كثر الحديث منذ الحادي عشر من ايلول سبتمبر 2001 عن ضرورة اصلاح التعليم الديني في العالم الاسلامي. انطلقت هذه الدعوة من داخل احد مطابخ السياسة الاميركية ، لتصبح مطلباً ثابتاً من مطالب ادارة الرئيس بوش في اتصالاتها باجهزة الحكم في المنطقة، بدءاً بأفغانستان وباكستان مروراً بالمملكة العربية السعودية ومصر وصولاً الى العراق واندونيسيا. لقد اكد زالمي خليل زاد مساعد مستشارة الرئيس الاميركي لشؤون الأمن القومي حول الشرق الاوسط وجنوب آسيا، في ندوة نظمها معهد واشنطن لسياسات الشرق الادنى، ان الولاياتالمتحدة ستعمد الى تغيير مناهج التعليم والثقافة في العراق بعد الاطاحة بالرئيس العراقي. واضاف: "سيكون هناك بالتأكيد اصلاح تعليمي وسيكون هناك تركيز على التعليم"، وذلك في سياق جهود الولاياتالمتحدة الرامية الى ادخال اصلاحات على مناهج التعليم في الدول العربية لتعزيز حربها على ما تسميه الارهاب. في الاثناء التقط بعض المثقفين المحليين هنا وهناك هذه الدعوة ليضفوا عليها الوجاهة الفكرية، ظانين انها الحلقة المفقودة في مسلسل البحث عن مخرج من المأزق السياسي والثقافي الراهن الذي يتخبط فيه العالم العربي والاسلامي، وان بإمكانهم تحويلها الى سلاح في المعركة التي يعتقدون بانها ستكون حاسمة هذه المرة مع حركات التطرف الديني. فهل اصابوا كبد الحقيقة ام هو حق اريد به باطل؟ اخطر العاهات التي يمكن ان تصيب المثقفين والسياسيين والحركات الراغبة في الاصلاح والتغيير هو وقوعها في التبسيط واختزال الظواهر والتشخيص الخاطئ لحالات التأزم والانحراف. وتعتبر ظاهرة ما يسمى بحركات "الاسلام السياسي" من الامثلة التي غالباً ما تم اخضاعها لمخابر ايديولوجية وقراءات سياسية لم تزدها الا غموضاً وتعقيداً. فلقد كان الماركسيون في يوم من الايام يرون فيها اداة تعبير طبقي، واعتقدوا انها صنيعة الرأسمالية والامبريالية او انها من بقايا الاقطاع تستعمل لضرب الحركات التقدمية. وقال آخرون انه افراز للجهل والامية وهناك من ذهب به الظن الى الزعم بكونها مجرد انعكاس او رد فعل موقت ومضاد للتغيير السريع في القيم واهتزاز المنظومة الاخلاقية التقليدية. لكن جاءت الدراسات الاجتماعية لتكشف ان انصار هذه الحركات وكوادرها ينتمون لكل الفئات او الطبقات الاجتماعية، كما لا يخلو منهم أي مجتمع من أفقر بلد اسلامي ممثلاً في بنغلاديش الى اثرى مجتمعات الخليج وان معظمهم تخرجوا من الجامعات الحديثة ولا يعانون بالضرورة من عاهات سلوكية، او اهتزازات نفسية. اما القول بأن الاستخبارات الاميركية او البريطانية هي التي ابتدعتهم ومولتهم خدمة لمصالحها فهو قول مردود لا تسعفه الوقائع التاريخية، ولا يجاريه المنطق، وتنسفه كلياً ما آلت اليه علاقة هذه الحركات سواء بأنظمتها المحلية او بالقوى الدولية. فهل حقاً هم افراز لبرامج التعليم والمناهج المطبقة في العالم الاسلامي؟ هل برامج التعليم هي التي انتجت الحركات الاسلامية؟ ربما لا يعلم الكثيرون ان معظم هذه الحركات ربما باستثناء الجماعات السلفية تنتقد برامج التعليم المعتمدة في بلدانها، وتعمل جاهدة على "اسلمتها" سواء بالضغط الشعبي والسياسي او من خلال المشاركة في الحكومات بهدف السيطرة على وزارات التعليم والتربية وغالباً ما يجد انصار هذه الحركات من الشباب والطلبة الذين يتم استقطابهم صعوبات عدة في التعامل مع مقررات مادة التربية الاسلامية واساتذتها، نظراً الى عدم انسجامها مع الثقافة الدينية والحركية التي يستندون عليها في تكوينهم الحزبي. وقد سعى مؤسس حركة "الاخوان المسلمون" الشيخ حسن البنا خلال السنوات الاولى من دعوته الى اقناع الازهريين بالثورة على اوضاعهم التعليمية، وقال لهم ذات يوم ان تفعلوا ذلك من اجل الاسلام فافعلوه من اجل مصلحتكم، لكن نداءاته لم تجد الصدى المأمول، ومن يستعرض اسماء الكوادر البارزة التي اعتمد عليها في بناء حركته فسيلاحظ ان عدد الازهريين كان نادراً جداً وقد لجأت حركات عديدة الى تأسيس مدارسها الخاصة لتضمن بذلك تكوين أئمة ووعاظ وموجهين يلتزمون بمراجعها العقائدية والفكرية والسياسية. من جهة اخرى، وبالرجوع الى غالبية قياديي هذه الحركات وكوادرها الاساسية والفاعلة، بمن في ذلك الذين غالوا في تطرفهم ولجأوا الى العنف والارهاب، نجدهم لم يتخرجوا او يتربّوا في جامعات او مؤسسات دينية تقليدية، بل منهم عدد واسع جداً هم خريجو المعاهد والكليات العلمية والفنية واحياناً العسكرية. ان الاسلاميين المنخرطين في تنظيمات وجماعات، او المستقلين يتلقون تكوينهم الايديولوجي بدرجة اساسية داخل الاجهزة المنظمة وعلى ايدي "شيوخ الحركة" او يتعاطون بشكل مباشر سواء مع الكتب الاساسية المعروفة لدى الجميع، او مع من يتلقون الافكار والفتاوى والمواقف من آلاف الائمة والدعاة المنتشرين في كل مكان، والذين مكنتهم الفضائيات من فرصة تاريخية للتأثير على الملايين من المشاهدين. وهذا يعني انه حتى في صورة تأميم مؤسسات التعليم، واستبدال برامجها باخرى جاهزة يقع اعدادها من قبل المخابر لاميركية، فان ذلك لن يجفف المنابع الفكرية لهذه الحركات التي ستواصل الاعتماد على آلياتها الذاتية في التكوين والتجنيد. ويكفي للتدليل على ذلك استحضار التجربة التركية، والقاء نظرة على عديد التيارات الاسلامية التي يعجّ بها الغرب، فهل ان برامج التعليم في بريطانيا هي التي افرزت حزب التحرير الاسلامي المعترف به في هذا البلد رغم اعتقاد مؤسسة الشيخ تقي الدين النبهاني بأن بريطانيا هي سبب خراب العالم؟ دعوة مشروعة في سياق ملغوم لا تكمن خطورة هذه الدعوة في سطحيتها وعدم اجابتها على الاشكاليات الحقيقية المطروحة ولكن ايضاً في تداعياتها السلبية والخطيرة على اكثر من صعيد ويمكن الاكتفاء في هذا السياق بثلاثة جوانب رئيسية: * استبطانها لمنطق استعماري اخذ يتصاعد ويتجلى في شكل استفزازي من خلال تصريحات بعض المسؤولين الاميركيين الجاهلين بطبيعة المنطقة، وغير واعين بخطورة ما يرددونه، هؤلاء يعتقدون بأنهم اصحاب حضارة متفوقة، وان رسالتها المقدسة تملي عليهم واجب تحرير الآخرين من الاستبداد والجهل والتعصب الديني، سواء عن طريق الضغط السياسي او اللجوء الى الحرب ان لزم الامر لقد اكدت السيدة كوندوليزا رايس ان "القيم الليبرالية الاميركية يجب الا تقف عند حدود الاسلام، وان الولاياتالمتحدة تريد ان تقوم بدور المحرر غير دمقرطة العالم الاسلامي". هذا في الوقت الذي تعج فيه الولاياتالمتحدة بعشرات او المئات من الملل والنحل التي تؤمن بأشد المعتقدات الدينية غرابة وتطرفاً. بل ان ادارة الرئيس بوش نفسها تخضع منذ اكثر من سنة للتيار المسيحي البروتستانتي ذي الاصول العقائدية الصهيونية، الذي يؤمن اتباعه بأن عودة المسيح المنقذ مرتبطة بسيطرة اسرائيل كلياً على بيت المقدس، لهذا يضغطون في اتجاه ان تصبح القدس عاصمة الدولة العبرية، وبعدها سيتولى المسيح نفسه قتل اليهود والقضاء عليهم كلياً. * القول بأن برامج التعليم لا تقف وراء حركات الاسلام السياسي او التطرف الديني لا يعني ان بنية التعليم في العالمين العربي والاسلامي سليمة ولا تستوجب المراجعة الجذرية. لا بد من الاقرار بان انظمة التعليم في بلداننا خصوصاً في ما يتعلق بمقررات المواد الدينية تعاني من اخلالات فظيعة وانها تبلغ في بعض الدول درجة المأساة الحقيقية سواء من حيث المحتويات التي لا يربطها باللحظة التاريخية رابط فكري او علمي او من حيث المناهج التي ما تزال تستند على الحشو والتلقين القاتل لاي خيال او روح بحثية نقدية. إن الدعوات الى اصلاح التعليم في المجتمعات العربية والاسلامية يعود تاريخها الى اكثر من قرن ونصف القرن، حيث كانت من اهم مرتكزات الفكر النهضوي في مصر وتونس والشام وغيرها من البلدان. وتكفي الاشارة في هذا السياق الى الشيخ محمد عبده الذي انتهى به المطاف الى الاختلاف مع صديقه جمال الدين الافغاني والتخلي عن النضال السياسي ليتفرغ بقية عمره الى اصلاح الازهر اعتقاداً منه بان تغيير العقول هو المدخل الاساسي لارسال نهضة حقيقية. فرفض الدعوة الاميركية الحالية لا يعني التخلي عن هذا المنهج الاصلاحي، لانهما يشكلان رؤيتين مختلفتين في المضمون والاهداف. * معضلة ما يسمى بالتطرف الديني تكمن في عوامل عدة متداخلة وشديدة التعقيد يصعب التعرض لها بتفصيل في هذا المقال، لكن من اهمها الازمة التي دخلها الفكر الاسلامي منذ قرون، ولم تتواصل الجهود الاصلاحية التي بدأت منذ القرن اوائل القرن التاسع عشر. ان تجديد الثقافة الاسلامية من حيث اولوياتها ومناهجها وادوات تحليلها وقراءتها للنصوص المرجعية هو المدخل الاساسي لجعل افراد المسلم مدركاً لطبيعة المرحلة التاريخية، فاصلاح التعليم لا ينتج الثقافة وانما يساعد على ترويجها وتثبيت قيمها. ان المطلوب هو ثورة ثقافية ومعرفة عميقة ولن يحصل ذلك الا وفق شروط من اهمها توفير الحريات الاساسية، والشروع في مناقشات مفتوحة بين جميع الاطراف. وهذا كله مسؤولية النخب المحلية وليست مسؤولية القوى الاجنبية وفي مقدمها الولاياتالمتحدة التي بالاضافة الى ان بيتها من زجاج فإن سياساتها تسهم في تحويل اكثر الناس اعتدالاً الى اكثر الناس تطرفاً. * كاتب وصحافي من تونس.