعهم حتى الموت، "لأن الاستشهاد مفتاح النصر". شعر حبيب بأنه لم يعد قادراً على "متابعة الخطة التي قدمناها بإخلاص الى منظمة التحرير الفلسطينية"، قال لواشنطن: "لا يجوز فقط ان نطلب من الاسرائيليين التوقف، وإنما ينبغي ان نحملهم على التراجع. لا يمكننا تحقيق وقف لاطلاق النار من المواقع الموجودين فيها الآن، والمواقف المعقولة التي اتخذناها من قبل، هي الآن غبية". في ذلك الصباح، هطل على بيروت الغربية وابلٌ من القذائف والصواريخ الاسرائيلية، لم ير حبيب اسوأ منه طوال تلك الأسابيع الثمانية للحرب: "اتصلت بشارون هاتفياً، فقال إن الأمر ليس صحيحاً. لقد قال لي ذلك الرجل الملعون الوالدين بالهاتف إن ما أراه جارياً ليس جارياً". غداً حلقة ثانية.