الموسيقى غناء وعزف، وناس تغني وناس تعزف... فلماذا يغني الشرق كثيراً ويعزف قليلاً؟ لماذا يحتل الغناء كل هذه المكانة ويرتفع قدر المغني- المطرب على هذا النحو؟ لماذا يختفي العازف ويظهر المطرب متضخماً - منتفخا وكأنه المؤلف والعازف والشاعر والموزع وكل شيء؟. والأغنية ليست فقط غناء وعزفاً بل هي ايضاً تأليف موسيقي وشعر... فهل المغني حقاً هو بطل العمل ونجمه اللامع، أم أن المؤلف الموسيقي هو ذلك البطل؟ وأين القائد المايسترو والموزع من ذلك؟. لا شيء يبدو في موقعه الصحيح، فالمغني لدينا أهم من العازف وأهم من المؤلف ومن كل شيء، ولذلك يظهر مطرب صغير العمر لم يزل دون التجربة ودون الدراسة الموسيقية، لم يسبق له أن وضع لحناً أو قام بالعزف أو انشغل بأي حقل من حقول الممارسة الموسيقية، ثم يقفز على سطح الشاشة الصغيرة ليصبح بين ليلة وضحاها نجماً كبيراً!!. نعم، إن شعوب الشرق شعوب غنائية وتضع الغناء والمغني تباعاً فوق الجميع، بل وتكرر الظاهرة نفسها عندما تضع ممثل الفيلم في مكانة تعلو مكانة المخرج والكاتب - الأديب والمونتير!. لا شك أننا في الشرق، نلتقط العناصر الأكثر ظهوراً، العناصر التي تجري قبل غيرها على السطح، فننبهر بها من دون تفكير خاص في العناصر الأخرى! والحقيقة أن الغناء لم يكن دائماً محوراً للنشاط الموسيقي، بل ولم يكن الغناء موجوداً كعنصر ضروري في كل زمن وفي كل مرحلة. وعلى سبيل المثال، هناك شعوب زنجية قبائل لا تغني وتكتفي بالتوقيع على الطبول والرقص وإصدار الصرخات والهمهمات أثناء ذلك، وشعوب أخرى بعيدة كالألمان المعاصرين لا يتصدر عندهم الغناء النشاط الموسيقي ولا يحتل لديهم المغني المكانة التي يحتلها المغني العربي، بل على العكس تماما، تراهم ينزلون المؤلف الموسيقي مثل بيتهوفن أو فاغنر منزلة رفيعة لا يحلم بها أي مغن الماني. وليس في تاريخ اوروبا المعاصر مطرب يمكن مقارنته بالمؤلف الموسيقي. وفي بلاد آسيوية كثيرة ينظرون لعازفي الطبول عنصر الايقاع بوصفهم مصدر المتعة الاول وليس المطربين، بل ولا يقارن مغن بالعازف الذي يحمل على صدره طبولاً عدة ويرتجل عليها عشرات الإيقاعات في حلبة الرقص. لا شك أن لكل منطقة في العالم ذوقاً خاصاً، وذوق الناس في كل مكان يتشكل وفقاً لتاريخ طويل وظروف كثيرة معقدة. لكن الناس يستطيعون دائماً التدخل وتغيير بعض الأمور إذا اتفقوا على وجوب التغيير، ونحن في الشرق لا ننظر باهتمام الى عازف القانون أو العود ولا نتذكر اسم العازف عادة وتختلط عندنا اسماء المؤلفين الملحنين فلا نعرف واضع اللحن، إن كان رياض السنباطي ام سيد درويش ام محمد عبدالوهاب! اما المغني عندنا فباقٍ في الذاكرة ومن أجله تشترى التذاكر والأشرطة وتحفظ الأغاني. والحقيقة المؤكدة أن التأليف العربي هو المسؤول، وبمعنى أدق: فإن السبب قائم في التأليف الموسيقي ذاته وفي المؤلفين أنفسهم، فالتأليف الموسيقي العربي عمل ويعمل دائما في حقل الأغنية، وأغنية الفرد تحديداً وقبل أي شيء وقبل أي عزف أو معزوفات. وإذا دار المؤلف العربي حول أغنية الفرد دار الجمهور بدوره حول هذا الفرد. وفي صدد المقارنة بين الغناء والعزف، نتذكر حقيقة أن المعزوفات العربية - كالتقاسيم مثلا - تعيش هامشية لا تحتل سوى مكان ثانوي، فالأهم منها عند المؤلف هو تأليف لحن المغني، وعند العازف هو عزف لحن المغني - أي مصاحبة الغناء وتأكيده، فالغناء هو سيد النشاط. ونعود بالذاكرة الآن للشيخ سيد درويش لنلاحظ أنه لم يخلف وراءه معزوفة واحدة !! بل ان كل تراثه - وهو أكبر الموسيقيين العرب - أعمال غنائية، أي أدوار وأناشيد وطقاطيق وموشحات - دون معزوفات. ذلك على الرغم من أنه حقا أهم رجال التأليف العربي في القرن العشرين !! وسيد درويش كان يعرف بوجود أنواع أخرى من التأليف - غير الأغنية والغناء - كالموسيقى التصويرية للمسرح أو المقطوعات المصاحبة للرقص والراقصة. والحقيقة أن المؤلفين العرب الآخرين في هذا الصدد، إنما يضعون تلك المؤلفات انطلاقاً من عالم الأغنية أيضا، فتراهم يؤلفون للفيلم أو للرقص ألحاناً غنائية الطابع - عاطفية، تبدو وكأنها أغانٍ حذفوا منها المطرب !!. أي أنهم يضعون مقطوعات للآلات الموسيقية معزوفات تلعب فيها الآلات دور المغني فلا يصدر عنها الآلات إلا لحن "عاطفي" يمضي على نمط المطرب نفسه في الأغنية، بل ويتخذ هذا اللحن قواعد تأليف الأغنية نفسها والأصول الفنية نفسها! أي أن معزوفاتهم أغانٍ يصمت فيها المغني فحسب! وذلك يعني أن الغالبية من المعزوفات العربية ليس إلا ظلا للأغنية العربية، وأن الآلات العربية خادم للغناء وليس لها كيان مستقل، كما هي الحال في السيمفونية الأوروبية على سبيل المثال، ومعزوفات السيمفونية والكونشرتو والصونات توضح لنا كيف تميزت المعزوفات الأوروبية بتطور كبير، وكيف اكتسبت استقلالاً خاصاً عن الغناء، وكيف أصبح لها مسار خاص وطرق مستقلة في التأليف. ولا شك في أن معزوفة السيمفونية هناك لم تعد تشبه الغناء أو تختلط بالأغنية على أي نحو. ولا بد هنا من التوقف لحظات لتوضيح مسألة مهمة: أن الحديث عن المعزوفات البحتة - من دون غناء - وعن الغناء باعتبار أن كلاً منهما يشكل إتجاهاً، لا يعني أن الغناء يمضي بدون عزف، فهناك عزف يصاحب الغناء بداهة، غير أنه لا يسمى "معزوفات" بأي حال وإنما "المصاحبة الآلية"، فهو جزء لا يتجزأ من الأغنية أو الأنشودة وليس إلا نوعاً من تجسيد الغناء. وظيفة هذا الجزء "تكرار لحن الغناء - لحن المغني" لتأكيده. أما المعزوفات البحتة وكما يجب أن تكون، فلها ألحان من نمط آخر، نمط ندعوه "آلىاً" "ولا ندعوه غنائياً"، والفارق بينهما يجب أن يكون كبيراً. فاللحن الآلي - لحن المعزوفات البحتة - عكس اللحن الغنائي، يجري أسرع ويحب القفز، أي الانتقال المفاجئ من نغمات غليظة إلى أخرى حادة، ولا يعبأ بالتدرج أو الهدوء، بل يسعى نحو التدفق والتنوع كمعزوفات الهارب والبيانو وإحداث الشعور باللون والبريق وما إلى ذلك. أما اللحن الغنائي فيراعي التدرج في السير وهدوء السرعة وإشباع كل نغمة من نغمات اللحن حفاظاً على الدفء و"الشاعرية" في التعبير. إنه الفارق بين الأغنية والمعزوفة والذي يتحتم وجوده لكنه غائب في الموسيقى العربية لا تراه قائماً بوضوح ما بين الأغنية والمعزوفة العربية، فالمعزوفات مائعة - ذائبة في الغناء. والحقيقة أن العازفين في الأغنية العربية يتلاشون في صوت المطرب لترديدهم لحنه نفسه ومضيهم على خطواته كالظل! والواقع أن الحال كان اختلف تماما في أوروبا بتطور المعزوفات البحتة - من دون غناء - إذ تخلّق تيار موسيقى كبير للغاية: تيار معزوفات البيانو والفلوت والأبوا والهارب والتشيلو، ومعزوفات لآلات الأوركسترا مجتمعة - معا - كما في السيمفونية والكونشرتو والقصيد والافتتاحية والمتتابعة والباليه وغيرهما. وهذا التطور لا شك قضى على الطابع الغنائي السائد أو الذي كان سائداً في أوروبا في ما سبق. وهكذا أصبح هناك تيار "آلي" متميز تماما وآخر غنائي - وكلاهما له قواعده وسبله الخاصة - المستقلة. هكذا أصبح عازف البيانو الشهير لا يقل أهمية عن أي مطرب معروف وقد يزيد، وغدا العزف من دون غناء منتشراً، مباعاً في الأشرطة تماما كالأغنيات العاطفية والفردية. أما الموسيقى العربية فما زالت تدور حول الغناء والأغنية حتى أنها تسعى دائما لفرض الأغنية على الأنواع الأخرى، فترى أفلاماً ومسرحيات عربية كثيرة - محشوة غناءً "عاطفي" اللحن، وكذلك تمضي مسلسلات التلفزيون التي تبدأ دوما بأغنية لأحد المطربين المشاهير - الأفراد كعلي الحجار أو محمد الحلو !! وما أكثر الأفلام التي تدور بشكل مصطنع حول بضع أغنيات، والتي صيغت خصيصاً وعلى نحو مفتعل لصوت واحد من المطربين - واحد فقط كأفلام فريد الأطرش !! إن الطابع الغنائي لحضارة أي شعب ظاهرة عامة - عرفتها كثرة من شعوب الأرض، وكانت سائدة في اليونان القديم ومصر وفارس والرافدين، وإذا الشعوب القبلية والمشاعات القديمة لم تعرف الطابع الغنائي وإنما الطابع الإيقاعي، الا ان إمبراطوريات أوروبا المسيحية المبكرة كانت تدور في فلك الأغنية - بمختلف أشكال الأغنية من ترانيم وأناشيد وابتهالات وغير ذلك. وبديهي أن للأغنية أشكالاً مختلفة، بعضها يؤديه فرد - كأغنية اليوم - وبعضها تؤديه جماعة كأناشيد اليوم وابتهالات الأمس، ولا يبدل هذا من الأمر شيئا ولا يمس جوهر الطابع الغنائي السائد ولا يفسح مجالا للمعزوفات كي تتطور باستقلال عن الغناء. الموسيقى العربية تعيش في سجن الغناء، إذ تدور حول محور واحد وحيد هو الغناء بينما تلف غيرها من الموسيقات في أكثر من مدار، حول المعزوفات وحول الغناء. وتلك الأحادية في موسيقى الشرق كله أصبحت خانقة للإبداع، والموسيقي العربي اليوم لا يستطيع بوجهه الغنائي الواحد الصعود إلى درج الموسيقى التصويرية مثلا، إذ تتطلب هذه الربوة موسيقى آلية صرفاً، تتطلب معزوفات متطورة للغاية، تتطلب ألحاناً تصويرية لا غنائية، ألحاناً آلية تصدرها آلات، اي معزوفات درامية. وكيف لنا أن نصور معارك وتناقضات اجتماعية كبيرة في الفيلم بينما نحن نجيد صناعة الأغنية "العاطفية"؟! بل ونستمد منها قدراتنا الفنية؟ والحقيقة ان هذا العجز عن التصوير الموسيقي هو ما يدفع المؤلفين لوضع أغان للفيلم أو التمثيلية، حيث تفتتح الدراما مباشرة بصوت أحد المطربين !! ونحن في مقالنا هذا لا نسعى لتقديم حلول وإنما نسعى لاكتشاف المشاكل المحيطة بالعمل الموسيقي فحسب، فالحل في يد المؤلفين والعازفين من رجال الممارسة العملية ورهن بتبدل ظروف هذه الممارسة. والسؤال الوحيد الذي حاولنا الإجابة عنه هنا هو: لماذا يحتل المغني العربي تلك المكانة الكبيرة، ويختفي وراءه العازف والمؤلف على الرغم من أن مطرب اليوم عادة هو أقل العاملين دراية ومعرفة بالموسيقى؟.