} يجوز اعتبار "موبي ديك" 1851 اهم رواية صدرت في اميركا خلال القرن التاسع عشر. هذه الرواية التي لم تعرف مجداً وشهرة إلا مع بدء عشرينات القرن العشرين، يحتفى بها االيوم بمناسبة مرور 150 عاماً على نشرها. ترجمتها العربية صدرت للمرة الاولى عام 1965 بتوقيع احسان عباس عن دار الكاتب العربي ومؤسسة فرانكلين للثقافة بيروت - نيويورك. هذه الترجمة صدرت في طبعة جديدة عام 1998 عن دار المدى دمشق والمجمع الثقافي ابو ظبي. الناقد الفلسطيني فيصل درّاج صاحب "نظرية الرواية والرواية العربية" يقدم هنا قراءة حول البحث المعرفي في عمل هرمان ملفل. نشر هرمان ملفل عام 1851 رواية شهيرة، عاشت زمنها واحتفت بها أزمنة لاحقة، مذكّرة بنصب تاريخي جليل، لا تنضب فتنته ابداً. وما فتنة "موبي ديك" إلا رموزها المتعددة، التي تضيف قراءة الى اخرى، وتؤكدها القراءات المتتابعة عملاً متجدداً، لا تمسّه اصابع الشيخوخة إلا بقدر. ولعل حضور العمل المنير هو ما جعل نقّاداً يعطفون عليها رواية أرنست هيمنغواي "العجوز والبحر" وروايات اخرى لكافكا ومالرو وديستويفسكي وألبير كامو. تقترح رواية ملفل على قارئها دروباً فاتنة عدة، يقبل منها بما يشاء ويرتضي، وفقاً لثقافته وقدرته على القراءة حيناً، ووفقاً لمنظوره، الضيق او الواسع، الى العالم حيناً آخر. فقد يرتاح الى ملكوت البحر، إذ البياض والزرقة وتلاطم الأمواج، وذلك الغموض الهائل الذي يوزّع القلب على الروع والروعة. وربما يستيقظ فيه سؤال لا يموت عن لا تناهي الكون ونهائية الإنسان الفاجعة. وقد يبهره عالم الرموز الدينية، الذي يردّه الى بدايات الخير والشر وخلاص الطيبين. وقد يُفتن القارئ، إن كان ملمّاً بعوالم البحار، بذلك التقصي الغريب الذي أملى على روائي فقير أن يصرف زمناً واسعاً في التعرف على المخلوقات البحرية ... وفي امكان القارئ ان يضع هذه الوجوه جميعاً في هامش ضيّق، وأن يستولد دلالة العمل الروائي من "الزمن الملحمي" الذي ولد فيه. وفي الحالات جميعاً، يتكشّف العمل التاريخي في جهات مختلفة، آخذاً بيد القارئ برفق كبير، الى الوجه الذي مال إليه، وإلى قراءة رحبة للوجه الروائي المرتضى. في زمن يبدو بعيداً، كتب جورج لوكاتش في "نظرية الرواية" عن الانسان الحديث الذي اكتفى بذاته، وانطلق وحيداً يواجه العالم الخارجي، إلا من ذات مسكونة بتناقض مأسوي: فبقدر ما تبدو الذات قوية وقد تحررت من المراجع الميتافيزيقية، فإنها تظهر هشة، بعد ان غادرها اليقين الديني. ولهذا لن يبقى لها إلا عزلتها الباردة، وذلك "المونولوج" الحزين الذي ينتهي الى لا مكان. وما "أشعب" في "موبي ديك"، بحقده المتفجر وساقه المبتورة، إلا صورة عن الرجل الوحيد الذي يواجه الطبيعة مغترباً، معتقداً انه جزء من الطبيعة وسيد عليها في آن. وبسبب وهمه الكبير، الذي يخلع آلهة وينصّب مكانها آلهة إنسانية جديدة، ينتهي الى الموت، كما لو كانت المواجهة مع "الحوت الأبيض" اختباراً لقوة الإنسان الحديث، وإعلاناً عن هزيمته المبكّرة. بروميثيوس يشتق التأويل السابق البحار العصابي من زمن حديث، تخلى فيه الانسان عن الضمان الإلهي وارتكن الى ذاته المطلقة. غير ان هذا التأويل لا يلبث ان يضطرب امام تأويل لاحق، لا يلائم العصر الحديث كثيراً. فمن المفترض ان الانسان الحديث طرد الميتافيزيقا والغيّبيات وارتضى بالعقل مرجعاً وحيداً، بل انه توسل العقل وأدواته وهو يروّض الطبيعة ويجعل منها امتداداً انسانياً. بيد ان "أشعب" او "آخاب" يهزم قواعد العقل وهو يطارد، وبشكل اعمى، الحوت الأبيض، ذلك ان هذه المطاردة المسعورة لا تروّض الطبيعة بل تكسر قوانينها. كأن "أشعب" المطمئن الى العقل، وهو يجوب آفاق البحار، يطبق على الطبيعة نظاماً لا عقلانياً. ولعل الركون الى العقل، في صناعة الأدوات والوسائل، والتخلي عن العقل، لحظة استعمال الأدوات والوسائل، هو الذي يرمي على البحار العصابي بالخذلان والهلاك. في هذا التعارض بين ذات متحررة وعقل لا عقلاني يستعيد "أشعب" أطياف بروميثيوس، ولكن في شكل مقلوب. فإذا كان بروميثيوس قد سرق نار الآلهة وغامر بروحه من اجل خير الآخرين، فإن بطل هرمان ملفل ذهب في اتجاه مختلف. فقد آمن البحار المبتور الساق برغباته الداخلية وانقاد وراءها حتى دمّر ذاته تدميراً كاملاً وانتهى مصلوباً على ظهر ضحية بريئة ولكنه، وهو ينجذب الى هوة لا رجوع منها، كان يجذب مَنْ معه الى فوهة الموت، كما لو كان نذر ذاته دليلاً آثماً، يسير الى الموت بخطوات ثابتة، ويشد من معه، وبثبات اكبر، الى الهاوية الأخيرة. في اسطورة بروميثيوس ما يجسّد الفعل الاخلاقي ويعبّر عنه، إذ الدليل يشعل ذاته من اجل غيره، بينما يشعل "آخاب" النار بالآخرين، كي يضيئوا له دروب رحلته الأخيرة. ولعل رحلة الشر المتوّجة بالخراب هي التي أملت على ملفل، الذي حوّل الكتابة الروائية الى استقصاء معرفي، ان يعطي السفينة الآفلة اسماً محدداً هو: "بيكود"، التي تحيل الى قبيلة هندية شهيرة، رقدت عظامها باردة في التراب منذ زمن طويل. بل ان اسم السفينة، في لغة الهنود المنقرضة، يعني "المدمّر"، الذي يؤثر مزاملة الشيطان على أي شيء آخر. وفي هذه السفينة المنذورة للخراب كان القبطان يقف صامتاً في "قمرتها" العليا، يشرف من علٍ على بحارته المنكودين، وينظر إليه من الأسفل بحارة تروّعهم نظراته القاتلة. وبغية توريط بحارة، يصطادون الحيتان ولا يخترعونها، وضع جائزة لأول من يرى "موبي ديك" فارضاً على البحارة ان يذهبوا الى الموت وأن يسعوا إليه سعياً، عوضاً عن ان يأتي إليهم متمهلاً وعلى غير موعد. الى جانب التأويل السابق تسمح رواية ملفل، التي وضعها إحسان عباس في ترجمة عربية رائقة، بتأويل آخر قوامه غموض الكون وفتنة المعرفة. وتتوزع المعرفة الفاتنة على اتجاهين، يمسّ اولهما علاقة الانسان بذاته، ويرتبط ثانيهما بعلاقة الانسان بكون مسكون بالأسرار والغموض. وفي الاتجاه الأول يعمل الانسان على اختبار قدراته بعد ان أعلن ذاته، في الزمن الحديث، سيداً على الماء واليابسة وعلى الأرض والسماء، أي بعد ان نصّب ذاته مرجعاً للأرض والسماء معاً. والطموح هذا مغمور بعماء لا نهاية له، ذلك انه يوهم الإنسان بأنه مركز العالم، عوضاً عن ان يرى نفسه حيّزاً صغيراً عابراً. ومآل الطموح، الذي يواجه المتمرد فيه عالماً لا يعرف اسراره. هو الموت، كما لو كان الموت هو الموقع الأخير الذي يستقبل المعرفة المتمردة، مبيّناً ان المعرفة الكاملة لا تقوم في العالم المرئي بل في عالم آخر، يتجاوز العالم الإنساني ويفيض عليه كثيراً. ولعل الكون الغامض الذي يتحدّاه انسان مسحور بالغموض هو الذي يجعل عالم "موبي ديك" لا زمن له، إذ لا شيء واضح المعالم إلا الموت، وإذ الأزمنة كلها مضطربة باستثناء زمن الانتقام. أوليس في رحلته الشهيرة انجذب "أوليس" الى أصوات الساحرات، ولم يكن ذلك الانجذاب الا غواية المعرفة، التي تستدعي الانسان طاغية ومتواترة الى ان يقع في قلب المصيدة. وما كان ل"آخاب" ان يقاسم البطل الاسطوري اليوناني مصيره، ذلك ان الثاني كان تحت انظار الآلهة، التي تختبره وترعاه في آن، وترمي عليه باللطف والمؤانسة بعد فترة معذبة، على خلاف "أشعب"، أو "آخاب"، الذي تخلّت عنه الآلهة، بعد ان خلع جلد البراءة الاولى وصمم على امتلاك الكون وترويض اسراره، فإن لم تقبل بالترويض رفع في وجهها رماح الانتقام. ولهذا بدا البحار المبتور الساق نبياً بلا رسالة، بل نبياً زائفاً، ذلك انه ارسى مبادئ المعرفة على مبادئ الانتقام، ووضع الموت في سيرورة المعرفة، وأقام بينه وبين البحارة مسافة باهظة، بعد ان ألزمهم بمطاردة الحياة وهم يظنون انهم يطاردون الموت، الذي لا يطارده احد على اية حال. من قلب الثورة الصناعية وعالم الآلات المتناتجة، التي تعيش الزمان والمكان واللحظة والبرهة والهنيهة، خرج بطل رواية موبي ديك مسكوناً بالعماء والانتصار في آن. فهو منتصر وهو يرى الى الآلة الحديثة تعيد خلق المادة الصماء وتنطقها بحروف انسانية، وهو اعمى حين اعتقد ان العقل يحمل ضمانه فيه، وان العقل المستقيم الساقين يمسك بالأسرار كلها ويكسوها ألبسة أليفة. وفي هذا الوهم التراجيدي كان البحار بساقه المبتورة ينجز اختراعين بائسين: كان يخترع ذاته اولاً وقد نظر الى مرآة شاسعة طولها السماء والارض، كي يرى ذاته متمدداً ومديداً شاسعاً يلمس قرار البحر ويمسك بالنجوم وهو مستلقٍ على ظهره. وبعد ان تعالى وتمدّد واستكبر، كان عليه ان يخترع ضحية تشبع خيالاته الحضارية وترضي غروره المريض وتلبي ذاتاً مسكونة بالموت والانتقام. وبما ان المأساة اتخذت من البحر مسرحاً لها، فلن تكون الضحية المخترعة الا "الحوت الابيض"، او "موبي ديك"، الذي يُسقط عليه البحار هوسه الشيطاني ليرى فيه شيطاناً رجيماً وإبليساً يكتنز الشر الكوني كله ... اخترع "آخاب" الحوت الابيض، وأعطاه صورة جديدة، فبدا شيطاناً بعد ان كان مخلوقاً من مخلوقات الطبيعة تحتضنه بحارها منذ بدء الخليقة. وبداهة فإن شكل الاختراع يوافق شكل الانتقام المقترح، الذي يزهق روح الحوت البريء ويؤكد البحار المنتقم سيداً على البحار. وبسبب ذلك فإن الرحلة المجنونة المنفلتة من عقال العقل لن تلتقي الا بجنونها الذاتي، كما لو كانت الرحلة هي المسافة الطويلة التي يتداعى فيها، شيئاً فشيئاً، عقل البحار وجسده وروحه الى ان يصطاده الموت في يوم مبارك. وهكذا هزم "البياض" الطبيعي، السواد الحديث المتأله، وبدا النبي الزائف كما اراد ان يكون، تجسيداً للشر، بل "تجسيد الشر بقدم واحدة" و"إنساناً آلياً" و"مهووساً نصّب ذاته نبياً"، وصولاً الى "الانسان المتحضّر بأخطائه الهائلة". تجسّد رواية "موبي ديك"، وهي تتحدث عن فتنة المعرفة القاتلة، فتنة المعرفة الاخرى، المشبعة بالحكمة والبصيرة والاستبصار. فروح الفرد تفضي الى روح العصر، والروح الاخيرة تسائل التاريخ، والأخير ينفتح على الاسئلة الخالدة، التي يضطرب فيها الخير والشر والمتناهي واللامتناهي والموت والحقيقة وشهوة الانسان الى امتلاك كل شيء. وفي الاحوال كلها، فإن المأساة الانسانية قائمة في المفردات جميعاً في مصير الصياد المجنون ايضاً. ولهذا لم يكن غريباً ان تنفتح الرواية، ومن صفحاتها الاولى، على موضوع العزلة، فكل بحار، وكما يقول اسماعيل راوي المأساة، يحمل عزلته ويعيش منفصلاً عن الآخر. وتكتمل المأساة حين ينتظر هؤلاء المساكين قدوم انسان يوحّد بينهم ويعطي لحياتهم معنى. ولا يعثرون، في النهاية، الا على الموت والقائد المنتظر الزائف الذي يرسلهم الى الموت. كأن على الانسان ان يدفع ثمن خياره، كي لا يختار دليلاً مأفوناً لم يعرفه ولم يختبره. مفارقة اخرى تضع الضحك الاسود في صميم الوجود الانساني.