هاجم باحثون وأكاديميون وضع الغناء العربي المعاصر خلال ندوة اقامها على مدى يومين في "دار الأوبرا المصرية" مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية الحادي عشر الذي يستمرّ حتّى العاشر من تشرين الثاني نوفمبر الجاري، مؤكدين ان ما يسمع اليوم من اغنيات لا يتصل بالتقاليد الفنية للغناء العربي الأصيل، ويشكل بمجمله هجيناً يتنكر لمرجعياته العربية. وفيما غاب "اصحاب القرار" في النتاج الغنائي العربي المعاصر المنتجون، الملحنون، المطربون، ممثلو محطات الإذاعة والتلفزة عن الندوة، مضى المساهمون الذين مثلوا مختلف الدول العربية في هجاء جماعي للغناء المعاصر، ولم يتردد احد في اعتبار "الإنحدار الذي اصاب الأغنية العربية المعاصرة، جزءاً من العولمة". في الجلسة الأولى اشار معتصم عديلة فلسطين الى ان لا يمكن الحديث عن تاريخ الأغنية الفلسطينية المعاصرة الا عبر العودة الى بدايات القرن العشرين. ورأى عديلة ان الأغنية الفلسطينية المعاصرة عاشت مراحل زمنية: مرحلة بدايات القرن العشرين الى العام 1948. ومرحلة أغاني العودة من العام 1948 الى النكسة العام 1967 ومنها حتى قيام السلطة الفلسطينية. وسلط الباحث عبد الله السباعي الضوء على واقع الغناء العربي المعاصر في ليبيا، معرفاً بأنواعه. فهناك غناء التراث الذكر، المديح، المألوف. ثم انواع من الغناء المعتمد عند اصحاب الطرق الصوفية، قصائد المديح وغناء "نوبة المألوف"، وهي التي تعرض مقامات الموسيقى الأندلسية السائدة في ليبيا، وعرض الغناء الشعبي المتعدد بتعدد الأمكنة والمناسبات. كما توقف عند الغناء الطرابلسي الأذاعي المتأثر بالغناء المصري، والمختلف عن الغناء السائد في ليبيا. ثم انتقل الى الغناء الليبي الوطني، كما عرض اللون "الشبابي" بحسب المغنين: احمد فكرون وناصر المزداوي. ودعا العقيد الموسيقي في الجيش اللبناني أسعد مخول الى اغنية عربية واحدة وبملامح مصرية. وقال: "إن الأغنية العربية المعاصرة، لا يمكن اعتمادها مؤشراً الى روحية عربية. فهي حال ايقاعية صاخبة". ودعا، والحال هذه، الى "ضبط البث الغنائي وفق الأصول الصحيحة، واعتماد اسلوب لجان الفحص في الإذاعة والتلفزة وتقديم التراث كما في الأمم الراقية واعتماد النقد الفني المتخصص". وفي الجلسة الثانية التي ادارها الباحث والمؤرخ الموسيقي اللبناني فيكتور سحاب، قدم الناقد والباحث التونسي محمد الكحلاوي ورقة عن راهن الغناء العربي، مركزاً فيها على تحول الغناء العربي الى مجرد تقاسيم ايقاعية راقصة تركزها الأغنية المصورة "الفيديو كليب". واعتبر العازف والباحث العراقي دريد الخفاجي ان الأغنية العراقية المعاصرة تنقسم بحسب البيئات الى اغنية المدينة واغنية الريف، واغنية البادية، معتبراً ان الغناء المعاصر في العراق شهد هجنة في لهجته. فثمة تأثيرات للألحان الاسبانية والتركية والهندية. وأشار الى ان الآلات المستخدمة في عزف الألحان تشير الى انحسار الآلات العراقية والعربية. وتساءل : كيف نعمل لتأصيل الهوية الوطنية للغناء العراقي؟ وقال استاذ الموسيقى المسرحية والملحن العراقي علي عبدالله: "لو خيرت ان اعيش غير زماني، لأخترت زمان القصبجي، سيد درويش والقبانجي"، مشدداً على ان ما لحق بالغناء العربي، "مخطط له ضمن خطوات العولمة الأميركية واعوانها". وعن ظاهرة تصوير الأغاني في مناطق خارج الوطن العربي قال عبدالله : كأن لا مكان جميلاً في الوطن العربي، فذهبت الأغنيات الى شرق آسيا". وهاجم استخدام الأطفال في الأغنية". وتواصلت الندوة فأدار رئيس المجلس الدولي للموسيقى، والأمين العام للمجمع العربي للموسيقى، المؤلف والباحث الموسيقي كفاح فاخوري، جلسة تحدث فيها عباس السباعي وطاف خلالها بالحديث عن الشخصية المميزة للأغنية السودانية. واعتبر عميد المعهد العالي للموسيقى في الكويت بندر عبيد، أن "واقع الأغنية المعاصرة متشابه في مختلف البلاد العربية". وأن هناك طائفة من التحديات تواجهها الأغنية العربية المعاصرة منها: "استبعاد المقامات العربية، الفيديو كليب، تركيب الإيقاعات عبر التقنيات، وخلو الأغنية من القيم". وعرض الباحث د.نبيل شورة مصر في بحثه "ورقات في الغناء العربي عبر القرن العشرين" مراحل من التغييرات التي واكبت الغناء العربي المعاصر، وتأثيرات استخدام التكنولوجيا: الغرامفون، السينما، المسرح والالات الكهربائية. إذ عرض شورة نمطاً من الأداء الغنائي الذي تميز بتحديث الأعمال الأصلية، من دون الخروج عليها "محمد عبدالوهاب، وهو يغني دور انا هويت لسيد درويش"، أوضح ان هذا المسار من الإضافات يمكن ان يحقق للغناء العربي تحديث من دون افتراقه عن الأصول. وتساءل الباحث التونسي صالح المهدي بغضب: "ما الذي أوصلنا الى هذه الحال في الإنتاج الموسيقي ؟ اين التجاوب بين المطرب والفرقة، و بين العازف والجمهور؟ اين الارتجال ؟"، مشدداً على ان "على المختصين، توجيه نصيحة للمغنين ان يكونوا باعة خضار او ان يصبحوا رؤساء جمهوريات، فهذا افضل لهم ويريح الأسماع والأرواح". عميد معهد الموسيقى العالي في سورية نبيل اللو قال: "حين اصف الأغنية السورية المعاصرة، فلن اجد غضاضة في القول انها بحال سيئة"، مؤكداً على وجود فارق بين مستويين من الغناء: "الأغنية التي تلحن في المعهد، ليست في خط، بل هي الأغنية خارج اطار المؤسسة الأكاديمية. وتوقف اللو عند الضرر الفادح الذي تحدثه الأصوات غير المدربة، فبعض المغنين، لا يحضرون تدريبات الفرقة. "فأنا اعرف حالات يحضر فيها تدريبات الفرقة الحارس الشخصي للمغني او المغنية، زوجها واحياناً صديقها". ويستمر أستاذ اللسانيات في جامعة دمشق في نبرة الأسى قائلاً: "ان هناك من قدم محاولات جادة منذ النصف الثاني للقرن الماضي في الغناء السوري، انموذج مضيء لكنه مغيب، انه المطرب والملحن نجيب السراج الذي يعيش عيشة الكلاب، جريمة هذا الأنسان انه لا يلحن غير القصيدة والارتقاء بقيمة الغناء". من جهتها ردت شهرزاد قاسم حسن، وهي باحثة عراقية في تاريخ الموسيقى العربية القديمة، على دعوة فاخوري الى اعتماد التربية الموسيقية وفق أسس غربية، مشيرة الى ان "انقطاع الحضارة العربية المعاصرة عن امتداداتها الإسلامية، واهمال النظرية التربوية الموجودة في الحيز الإسلامي والتأثر بالغرب، من العوامل التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه". وأكدت استاذة الموسيقة التقليدية في جامعة باريس ان "المشكلة يمكن ان تجد حلاً عبر استبعاد التقنيات الغربية في تربية الصوت واعتماد التواتر الشفاهي الذي كان معتمداً عبر القرون"، لافتة في هذا الصدد الى ان "تعلم القراءات القرآنية، افضل من المناهج الغربية في صقل الصوت".