غيّب الموت أول من أمس ضابط الاستخبارات المغربي المتقاعد محمد العشعاشي في الرباط، فغاب آخر الشهود في قضية خطف المعارض المغربي المهدي بن بركة واغتياله في باريس عام 1965. والأقدار وحدها حتمت مصيره في اليوم ذاته الذي غاب فيه بن بركة في ظروف غامضة في التاسع والعشرين من تشرين الأول اكتوبر، ولم تسعفه ليشهد محاكمة الضابط أحمد البخاري بعدما رفع وزملاء له دعوى قضائية ضد الأخير الذي اتهم بالضلوع في خطف بن بركة وتذويب جثمانه في حامض الأسيد في مقر الاستخبارات الكاب واحد في الرباط. منذ اتهامات البخاري للعشعاشي وثلاثة ضباط آخرين، بينهم شقيقه عبدالحق، غاب "السي محمد" كما يلقبونه، عن الأنظار، وبقي مقعده شاغراً في مقهى في شارع 16 نوفمبر في العاصمة المغربية. وحين سألنا شقيقه قبل بضعة أيام عن إمكان اجراء مقابلة مع الرجلين، أجاب أن صحة شقيقه تدهورت، وكشف أنه سُئل يوماً عن قضية بن بركة فأجاب: "إن لم يكن الملك الراحل الحسن الثاني تحدث في الموضوع إلى المقربين منه، فأنا لن أفعل ذلك"، وازاء الاصرار وعدنا بمقابلة عندما تسمح الظروف. قبل أن يرحل العشعاشي عرض الفيلا التي يسكنها للبيع، كما لو أنه يريد التخلص من شيء ما. قال لأصدقائه إنه اضطر لذلك بسبب فاتورة المياه المرتفعة، وأوضح انه حاول حفر أكثر من بئر ولم يعثر على ماء. وحدها الفيلا كانت من دون بئر، وحين اوقفه شرطي المرور في طريق زعير في الرباط بسبب تقادم سيارته، أخرج بطاقة العمل وقال: "أنا مراقب حقوق الإنسان"، لكن الشرطي نصحه باستبدال السيارة لأنها لم تعد صالحة. والظاهر أن حياة الرجل لم تعد كذلك، إذ كان ترداد اسمه يثير على الخوف. وحدث أن محامياً بارزاً كان من ضحايا اعتقالات سنوات الاحتقان السياسي في البلد، أبلغنا قبل فترة أنه لا يرغب في متابعة العشعاشي قضائياً، على رغم أنه خطفه من مدريد واقتاده إلى معتقل دار المقري السري، وعزا ذلك إلى كون ابنته تدرس وابن العشعاشي في كلية الحقوق في الرباط. قال إن العشعاشي كان يبعث إليه التحية عبر ابنته فيبادله مثلها عبر ابنه. كذلك هي حال المعارضين والسياسيين و"رجال الرئيس" في المغرب يجتمعون حول موائد الأعراس والجنائز، لكن الفرق بين العشعاشي وبن بركة أن للأول قبراً في الرباط، في حين ان الثاني بلا قبر. وقبل نحو عشرين سنة غيّب الموت الجنرال أحمد الدليمي الذي حوكم في قضية بن بركة في باريس، وبعد أيام قليلة قتل الضابط الغالي الماحي في حادث سير، كما غيّب الموت شهوداً آخرين في مقدمهم الجنرال محمد أوفقير. لكن ضابطاً سابقاً أسّر إلينا بأن اوفقير سأله عن اسمه الكامل، وقد يكون اطلق على قضية بن بركة حرفي ب. ب، لكن العشعاشي قال حين سألناه عنهما "إنهما لبريجيت باردو أليس كذلك"؟ ورفض اجراء أي مقابلة، تماماً كما البئر التي لم يعثر فيها على ماء، لكنه دفن فيها أسراره.