في مقدمة كتاب «صراع الأصوليات: التطرف المسيحي، التطرف الإسلامي، والحداثة الأوروبية»، (ترجمة د. صلاح هلال، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2015م)، ينقل مؤلفه هاينرش فيلهلم شيفر جملة لزعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن يقول فيها: «إنّ فرضية صراع الثقافات صحيحة بلا شك؛ فالقرآن يُقرُّ بوجود هذا الصراع، وفكرة السلام العالمي ليست أكثر من أسطورة»؛ وذلك في سياق التدليل على أزمة الأصوليات الدينية ومنطق تعاملها المتشابه مع كل فكر مخالف. ويستطرد المؤلّف بعد ذلك قائلاً: «وتلك الرؤية لوضع العالم الراهن تجمعه بكلٍّ من: بات روبرتسون، وجيري فالويل، وغيرهما من أعضاء النظام الأصولي اللاهوتي المحافظ في الولاياتالمتحدة الأميركية، وكذلك مع مُنظّري السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية». ومن ثمَّ؛ فإنَّ التمسُّك بفكرة صراع الحضارات، أو الأديان، أو الثقافات يوفِّر للأصوليات الدينية المختلفة؛ مسيحية كانت أم إسلامية أم يهودية، حاضنة ملائمة للتعبير عن رؤيتها الكونية إزاء مسألة حتمية الصراع مع الآخر. ولا شك في أن هذا الأمر يعد بمثابة عامل جذب قوي بحيث يدعم - في شكل أو في آخر - ليس فقط فكرة دوام الانطباعات الأولى؛ وإنما صحّتها كذلك. فقد تطورت فرضية صراع الحضارات على ضفاف الجانبين الشَّرقي الإسلاميّ (حاكمية سيد قطب في القرن الماضي)، والغربي المسيحي (نظرية هنتينغتون، خلال العقد ونصف العقد الماضيين)، حتى أصبحت نموذجاً فكرياً يحدّد معالم السياسات الدولية. وكلما تعاطى الأصوليون الدّينيون مع نموذج العالم هذا، رفعوا سقف تأثيرهم السياسي، وزادوا حدّة التطرف الديني. وحتى على افتراض أن نموذج هنتينغتون لم يكن أصولياً منذ البداية؛ فإنه قد تحول على أقصى تقدير أداة في صراع الأصوليين - على اختلاف مشاربهم - بعضهم ضد بعض، وفرض سيطرتهم داخل إطار ثقافاتهم المختلفة. إن الفكرة الرئيسة التي يدافع عنها مؤلّف الكتاب في أبوابه الخمسة تتمثّل في أن صراع الأصوليات قد اتخذ بمرور الوقت صورة الإرهاب والإرهاب المضاد على المستوى الدولي. لذا عرض المؤلّف في كتابه بعضاً من الأسس الفكرية التي انطلق منها في معالجة موضوعه، مؤكّداً أنّ أهم مقومين لكتابه هذا هما: وضع تعريف شكلي تماماً لما هو «أصولي»، وكذلك تحديد مفهوم «الحداثة». وانطلاقاً من تصوره هذا، قام المؤلّف بالتعريف بالحركات الدينية في العالم الإسلامي وفي الولاياتالمتحدة الأميركية، وتوضيح معالم الأصولية فيها، كما قام بشرح ما سمّاه «شروط صراع الأصوليات»، وصولاً إلى عرض بعض الأفكار المتعلقة بثلاثة تيارات في الحداثة الأوروبية تحت عناوين: 1- الثورة والسياسة والدين: الوضع الخاص لأوروبا، 2- التكنوقراطية والديموقراطية: أصولية الحداثة، 3- الحرية والمساواة والأخوة: سياسة الهوية الأوروبية. واتساقاً مع تراتبية منهجه هذا، بدأ المؤلف الفصل الأول من كتابه بتعريف كل من الأصولية والحداثة. وفي هذا السياق، يؤكد ضرورة الانتباه إلى أمرين رئيسين أولهما: يجب أن نستخدم مصطلحاً للأصولية يمكن دائماً للآخرين إطلاقه على من يستخدمونه؛ أي أن يكون المصطلح شكلياً قدر الاستطاعة. ثانيهما: يجب عدم استخدام المصطلح لإطلاق أحكام تتّسم بالتعميم؛ وإنما لكي يوجه النظر المتمعّن إلى وضعية وغايات الفاعلين الأصوليين. وتبعاً لذلك، ينتهي إلى تقرير أن الحركات الدينية تعتبر أصولية إذا كانت، أولاً - تجعل القناعات الدينية مطلقة، أيّاً كان محتواها العقائدي، وإذا كانت - ثانياً - تستمد منها استراتيجيةَ هيمنةٍ اجتماعية تحاول إخضاع الحياة الخاصة والعامة لإملاءات قناعاتها الدينية، وإذا كان السياق العام لتلك الاستراتيجية - ثالثاً وأخيراً – هو التسييس الجوهري لجميع ظروف الحياة في عمليات التحديث. فالعنصر أو الشرط الأول يهدف من ورائه الأصوليون إلى نوع خاص من «بناء الهوية»، حيث يقوم الفاعلون بوضع حدود منيعة تفصلهم عن الآخرين «دار الحرب، ودار الإسلام»، من خلال إضفائهم سمة الإطلاق، والعالمية أيضاً، على قناعاتهم الدينية. أما المعيار الثاني، فيحصر مفهوم الأصولية في استراتيجيات الهيمنة الدينية والتي فرّق ماكس فيبر بين تلك القائمة على الهروب من العالم، وتلك التي تهدف إلى السيطرة عليه. وكلا المعيارين السابقين - الإطلاق واستراتيجية الهيمنة - يتعلقان ببعضهما البعض. أما المعيار الثالث - وهو افتراض إضافي - فلا يتعلق في المقام الأول بتصورات واستراتيجيات المجموعة نفسها؛ وإنما بسياق عملها، أي عمليات التحديث. ووفق المؤلف، فإن الأصوليات الدينية تنشأ في أثناء تعاطي فاعلين دينيين مع مقومات التشكيل الحديث للتعايش الاجتماعي، وذلك يرتبط أيضاً بالتقنية التكنولوجية، وبتغير شرعية وتنظيم السلطة الاجتماعية في ظل عمليات التحديث؛ وهو ما يطلق عليه ديتر زينجاس مسمّى: التسييس الجوهري، أو التسييس الأصولي. ويقصد زينجاس بالمصطلح التسييس الأساسي الجاري في الحداثة على أنه سياق تكوين الهوية الأصولية. وبموازاة ذلك، يقوم تصور صمويل أيزنشتات للحداثات المتعددة على نقد نظرية الحداثة الواحدة، مؤكداً أنه من الخطأ الانطلاق من الرأي القائم على فكر هيغل أن الغرب هو النموذج للعالم، بينما الحداثة متعددة الأوجه، أو بمعنى أدق أننا نجد أنفسنا إزاء حداثات متعددة. أما في ما يتعلق بدار الإسلام؛ فقد قام الاستعمار الأوروبي بفرض الحداثة في الدول الإسلامية على عكس ما حدث في أميركا اللاتينية، حيث ترتبط الحداثة بالتحرر من الاستعمار الإسباني. ونتيجة لذلك، تم إدخال فكرة الدولة القومية العلمانية في ثقافة اضطلع فيها الدين بدور رئيسي في تنظيم الشؤون الاجتماعية والسياسية، مما أدى إلى نشوء وجه «شرقي» خاص للحداثة، تجسد في أنظمة ديكتاتورية. ولا شك، فإن التساؤل الشائك حول قدرة الإسلام على التمدن في مواجهة الغرب قد استدعى من الناشطين الدينيين في مصر - أمثال محمد رشيد رضا - الرجوع إلى المصادر الأولية بالمعنى المحافظ، فوضع بذلك المقوم اللاهوتي لتأسيس أهم منظمة إسلاموية في الشرق الأوسط؛ هي جماعة «الإخوان المسلمين». بعد ذلك، وضع سيد قطب حداً داخلياً فاصلاً في الإسلام تحول إلى برنامج بالنسبة إلى «الإخوان المسلمين». فقد نزع قطب عن مفهوم «الجاهلية» السمة التاريخية وطبّقه على الوضع الراهن؛ فأصبح المصطلح يُستخدَم لتسمية العدو الداخلي في المجتمعات الإسلامية، مما يتيح إمكانية الجهاد ضد المسلمين أيضاً! وينتهي المؤلف - من خلال استعراضه نشأةَ الأصولية الدّينية في كل من: مصر وإيران - إلى القول بإمكانية النظر إلى الحداثة العربية بوصفها مقوِّماً لنشأة الأصولية الدينية؛ إذ لا ترتبط في المخيال العام الإسلامي بالكفاح الجمعي من أجل الحرية؛ وإنما بالخضوع المزدوج للقوى الغربية. وبالعودة إلى الأثر البالغ الذي أحدثه سيد قطب، يقول المؤلف: إن تفكير «الإخوان المسلمين» السياسي يستند إلى تحول اجتماعي نقدي للفكر السني الوحدوي، فقد أصبح قطب أكثر من حسن البنا رائدَ تسييس الإسلام في الشرق الأوسط. وهو يعتمد - في الجانب الدينيّ - على كتابات المودودي؛ بخاصة ما يتعلق بفكرة «التوحيد» التي تعتبر عند المودودي مركز الفكر الإسلامي من دون منازع. والحال أن برنامج قطب لا يُعتبر برأي المؤلّف برنامجاً ثيوقراطياً يقول بحكم رجال الدّين؛ وإنما يرغب في جعل الشريعة المبدأ الموجِّه للحياة العامَّة والقانون. كما أنّ العدالة الاجتماعية تظل بمثابة النقطة المحورية وبؤرة الاهتمام بالنسبة إليه، حيث يقوم بشرحها في إطار الأشكال التقليدية للفقه الإسلامي. وتعتبر النقطة الأساسية الحاسمة في برنامج الإسلام السياسي، محاولة التعامل مع المشكلات السياسية بالوسائل الدينية إذ يكتب قطب: «إن أعداء الإسلام يحاولون إيهام المؤمن بأن أصل المشاكل كلها اقتصادي وسياسي؛ ليطفئوا شعلة الإيمان في قلبه، إلا أنَّ الوضع على العكس من ذلك تماماً: إنَّ روح الحملات الصليبية هي التي لا تزال حيَّة في الحركات الاستعمارية»، فالأمر لا يتعلق بالمصالح الاقتصادية؛ وإنما المسألة بالنسبة إليه مسألة «هوية»، ولا يمكن لشيء أن يحدِّد «الهوية» أفضل من «الوحدانية»، وشمول «الحاكمية الإلهية» لمظاهر الحياة كافة: «تمتدّ وكأنَّها أفرُع شجرة». أمَّا الإسلام الشيعيّ؛ فيعتمد على سلطة رجال الدِّين والزَّمن والطقوس، حيث يُنظر إلى الزمن بوصفه امتداداً لما بين الإمام الأول وبين الإمام الذي سيعود في المستقبل. ولذلك فإنَّ «الإسلام الشيعي» يقوم على الطَّقس وليس المعتقد، ومن الصعب التنبؤ بما يمكن أن تؤدّي إليه الحركاتُ القائمة على الطُّقوس والبُعد الزَّمني، وإذا تراجعت العقيدة إلى الخلفية، فكيف تكْتسِبُ السلطةُ الدِّينية شرعيتها؟! وفي الأحوال كلّها؛ يحاول الأصوليون في الجانبين إقناع غيرهم بأنهم يخوضون معركة بالنيابة عنهم؛ أي أنها ليست معركة «أصولياتٍ»، وإنَّما هي معركة «أنظمة»، أي «صراع ثقافات» في المحل الأول والأخير.