البديوي: إحراق مستشفى كمال عدوان في غزة جريمة إسرائيلية جديدة في حق الشعب الفلسطيني    منع تهريب 1.3 طن حشيش و1.3 مليون قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    جمعية(عازم) بعسير تحتفل بجائزة التميّز الوطنية بعد غدٍ الإثنين    مراكز العمليات الأمنية الموحدة (911) نموذج مثالي لتعزيز الأمن والخدمات الإنسانية    الهلال يُعلن مدة غياب ياسر الشهراني    جوائز الجلوب سوكر: رونالدو وجيسوس ونيمار والعين الأفضل    الفريق الفتحاوي يواصل تدريباته بمعسكر قطر ويستعد لمواجهة الخليج الودية    ضبط 23194 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود.. وترحيل 9904    بلدية محافظة الاسياح تطرح فرصتين استثمارية في مجال الصناعية والتجارية    حاويات شحن مزودة بنظام GPS    الأونروا : تضرر 88 % من المباني المدرسية في قطاع غزة    زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب الفلبين    مهرجان الحمضيات التاسع يستقبل زوّاره لتسويق منتجاته في مطلع يناير بمحافظة الحريق    سديم "رأس الحصان" من سماء أبوظبي    أمانة القصيم توقع عقد تشغيل وصيانة شبكات ومباشرة مواقع تجمعات السيول    «سوليوود» يُطلق استفتاءً لاختيار «الأفضل» في السينما محليًا وعربيًا خلال 2024    الصين تخفض الرسوم الجمركية على الإيثان والمعادن المعاد تدويرها    المكسيك.. 8 قتلى و27 جريحاً إثر تصادم حافلة وشاحنة    بعد وصوله لأقرب نقطة للشمس.. ماذا حدث للمسبار «باركر» ؟    الفرصة مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    انخفاض سعر صرف الروبل أمام الدولار واليورو    أدبي جازان يشارك بمعرض للتصوير والكتب على الشارع الثقافي    دبي.. تفكيك شبكة دولية خططت ل«غسل» 641 مليون درهم !    «الجوير».. موهبة الأخضر تهدد «جلال»    ابتسامة ووعيد «يطل».. من يفرح الليلة    رينارد وكاساس.. من يسعد كل الناس    رئيس الشورى اليمني: نثمن الدعم السعودي المستمر لليمن    مكي آل سالم يشعل ليل مكة بأمسية أدبية استثنائية    جازان تتوج بطلات المملكة في اختراق الضاحية ضمن فعاليات الشتاء    الرويلي يرأس اجتماع اللجنة العسكرية السعودية التركية المشتركة    مدرب ليفربول لا يهتم بالتوقعات العالية لفريقه في الدوري الإنجليزي    رئيس هيئة الأركان العامة يلتقي وزير دفاع تركيا    لخدمة أكثر من (28) مليون هوية رقمية.. منصة «أبشر» حلول رقمية تسابق الزمن    السعودية تقدم دعمًا اقتصاديًا جديدًا بقيمة 500 مليون دولار للجمهورية اليمنية    ضبط 3 مواطنين في نجران لترويجهم (53) كجم "حشيش"    وزير «الشؤون الإسلامية»: المملكة تواصل نشر قيم الإسلام السمحة    خطيب الحرم: التعصب مرض كريه يزدري المخالف    مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    الصندوق السعودي للتنمية يموّل مستشفى الملك سلمان التخصصي في زامبيا    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    مطاعن جدع يقرأ صورة البدر الشعرية بأحدث الألوان    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    رفاهية الاختيار    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    حلاوةُ ولاةِ الأمر    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ثقافة المراجعة . الاسلام السياسي في خطابات النخبة المفكرة : قراءة لا عقلانية تبحث عن دور شرطي في محاكم التفتيش 1 من 2
نشر في الحياة يوم 04 - 09 - 2001

يحظى الخطاب الاسلامي بجانبيه الاصلاحي والراديكالي، باهتمام كبير من جانب الأجهزة الاعلامية المرئية والمقروءة والمسموعة، وتتسابق مراكز الأبحاث على الصعيدين العالمي والعربي - على قلتها - في انتاج المزيد من التحليلات التي تطاول بنية هذا الخطاب وتاريخية الحركات الاسلامية المعاصرة. وتتباين التفسيرات في شأنها وهي لا تزال محكومة بإرادة ايديولوجية هي الأخرى أسيرة لرؤى مسبقة وجاهزة الصنع. وفي هذا السياق تتسابق دور النشر في نشر المزيد من الدراسات التي طاولت ظاهرة الاسلام السياسي في العقود الأخيرة من القرن المنصرم.
في هذا الزخم وعبر هذا السياق، يجد المرء نفسه مدفوعاً الى النضال ضد التأويلات التضييقية التي تطاول ظاهرة الاسلام السياسي والمحكومة بإرادة عدم معرفة وبالتصورات الجاهزة والمؤدلجة التي تحكم على هذه الظاهرة باللاعقلانية والارهاب وتطالب بالحجر عليها، وتقف الى جانب الدولة التسلطية في حربها التي تأخذ احياناً شكل حرب أهلية عربية عرفتها معظم البلدان من الشام الى تطوان. من هنا علينا أن نلبي دعوة الفرنسي جيل كيبيل المختص في دراسة ظاهرة الاسلام السياسي الى خلع نظاراتنا السميكة التي لم تعد صالحة لقراءة ظاهرة الاسلام السياسي.
في هذه الدراسة سنتجه مباشرة الى خطاب النخبة العربية المثقفة في أكثر أشكالها تطرفاً وعند أقربها الى الاعتدال والتضامن. ليس بهدف التعرف الى عمق الاشكالية التي يحيلنا اليها الخطاب التقدمي خصوصاً، بل للتعرف الى عمق الأزمة التي يعانيها المثقف العربي الذي يريد أن يلعب دور الداعية والتنويري الذي يرفد رؤيته الايديولوجية بسوسيولوجيا سطحية في تناوله هذه الظاهرة، سوسيولوجيا مفعمة حتى الثمالة بنزعة استشراقية توجهها وتفضي بها الى طريق مسدود. سنتجه مباشرة الى خطابات كل من المفكرين محمد عابد الجابري وفؤاد زكريا ورضوان السيد ومحمد جابر الأنصاري على ما بينها من اختلافات واجتهادات وذلك بهدف آخر هو اثراء الحوار من حول هذه الظاهرة التي حيّرت المثقفين العرب بحق.
الاعتراف بالظاهرة
من سعد الدين ابراهيم في "النظام الاجتماعي العربي الجديد، 1982" الى محمد عابد الجابري الى مثقفين عرب آخرين لا مجال لذكرهم هنا، ثمة تشديد على تلك العلاقة الجديدة بين النفط والسياسة. بصورة أدق، بين النفط والاسلام السياسي، بين ظاهرة البترودولار وظاهرة العنف السياسي التي سادت في السبعينات من القرن الماضي وما تلاه ممثلة بالشاب "المناضل المسلم" الساخط وطالبة "الطب المحجبة".
الجابري في تأريخه لظهور الحركات الاسلامية المعاصرة في المغرب العربي وفي قراءته لتاريخية هذه الحركات، وأقصد مجموعة العوامل التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أفرزتها، يميل من بين ما يميل اليه، الى رسم علاقة ما بين الثروة النفطية والاسلام السياسي، وهو يلجأ في هذا المجال الى ما هو سائد في ايديولوجيات الحداثة التي تربط ظاهرة الاسلام السياسي بالفورة والثروة النفطية. من هنا تأكيد الجابري وربطه بين نشاط هذه الحركات وارتباطاتها الخارجية.
ما بين العام 1983 الذي شهد ندوة "الحركات الاسلامية المعاصرة في الوطن العربي، 1983" والعام 1994 الذي كتب فيه الجابري كتابه "المسألة الثقافية، 1994" حدث تغيير كبير في تناول الجابري لظاهرة الاسلام السياسي. ففي قراءته لتاريخ هذه الظاهرة وظهورها على مسرح الأحداث السياسية، ساق الجابري لنا مجموعة من العوامل التي قادت الى ظهور هذه الحركات:
- هزيمة الراديكاليين العرب، بصورة أدق هزيمة الخطاب التقدمي العربي وممثليه.
- تعاظم ردود الفعل تجاه المواقف الثقافية التي يصرح بها التيار المتياسر على حد تعبيره، ويقصد بذلك التيار الماركسوي ومواقفه التشنجية والمعادية للدين والتقاليد التي تنم عن مراهقة ثقافية في رؤيتها للمجتمع العربي وحضارته الاسلامية.
- الدور الخارجي والدعم الذي قدمته الدول الخليجية لقادة هذا التيار.
- تأثير المشارقة العرب الذين جاؤوا للتدريس في المغرب العربي.
- تزامن ظهور هذه الحركات مع بداية الاغتيالات السياسية وتحديداً اغتيال المحامي المغربي عمر بن جلون ووجود ملف لاغتيالات تطاول 70 شخصية قيادية وطنية في المغرب.
في رأيي ان أهم ما يلفت في قراءة الجابر لتاريخية الحركات الاسلامية المعاصرة أمران: الأول توقيته لظهور هذه الحركات على المسرح السياسي المغربي مع بدء عملية الاغتيالات اغتيال بن جلون، علماً انه بات من المعروف أن الاستخبارات كانت وراء اغتياله. والثاني ربطه ظهور هذه الحركات بوجود اتصالات خارجية. وفي رأيي ان الأمر الأول الذي يقودنا اليه الجابري يدفع باتجاه التمويه الايديولوجي والإدانة، ادانة هذه الحركات لأن تاريخها يرتبط بالعنف، وهذه رؤية ايديولوجية تهدف في النهاية الى تبرير العنف المضاد، أي عنف السلطة تجاه هذه الحركات التي يشكل العنف بنية ثقافتها كما يرى الجابري. والثاني وجود اتصالات خارجية. وهنا يقع الجابري ضحية العقلية التآمرية عندما يربط بين النفط والحركات الاسلامية ليجعل من الأخيرة نتيجة.
وانطلاقاً من هذه الرؤية المؤدلجة التي تأخذ شكل تمويه ايديولوجي يقع في المتن من ارادة عدم معرفة لتاريخية هذه الحركات وذلك على العكس من إرادة المعرفة التي حكمت قراءته للعقل العربي في تكوينه وبنيته وبعديه الأخلاقي والسياسي. أقول انطلاقاً من هذا، ينذر الجابري هذه الحركات للاضمحلال والضمور. إنها "ظاهرة ظرفية" كما يقول الجابري، تستمر باستمرار الظروف التي ساعدت على قيامها، خصوصاً أن هذه الحركات تفتقر الى الزعامة والى غياب مشروع فكري سياسي وهذا ما يجعلها آيلة للسقوط إن عاجلاً أم آجلاً ندوة الحركات الاسلامية في الوطن العربي، الصفحات 228، 229، 231.
ندوات
ليس غريباً أن يشهد العام 1983 أهم ندوتين عربيتين: الأولى عن "الحركات الاسلامية المعاصرة في الوطن العربي" آذار مارس 1983 وضمت شخصيات فكرية بارزة مثل الجابري ومحمد أحمد خلف الله والغزالي والغنوشي وفهمي جدعان والجنحاني... وغيرهم، والثانية ضمت التقدميين العرب بعنوان "اليسار العربي الراديكالي: مواقفه، أزمته، رؤيته المستقبلية" 11 - 12 كانون الثاني يناير 1983. وجاءت الندوتان في أعقاب هزيمة عربية جديدة اجتياح اسرائيل لبنان وأقصد هزيمة حزيران يونيو 1982 واحتلال اسرائيل بيروت. سعت الندوة الأولى الى تلمس قراءات مختلفة لتاريخية الحركات الاسلامية الا أنها ظلّت عالقة في شراك الايديولوجيا ومشدودة الى انطباعات عابرة في قراءة هذه الحركات، أما الندوة الثانية فجاءت لتؤكد عجز اليسار العربي الراديكالي وفشله في تحقيق أمرين: التنمية المستقلة والديموقراطية في معنى لقمة الخبز والحرية. وكان هذا يعني أن ظروف الارتهان الى الخارج ما زالت قائمة وأن الجوع، كما تشهد على ذلك التظاهرات التي سادت الساحة العربية من الجزائر 1988 الى مصر 1987 فيما عرف ب"ثورة الخبز" هو الشاهد على غياب الحاجات البسيطة الى العيش، وأن غياب الحريات وحقوق الانسان ليس ظرفاً عابراً وأن بقاء العدو الصهيوني حاكماً على الأرض ليس هو الآخر عابراً، وأن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي هيأت لانتشار هذه الحركات لا تزال قائمة، وأن الظرفية التي تحدث عنها الجابري تقع في دائرة التمويه الايديولوجي. فظاهرة الاسلام السياسي هي ظاهرة موضوعية وتحتاج الى قراءة جديدة وبعيدة من ردود الفعل التي يقدمها الخطاب "التقدمي العربي".
بعد عقد من الزمن، كان على الجابري أن يعيد حساباته وقراءاته ليتقدم بقراءة جديدة ويسجل لنا اعترافاً جديداً يقطع مع اجتهاداته السابقة. فمن وجهة نظره، يجب الاعتراف بهذه الحركات كشيء واقع وانها ظاهرة لها أسبابها الموضوعية، وهذا يتطلب منا تحليلها للكشف عن أسبابها الحقيقية وعن تركيبها وآلية عملها. لم يكتف الجابري بتسجيل تراجعه في فهم الحركات الاسلامية بل راح يشترط أمرين للقيام بمعالجة عقلانية لظاهرة الاسلام السياسي. الأول: وجود مسافة بين المعالج وموضوعه تسمح له برؤية حقيقية لهذه الحركات. وهنا يعيب الجابري على الخطاب العربي المعاصر انطباعيته ورؤيته المؤدلجة لهذه الحركات. والثاني: التعامل معها كظاهرة تتكرر، كتجربة متنوعة، فالتعامل معها كفضلة زائدة أو ككتلة متراصة لا يفيد في هذا المجال كما يفعل "الخطاب العربي المعاصر".
مع اقراره بموضوعية الظاهرة، إلا أن الجابري لا يكشف لنا عن أسبابها الموضوعية، ولذلك فهو ينصرف كلياً الى البحث في ثوابت التطرف. فمن وجهة نظره ان التطرف الذي يسم هذه الحركات يؤكد لنا أموراً عدة، فالتطرف عبارة عن رد فعل على وضعية اجتماعية سياسية اقتصادية أو ثقافية كرد فعل على موقف فكري حاد من جانب التيار المتياسر وهو رد فعل لا عقلاني يتجه الى التمويه الايديولوجي، وثالثاً إنه رد فعل تقمصي ميثولوجي يتحول المتطرف الى شخص مثالي والى بطل فوق التاريخ.
لا يكتفي الجابري في توصيفه للتطرف، فالتطرف من وجهة نظره لا يبني حكمة ولا داراً، وهو موقف ذاتي يلغي العالم، وأن الغلو وعدم التسامح والدوغمائية تمثل أعمدة التطرف والذي هو باختصار عمل من أعمال اللاعقل ويعبر أكثر ما يعبر عن استقالة العقل المسألة الثقافية: الصفحات 111، 114،116،117،119، 120، و160 وما بعد.
لم يتخلص الجابري من شراك الايديولوجيا وأفخاخها في رؤيته لظاهرة الاسلام السياسي، لا بل انه لم يتخلص من النظارات السميكة التي اشتكى منها جيل كيبيل، إذ بقيت عالقة في قميص الجابري وجاهزة للاستعمال. إن رمي الحركات الاسلامية بالتطرف يعني نسيان التطرف المضاد، تطرف السلطة والذي لا يوازيه تطرف. الى ذلك يسم التطرف تياراً معيناً داخل الجماعات الاسلامية وليس كلها، وعلى سبيل المثال فالتيار المتطرف في الجزائر ليس هو تيار عباسي مدني أو الشيخ علي بلحاج أو تيار مثقفي المدن. في المقابل لا أجد مبرراً لاتهام الحركات الاسلامية بغياب العقل واستقالته. ولعل المتتبع لخطاب هذه الحركات، الخطابات المفكر فيها لا يلحظ غياب العقل كما يرى رضوان السيد، بل على العكس من ذلك تماماً؟ كان يمكن الجابري المختص في "العقل السياسي العربي" أن يتقدم بخطوات مهمة في هذا المجال، وأن يسهم في فهم جديد للواقع العربي، إلا أن محاولته بقيت مشدودة الى ربقة السلف الايديولوجي، وبهذا وقع في ما حذّرنا منه.
الفيلسوف والحقيقة
ما أقصده بالفيلسوف هنا هو الدكتور فؤاد زكريا، وجاء اختياري لرؤيته ظاهرة الاسلام السياسي مقصوداً وذلك لأسباب عدة: أولها ان خطابه مقبل من حقل الفلسفة ويصدر عن مشتغل بالفلسفة وهذا ما يجمعه بالجابري، إذ يفترض بهذا الخطاب أن يكون مسكوناً بهمّ انتاج الحقيقة، وثانيها أنه خطاب يفترض به أن يكون محكوماً بمنطق العقل لا منطق الهوى والميل الى ممارسة السلطة واصدار الأوامر، وثالثها إنه خطاب يصدر عن داعية تنويري لم يمل القول بعد من أنه تنويري وتقدمي وديموقراطي يسعى الى ممارسة الحوار والاعتراف بالآخر.
من أواسط الثمانينات الى أواسط التسعينات من القرن الماضي، وبالضبط منذ أن كتب الدكتور زكريا كتابه الموسوم ب"الصحوة الاسلامية في ميزان العقل" 1985، الى ندوة "الحركات الاسلامية والتعددية السياسية" التي عقدت في القاهرة مع مطلع أيلول سبتمبر 1995، مروراً بندوة "الاسلام والعلمانية" التي عقدت في "بيت الحكمة" في القاهرة، أقول على طول هذه الفترة الزمنية اننا نلحظ تنامياً في زيادة الاتهام في خطاب الدكتور زكريا، وقذفاً بالآخر الى خارج عالم العقل واتهاماً له بالتخلف والجمود.
في معظم كتاباته، يقيم زكريا تضاداً بين الصحوة الاسلامية وبين العقل، بين الحركات الاسلامية وبين العلمانية، بين الحركات الاسلامية وبين التعددية السياسية، تضاداً يمهد الى نسف هذه الحركات وشطبها لأنها كما يرى زكريا خارج العقل والتاريخ والحضارة. وفي تحليله للمشهد العلني الذي تظهر به هذه الحركات على المسرح الفكري والسياسي يسوقنا زكريا الى انطباعات عدة هي من وجهة نظرنا ليست ناتج تحليل بل مجموعة انطباعات عابرة:
- النزوع الشديد الى ممارسة العنف.
- سيطرة العاطفة على حساب العقل "كراهية هؤلاء الشباب للتفكير المرتكز على العقل وارتباطهم بمن يخاطب عواطفهم".
- العجز التام عن الاستعداد للاستماع الى الرأي الآخر.
- الميل الى اسكات الرأي المعارض بالقوة.
- الميل القوي الى اللاعقلانية.
- الطاعة المطلقة لأفكار قادتهم وأوامرهم.
- السعي المستمر الى إلغاء العقل.
- الاهتمام بالشكل على حساب المضمون. فالمظهر الخارجي يحتل أولوية كبيرة في سلوك هذه الحركات.
وفي هذا السياق يقف الدكتور زكريا عند شكليات ثلاث تتعلق بالمظهر الخارجي والملبس والحياة الجنسية والشعائر الدينية ليزجي انطباعات سطحية في غاية الخفة والتهور واللامسؤولية. فالاسلاميون حمقى من وجهة نظره لأنهم يتمسكون بملابس عفا عليها الزمن. يقول: ومن ثم فإذا تغيرت أعمال الناس وبيئتهم كان من الحمق أن يتمسكوا بشكل للملابس كان يصلح لأداء أعمال مختلفة في بيئات مختلفة" الصحوة الاسلامية، ص 22، وفي مجال الحياة الجنسية يطالب بإحالة الاسلاميين الى المحللين النفسانيين. فمن شأنهم أن يكشفوا أن أهل الاسلام السياسي هم مرضى جنسياً. إذ ان التحريم المفرط هو الوجه الآخر للعملية نفسها الشبق والحرمان. وفي قراءته للشعائر الدينية يرى زكريا أن التركيز على الشعائر الدينية وشكليتها هو في حقيقة الأمر تستر على المظالم ومساندة الاستبداد المصدر نفسه، ص 23.
ما يتملك الدكتور زكريا هو خوف شديد من وصول الحركات الاسلامية الى سدة الحكم ولو من طريق الديموقراطية كما حدث في الحال الجزائرية. انه يرفض هذا الشكل من الديموقراطية ويدعو في المقابل الى ديموقراطية مقيدة بالقانون الذي يحرم على هذه الحركات ادعاءها أنها ممثلة للدين. يقول في ندوة الحركات الاسلامية والتعددية السياسية: "يجب الغاء وتحريم هذا الادعاء بقوة القانون".
إن الخوف على الديموقراطية أو لنقل على ديموقراطية يفصلها زكريا على مزاجه، يدفع بزكريا الى توزيع الاتهامات في كل الاتجاهات:
- اتهام الحركات الاسلامية بالجهل والتخلف والعنف وغياب العقل، وهذا يمهد الى ضرورة فرض الوصاية عليها كما يطمح الى ذلك الدكتور زكريا؟
- الوقوع في براثن العقلية التآمرية اعتماداً على الظن والتخمين وذلك عندما يتهم الحركات الاسلامية بالعمالة لمصلحة الولايات المتحدة التي تريد أن تضع النبيذ في الزجاجات القديمة على حد تعبيره. وتنامى هذا الاتهام في ندوة "الحركات الاسلامية والتعددية السياسية". فأميركا من وجهة نظره تحتضنهم وتمد قنوات الاتصال معهم بغض النظر عن حادث مركز التجارة في نيويورك وذلك لاعتقادهم كما يقول أن الاسلاميين قادمون لا محالة. ومن هنا ثناء الدكتور زكريا على الموقف الفرنسي الذي يطارد الاسلاميين وينظم الحملات لطردهم وملاحقتهم واقتناصهم وترحيلهم عن الأراضي الفرنسية، وهذا ما يثير استغرابنا من جانب داعية "ديموقراطي مستنير" كما يصنف نفسه؟
إن فيلسوفنا يضع كل ثقله على عاتق الدولة، لنقل على عاتق دولة شرق المتوسط، على عاتق الدولة التحديثية الاستبدادية التي وصفها برهان غليون بالدولة ضد الأمة. فهو يعيب على الدولة أنه لا توجد عندها محاولات جادة للتصدي للجماعات الاسلامية في محاولة لترجيح كفة المستنيرين العرب. لكنه يستدرك بقوله ان الدولة واعية بالخطر الشديد على حد تعبيره الناجم عن هذا الفكر الجامد الذي لا يجد حتى الآن من يناقشه بطريقة جذرية - هنا تكمن أهمية انطباعات زكريا - أو من يتصدى لهم بطريقة جذرية، والحجر عليهم، خصوصاً أن طريق التقدم العربي معبدة بجثث وأشلاء الرجعيين والظلاميين الذين حالوا دون وصول المستنيرين العرب الى جنتهم الديموقراطية.
ما يستنتج أن خطاب الدكتور زكريا هو أولاً مجموعة انطباعات لا شأن لها بانتاج الحقيقة، وثانياً أن عقلانية زكريا تؤله العقل وتجعل منه صنماً ووثناً. وبذلك يخون زكريا أواليات انتاج الخطاب الفلسفي الحديث الذي يرى أن العقل صيرورة وأداة تحتاج الى أن تشحذ باستمرار وليس جوهراً يسبق تحققه وحقيقة تتعالى على شروط انتاجها، وثالثاً ان خطاب زكريا مسكون بالحاجة الى ممارسة السلطة من خلال تحريضه السلطة على مواجهة تيار الصحوة الاسلامية، وهذا ما يكشفه التحليل النفسي عما يسميه لاكان Lacan ب"لا شعور الخطاب" عن ميل المخاطب - بكسر الطاء - الى ممارسة التفوق والسلطة، رابعاً وقوعه في براثن العقلية التآمرية في تفسيره للزخم السياسي للحركات الاسلامية المعاصرة التي لا تظهر على أنها حركات وطنية كما يثبت الواقع في فلسطين ولبنان، بل حركات عميلة أسهم الخارج في ايجادها وتغذيتها، وخامسها أنه غير ديموقراطي عندما يقوم بقياس الديموقراطية على مقاس خطابه الفلسفي الاستبدادي الرامي الى وضع حد - بالقوة - للنشاط السياسي لهذه الحركات، بفرض الوصاية عليها وإعادة توجيه سلوكها بهدف اخراجها من الجمود والانغلاق والتخلف كما يقول.
والسؤال: علام يدل كل هذا والى ماذا يشير؟ في رأيي ان هذا يشير الى الأزمة المتحكمة في رقاب خطابنا العربي المعاصر، التي تجعل منه خطاب قناعة واعتقاد لا خطاب نقد ومنهج. وهذه سمات تطبع خطاب الدكتور زكريا وتختمه بخاتم الأصولية والعلمانية لتجعل منه خطاباً تغذيه الأحكام المبتسرة والجاهزة، خطاباً تحكمه الدعوة الى الوصاية وغياب الحوار. وهذا يعني أننا أمام خطاب مأزوم وغير عقلاني وغير ديموقراطي، خطاب ليس من شيمته البحث عن الحقيقة، بل البحث عن دور جديد، دور شرطي الأفكار في عالم عربي يسعى الى الاكثار من محاكم التفتيش الجديدة التي تحتمي بالعقلانية والتنوير؟
* كاتب سوري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.