محافظ هروب يرعى حفلَ الأهالي بمناسبة اليوم الوطني ال 94    أنباء متضاربة حول مصير حسن نصر الله    اتفاق على الإعفاء المتبادل من التأشيرة بين المملكة وطاجيكستان    الجبير يلتقي وزير الدولة البريطاني لأمن الطاقة والحياد الصفري    رصد المذنب "A3" فجر أمس في سماء مدينة عرعر بالحدود الشمالية    نخيل القصيم أمسية في المسرح الروماني    رابطة العالم الإسلامي ترحب بإعلان المملكة إطلاق "التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين"    الاتحاد يطيح بالخليج برباعية في دوري روشن للمحترفين    الزمالك سوبر أفريقيا    مدرب الأهلي: أنا المسؤول عن الخسارة أمام القادسية.. ومطالبي لم تتحقق    القادسية يتغلب على الأهلي بهدف في دوري روشن    رئيس وزراء فلسطين: إسرائيل مقتنعة أنها دولة فوق القانون    نقاء تدشن إنطلاقتها بالإحتفاء باليوم الوطني السعودي ٩٤    محافظ احد رفيدة يرعى احتفال المحافظة باليوم الوطني 94    نخيل القصيم أمسية في المسرح الروماني    محافظ العيدابي يرعى احتفال الاهالي باليوم الوطني ال94    مستشفى بيش العام بتجمع جازان الصحي يحتفي باليوم العالمي للصيدلي    فيصل بن فرحان يلتقي وزير خارجية كوريا    الاتحاد يعبر الخليج.. و الأهلي ينزف    السوبر الافريقي: ركلات الترجيح تحسم اللقب للزمالك على حساب الاهلي    إحباط تهريب (130) كجم «قات» في جازان و(10) كجم «حشيش» في عسير    الكتاب... «معين يفيض بالمعرفة»    أنباء متضاربة عن اغتيال نصرالله    وزير الخارجية: الحرب في غزة هي أساس المشكلة وسبب التصعيد في المنطقة    القطاع الخاص يشرع في تنفيذ أول منصة رقمية لمنظومة الترفيه    إنجاز 61 % من مشروع تقاطع الأمير نايف مع الدائري الثالث في المدينة المنورة    شكر النعم    «الصحة» تؤكد.. أولوية "الخدمة" لمن لديهم مواعيد مسبقة في المراكز الصحية    الاندماج بين مجموعة مغربي للتجزئة وريفولي فيجِن يقود إلى تطور قطاع البصريات في الشرق الأوسط    وزير الاقتصاد والتخطيط يلتقي نائب الأمين العام للأمم المتحدة    "المتاحف" تطلق معرض فن الصين الأول في المملكة    «هيئة العقار» تُعلن بدء التسجيل العيني ل 43 ألف عقار في الرياض والدرعية    خطيب المسجد النبوي:صفتين محمودتين يحبهما الله هما الحلم والأناة    القيادات تتساقط.. «حزب الله» يتهاوى    الذهب يسجل 5 أرقام تاريخية في أسبوع    ردع العابثين    فعاليات جمعية الثقافة والفنون بالدمام باليوم الوطني تستقطب 30 ألف زائر    لتجذب الآخرين.. احفظ هذه الخمس    5 أمور تجعل تنظيف الأسنان أساساً    صدمة..حمية الكيتو تهددك بالسكري!    قصر النظر وباء يتطلب استجابة عاجلة    أمير القصيم دعم رجال الأعمال يعكس وعيهم في بناء مجتمع معرفي    محافظ الزلفي يرعى احتفال إدارة التعليم باليوم الوطني 94    مكتب الضمان الاجتماعي في حائل يُقيم دورة "بناء نموذج العمل الحر لمستفيديه"    الأفكار التقدمية خطر أم استقرار؟!    عندي لكم خبرين !    أعتى تضاريس وأقسى مناخات!    فريق أمل وعمل التابع لجمعية رواد العمل التطوعي في جازان يحتفي باليوم الوطني ال٩٤    من البساطة إلى التكاليف!    أمير الرياض: إطلاق 'مؤسسة الرياض غير الربحية' تجسيد لحرص القيادة على دعم وتطوير العمل المؤسسي والاجتماعي    ولي العهد يُعلن إطلاق مؤسسة الرياض غير الربحية وتشكيل مجلس إدارتها    تعليم مكة يحتفي باليوم الوطني ب " السعودية أرض الحالمين " وأوبريت "أنا وطن"    وزير الخارجية في الجلسة المفتوحة لمجلس الأمن: السعودية ملتزمة بتعزيز العمل الجماعي لتحقيق الأمن والتنمية    الحب والروح    نائب أمير مكة يشهد حفل اليوم الوطني بالإمارة    اكتشاف نوع جديد من القرش «الشبح»    أكد دعم القيادة للعمل الخيري الإسلامي وسرعة الاستجابة.. الربيعة: المملكة تولي اهتماماً كبيراً باللاجئين في العالم لعيشوا بأمان وكرامة    «الإسلامية» توجه خطباء المساجد للتحذير من التساهل في «الطلاق»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة التورط الفرنسي ودور "الرجل اللغز" الشتوكي ... والحسن الثاني الذي "لا يثق بوسادته". بن بركة : بريق عينيه سيظل يلاحق المتورطين في خطفه وقتله الحلقة الأخيرة
نشر في الحياة يوم 12 - 08 - 2001

} تعرض الحلقة السادسة الأخيرة من ملف "قضية بن بركة" المعلومات عن تورط مسؤولين أمنيين فرنسيين في تسهيل خطف المهدي، ودور "الرجل اللغز" المعروف ب "الشتوكي" في القضية.
تتسارع الاحداث بوتيرة عالية، لكن ما بين ساعة الاختطاف واثارة القضية في الصحافة وفي الاوساط الرسمية الفرنسية والمغربية كان هناك وقت آخر للاتصالات ورصد التطورات. وكما نجح العميل انطوان لوبيز في اقناع رجلي امن فرنسيين بالمشاركة في الاختطاف، هما لويس سوشون وروجيه فواتو عن طريق الايحاء لهما بمشاركة شخصيات متنفذة و"تأمين نقل المهدي بن بركة للاجتماع مع شخصية رسمية"، كان تجنيده لشبكة من عتاة المجرمين بالدقة نفسها. فقد اعترف سوشون انه قبل يوم واحد من تنفيذ الخطة دعاه لوبيز لزيارة في مطار اورلي، واخبره هناك ان عملية تُدبّر لاستدراج المعارض المغربي الى "موعد مهم". وكي يحضه على قبول المهمة اوحى اليه بموافقة مسؤولين كبار ضمنهم جاك فوكار السكرتير العام في الرئاسة الفرنسية. ولأنه يعرف مهمة لوبيز فقد اعتقد، بحسب اعترافاته، انه تلقى مكالمة لتأكيد ذلك. قال الصوت على خط الهاتف: "هنا هوبير من الداخلية الفرنسية، لديك موعد هذا الصباح هل ستحضر؟" إلا انه لم يتحقق ان كان الصوت فعلا لجاك هوبير مدير ديوان وزير الداخلية الفرنسي روجيه فراي ام لا. لكنه مع ذلك لم يبد أي اعتراض على انجاز مهمته، خصوصاً ان تبريرات لوبيز كانت مشجعة. اذ عززها بكون المغرب اصدر عفوا عن بن بركة الذي كانت حياته مهددة، وان اللقاء مع وزير الداخلية المغربي محمد اوفقير سيكون نهاية انعدام الثقة بين القصر والمعارضة.
وفي التحقيق سيكشف سوشون انه طلب من رفيقه في الامن روجي فواتو ان يساعده في مهمة في حال عدم ارتباطه بأي شيء آخر. وعندما اوقف الاثنان سيارة الشرطة من نوع بيجو 403 في الاتجاه المقابل لحانة ليب في سان جرمان دوبري، لاحظ سوشون ان لوبيز كان يضع نظارة سميكة وكان يبدو متنكرا كما في الافلام السينمائية. لكنه كان أخبر سوشون انه سيكون مضطرا الى تغيير هندامه وبعض ملامحه "لاعتبارات أمنية". وسيقر سوشون بعد ذلك انه علم بقصة خطف بن بركة عن طريق الصحافة وطمأنه العميل لوبيز ان ذلك كان بغرض التمويه فقط.
جواز ديبلوماسي جزائري
في ذلك الصباح كانت العلامة الوحيدة على وجود المهدي بن بركة في باريس برقية من شرطة الحدود السويسرية في مطار جنيف، تؤكد ان المهدي بن بركة سافر الى باريس بجواز سفر ديبلوماسي جزائري صادر عن السفارة الجزائرية في القاهرة. لكن العميد الفرنسي كولومب، المسؤول عن شرطة الحدود في مطار اورلي، اكد انه لم يتلق أي اشعار من ادارته باتخاذ اي اجراء احترازي، علما ان المهدي بن بركة كان يسافر عادة بجواز سفر باسم مستعار "الخولي". لكن احد مرافقيه السابقين من رجال الامن سيتلقى أمراً بالبحث ان كان المهدي معتقلا في احد المراكز الامنية الفرنسية. وقد اتصل المفتش فرانسوا الكايدي بجهات عدة للاستفسار، ضمنها شقيقه عبدالقادر في فندق تريموال، واكد له ان المهدي لا يوجد تحت حراسة أي مركز أمني في باريس. حدث ذلك صباح 30 تشرين الاول اكتوبر 1965، أي في اليوم التالي لاختطاف المعارض المغربي.
ما بين الشبكة الفرنسية التي جندها العميل لوبيز وافراد الامن المغربي الذين كانوا في باريس خلال فترة اختطاف المهدي بن بركة علاقات غامضة، سيفصح عنها العميد الغالي الماحي الذي كان يوم 30 تشرين الأول 1965 في استقبال الجنرال اوفقير. وهو برر ذلك بأنه كان في انتظار زوجته فاطمة التي لم تأت في الموعد المحدد الا في الغد، لكن اوفقير سيطلب الى الماحي حجز غرفة في احد فنادق باريس وسيسلمه حقيبة تردد انها تحوي البسة الجنرال. لكن الشكوك حامت حول ما اذا كانت تلك الحقيقة تتضمن اموالا سلمت الى المتورطين. اذ هناك من يذهب الى ان الجنرال اوفقير قبل توجهه الى باريس زار مقر "الكاب 1" في شارع المولى ادريس في الرباط بحثا عن شيء ما.
الرجل اللغز
في رصد المتورطين في اختفاء المهدي بن بركة يبرز "الرجل اللغز". هكذا اصطلح على نعت "الشتوكي" الذي ورد اسمه في محطات عدة قبل اختطاف المهدي بن بركة وبعده. فقد عهد اليه الجنرال اوفقير متابعة الملف الى جانب العميد الغالي الماحي الذي سجل اسمه في احدى الجامعات الفرنسية طالباً. وبخلاف وضعه والتعرف عليه الذي قاد الى اعتقاله في باريس ثم الافراج عنه بعد المحاكمة، فإن "الشتوكي" بقي غامضا، لانه لم يكن سوى اسما مستعارا لاكثر من شخص، وبخاصة العميد ميلود التونسي الذي كان يعمل في جهاز الاستخبارات "الكاب 1" في المغرب. وقد تردد اسمه في تحريات القضاء الفرنسي، وفي افادات متورطين في اختطاف المعارض بن بركة. لكن بدايات ظهوره ترتبط بمشروع الشريط السينمائي "كفى" إذ يعتقد انه كان على علاقة بالفرنسي فيليب بيرنيي وشركائه في الخطة. وتذهب مصادر اخرى الى القول ان الشتوكي كان اسما مستعارا للرئيس السابق لمصالح الامن في وجدة شرق المغرب العميد الطيب هابي، لكن الاخير نفى مرات عدة اي علاقة له بالموضوع. ويصعب من حيث الاختلاف الجسماني بين الرجلين ان يتنقلا معاً بجواز سفر مزور يحمل اسم الشتوكي.
لكن الثابت ان "الرجل اللغز" رافق الفرنسيين فيليب بيرنيي وجورج فيغون الى القاهرة في مطلع ايلول سبتمبر 1965، وهما كانا على موعد مع بن بركة هناك. وافاد العميل انطوان لوبيز انه كان ينادي على الشتوكي باسم "عباس" وانه تعرف عليه من خلال الغالي الماحي الذي قدمه الى مسؤولين امنيين في باريس بدعوى ملاحقة الامن المغربي لشبكة مغامرين احتالوا على احدى الشركات النفطية في اوروبا، وقال انهم يتحركون بين جنيف وباريس.
لكن ثمة معطيات لم يكشف النقاب عنها ابدا تطاول اول زيارة قام بها وزير الدفاع المغربي السابق المحجوبي احرضان الى موسكو بدعوة من وزير الدفاع الروسي مالينوفسكي الذي كان بدوره زار المغرب في فترة كانت فيها فرنسا والولايات المتحدة تمارسان ضغوطا على المغرب لجهة عدم المساعدة في تسليحه. وربما كان اللافت في هذه المرحلة ان جهاز الاستخبارات المغربي "الكاب 1" كان في بداية التشكيل، في حين ان المعلومات التي صدرت حول قيام عملاء اميركيين بالمساعدة في بناء الجهاز قد تكون شجعت الروس وقتذاك على الدخول في خط الحوار مع المغرب. لكن قبل ذلك سيتم تداول معلومات في منزل مدير الامن الوطني السابق محمد الغزاوي حول تصفية معارضين ورجال من "جيش التحرير"، مما يحمل على الاعتقاد في تشابك قضية المهدي بن بركة مع مصالح جهات عدة كانت تأمل في انهاء وجوده.
قبل حوالى أربعة اشهر من خطف بن بركة، سافر العميل لوبيز الى المغرب رفقة شريكه جورج بوتشيس. كان السبب مشروعاً تجارياً لاقتناء فندق سياحي في الدار البيضاء. وثبت انه زار المغرب مرات عدة خلال الفترة ذاتها وقبلها ببعضة اسابيع، وانه نزل في ضيافة الجنرال محمد اوفقير أكثر من مرة، مما طرح تساؤلات حول كيفية تمكن عميل في مستوى لوبيز من اقتحام الاسوار العالية في علاقات الاستخبارات المغربية. والارجح ان علاقته المتميزة مع الضابط الفرنسي "فابي لوروا" ومعرفته بالجنرال الفرنسي جاكيي المدير السابق للاستخبارات الفرنسية ستترك الباب مفتوحا امام تساؤلات عدة. ففي يوم قدوم المهدي بن بركة من جنيف الى باريس غادر الضابط الفرنسي "لوروي" مكتبه في مصلحة تقصي المعلومات كونه كان رئيسا لقسم الدراسات باكرا وتوجه الى مطار اورلي. كانت الساعة قرابة التاسعة والنصف صباحاً. لكنه برر ذلك بأنه كان في استقبال الجنرال بول جاكيي هناك. الا ان طائرة الاخير لم تحط في ارض المطار الا في الساعة 40.11 دقيقة، وقد غاب العميل لوبيز عن استقبال رئيسه المباشر واخبر زوجة لوروي ليلا انه سيكون "في موعد مع المغاربة" من دون تحديد المهمة. واضاف امام المحكمة انه طلب من زوجة لوروي ان تردد اسم بن بركة، في اشارة الى كونه أخبر المصالح المعنية، لكن دون اعطاء تفاصيل اكثر. لكن الهاتف كان رن في شارع دي سان بيير، مركز الاستخبارات الفرنسية، في وقت لاحق، وكان على الخط لوبيز الذي سجل رسالة يقول فيها "الموعد تم في فونتاي قرب منزلي"، في اشارة الى الموعد الذي كان في ذاكرة المهدي بن بركة، لكنه تم على حساب عقله وجسده لاسكاته نهائياً. واعادت هذه التطورات الضابط الفرنسي لوروي الى وقائع ذات ارتباط وثيق بالقضية. فقد توصل في 22 تشرين الأول الى قائمة تضم اسماء مغاربة وعليها ملاحظات تفيد انهم بصدد "التقرب الى المهدي بن بركة"، وكان في وسعه ان يضع المصالح الفرنسية العليا امام تلك المعلومات. لكنه أقر امام المحكمة بأن الاسماء كانت لمسؤولين في الادارة الترابية المغربية او لمحافظين يزورون فرنسا رسميا في نطاق التعاون مع أجهزة الداخلية الفرنسية. الا ان وزير الداخلية الفرنسي فراي سيبدأ تحريات حول اختفاء المهدي بن بركة صباح السبت 30 تشرين الأول، وكان يوم عيد القديسين بدأ، مما جعل مسؤولين في الاجهزة الفرنسية يتوارون عن الانظار للاحتفال بالعيد. لكن خيوط الهاتف كانت متحركة بين مواقع عدة في الارياف الفرنسية، خصوصاً في منطقة "بلغارد" في مقاطعة "لواريه"، كان خبر اختطاف بن بركة المحور الرئيسي فيها. لكن مفتشا للشرطة الفرنسية اسمه مارشان عُهد اليه بالتحقيق في ملف اختطاف بن بركة اكد ان الاجراءات الامنية لم تبدأ فعلا الا ظهر الاحد 31 تشرين الأول بعد ان كانت الجريمة نفذت. وفي حوالى الساعة السابعة مساء بعث الى المصالح المعنية ببرقية شملت كل المطارات والموانئ ومرافئ العبور حول غياب المهدي بن بركة والطالب الازموري الذي كان يرافقه.
حين طلبت محكمة باريس من الجنرال جيبو المدير الجديد لوكالة الاستخبارات الفرنسية وقتذاك ان يكشف النقاب عن اسماء الشخصيات الفرنسية التي نفذ اوفقير من خلال تعاونها خطة استدراج بن بركة واختطافه، رد الجنرال الفرنسي بأنه على استعداد لذلك "شرط عدم افشاء اسرار الدفاع". ومن هنا يصبح التساؤل عن دور المخابرات الفرنسية واردا، خصوصاً ان وزير الداخلية الفرنسي فراي زار بدوره المغرب في صيف العام ذاته، ويقال انه امضى عطلة في ضيعة يملكها الجنرال اوفقير.
في نهاية نيسان ابريل 1965 ابرق جهاز التحريات التابع لوكالة الاستخبارات الفرنسية بأن زيارة وزير الداخلية المغربي محمد اوفقير الى باريس بتكليف من العاهل المغربي الحسن الثاني "هدفها محاولة اقناع المهدي بن بركة بالعودة الى المغرب وتعليق اجراءات ادانته بالاعدام الصادرة عن محكمة مغربية". لكن هذه البرقية لم يكشف النقاب عنها الا خلال وقائع المحاكمة في شتاء 1966. وكان الصحافي فيليب برنيي أصر امام المحكمة انه حصل على معلومات من العميل المغربي العربي الشتوكي تؤكد حرص السلطات المغربية على رصد تحركات بن بركة، وان فندق "كريون" الفرنسي عرف لقاءات بهذا الصدد مع مغامرين فرنسيين.
وبحسب تقرير للمخابرات الفرنسية فان انطوان لوبيز ابلغ رئيسه مارسيل لوروي في الثاني والعشرين من تشرين الأول 1965 ان هناك مغاربة يسعون الى الاتصال مع بن بركة داخل التراب الفرنسي، وطلب الى أحد مساعديه تحرير برقية الى القطاع المهتم في الاستخبارات الفرنسية. الا انه ارجأ ذلك في اللحظة الأخيرة، اذ كانت لدى المخابرات الفرنسية معلومات عن اربع شخصيات مغربية تزور باريس للمشاركة في دورة تدريبية للمحافظين في نطاق التعاون الامني بين المغرب وفرنسا، وكانوا وصلوا الى باريس في 19 من الشهر ذاته. وتردد بعد ذلك ان هذه القائمة انتزعت من الملف المتعلق بقضية المهدي بن بركة، الا ان الجنرال اوفقير سيحضر شخصيا حفلة رسميا في "فيلا سعيد" في باريس اقامتها السفارة المغربية هناك في مطلع تشرين الثاني نوفمبر 1965 فيما كانت تقارير وضعت امام مكتب وزير الداخلية الفرنسي فراي تؤكد وجود معلومات عن "ضلوع اوفقير والدليمي في اختطاف بن بركة" لكنها كانت في حاجة الى أدلة قاطعة، ما حدا بوزير الداخلية فراي لان يطلب الى مساعديه "حاولوا جس نبض اوفقير خلال الحفل وراقبوا جيدا ردود الفعل التي ستصدر عنه".
ربما كان رد الفعل المثير في الحفلة ان الجنرال اوفقير أعلن انه سيكون مضطرا لمغادرة باريس في الحين، لكنه صرح قبل ذلك ان التحقيق متواصل، و"في حال كانت الشرطة الفرنسية لديها مبررات للاشتباه حولي، كانت لا شك ستبلغها الي" خصوصاً ان مدير وزير الداخلية هوبير كان بدوره حاضرا في الحفلة.
لكن مسؤولاً فرنسياً نقل عنه القول ان الجنرال "متورط". ومع ذلك فان حجز تذاكر السفر لعودة الجنرال محمد اوفقير والعقيد احمد الدليمي والضابط العشعاشي وآخرين الى المغرب في الرابع من الشهر نفسه، خضع لاجراءات ديبلوماسية عادية.
لكن على الطرف الاخر كان افراد الشبكة المتورطون من اصول فرنسية يختفون عن الانظار واحدا بعد الاخر، وقد عادوا الى المغرب للاستقرار نهائيا، لكن اوضاعهم احطيت بمزيد من الغموض بعد انتحار الجنرال اوفقير في صيف 1972.
البحث عن الحقيقة
يقول عميل الاستخبارات المغربي السابق احمد البخاري ان البحث عن الحقيقة كان حافزه وراء افادته عن المسكوت عنه في اجهزة الاستخبارات المغربية. لكن العملاء الذين اتهمهم يقولون "كيف يمكن لحارس امن بسيط ان يتعرف على ملفات" تكون حكرا على المتنفذين في الاجهزة، ويرون ان ماضيه "الاخلاقي السييء" تسبب في فصله من العمل مرات عدة. بيد ان البخاري يؤكد ان افاداته تستند الى روايات كان يتبادلها والعملاء العشعاشي والمسناوي والصاكة في جلسات خاصة.
وقادت تحريات "الحياة" الى ان بعض هؤلاء كانوا يرتادون نادياً لكرة الحديد في الرباط، لكن محمد العشعاشي لم يكن ضمنهم، ما يحمل على الاعتقاد بوجود علاقات حميمة بين اولئك العملاء الذين قال البخاري ان نظرات المهدي بن بركة ظلت تتابعهم مدى الحياة، وانهم سافروا مرات عدة الى باريس خصوصاً في فترة ملاحقة المهدي بن بركة التي انتهت باستدراجه الى لقاء مع الموت، عبر جوازات سفر مزورة تحمل اسماء اصدقاء في طفولتهم مباشرة بعد اندلاع احداث الدار البيضاء في اذار 1965 والتي صدرت اتهامات بضلوع المهدي بن بركة ورفاقه في المعارضة في تحريكها. وقالت مراجع رسمية ان الحسن الثاني أبدى قلقاً وانزعاجاً كبيرين حيال الطريقة التي تعامل بها الامن والجيش مع المتظاهرين، كونها اتسمت بالعنف والقسوة وحصد ارواح الابرياء. لكن، في أي حال، أدت أحداث الدار البيضاء الى تشكيل مجموعات عمل لرصد الوضع السياسي في البلاد، احداهما كانت تراهن على الانفتاح واحتواء الموقف عبر الحوار مع المعارضة والبدء في تنفيذ خطة اصلاحية، خصوصا في قطاع التعليم. والاخرى كانت ذات توجه استئصالي ضد معارضي النظام. لكن الملك الحسن الثاني حسم الموقف لجهة صدور عفو سياسي شامل والاعلان عن خطة جديدة لاشراك المعارضة المتمثلة وقتذاك في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في الحكم. فهل ان الجنرال اوفقير كان ضد الخطة وعمل من اجل تقويضها عبر حادث اختطاف بن بركة واغتياله للحؤول دون قيام وفاق بين القصر والمعارضة؟ ام ان حساباته من اجل استدراج بن بركة آلت الى الفشل نتيجة مقتله المفاجئ؟ في اي حال، تذهب افادات البخاري في اتجاه ترجيح الخيار الثاني، لكنها تزيد على ذلك من خلال التأكيد ان صوراً عدة التقطت للمعارض المغربي في وضع لا يكاد يصدق من يراه ان المعني فارق الحياة. والرواية ذاتها تغلب فكرة نقل جثته الى "دار المقري" في ضواحي جنوب شرقي العاصمة التي كانت معتقلا سريا لمعارضي النظام، في حين ان العملاء الاخرين وفي مقدمهم محمد العشعاشي يؤكدون ان مهمتهم كانت تندرج في اطار "محاربة الاعمال التخريبية ضد النظام" عبر تفكيك شبكات توريد الاسلحة وتدريب المعارضين، مما مكنهم من الاستيلاء على اسلحة عدة لدى مداهمة مواقع المعارضين واعتقالهم.
وهذا الاعتقاد يكاد يلتقي مع وقائع محاكمات اعداد كبيرة من اولئك المعارضين وانتزاع اعترافات وهمية منهم. وقد حدث ان المعارض مومن الديوري الموجود حاليا في باريس اتفق وبعض عملاء الاستخبارات على ان يزكي طروحاتهم في اكتشاف شبكات التخريب. لكنه تنكر لذلك امام المحكمة عام 1963بيد ان تقديم المتهمين الى محاكمات مشهودة في اعوام 1963 و1971 و1974 يحمل على الاعتقاد ان السياسيين الذين كانوا يتعرضون للتعذيب الوحشي في "دار المقري "وغيرها، كانوا يقدمون الى محاكمات جماعية. ومع ذلك فإن بقاء ملف الاختفاء القسري مفتوحا حول أكثر من مئة شخص غابوا في فترات الاحتقان السياسي يطرح كثيرا من الاسئلة حول ظروف اختفائهم او "تذويب" جثتهم، كما في افادات البخاري المثيرة. بيد ان ملاحقات معارضي النظام في اوساط الطلاب والمركزيات النقابية والاحزاب السياسية حقيقة ثابتة، مردها ان الامر كان يتعلق بصراع محتدم على السلطة من جهة، وعلى اطلاق يد الاجهزة في اسكات المعارضين من جهة ثانية.
وكان البخاري كشف في هذه النقطة تحديدا انه يملك قوائم بأسماء سياسيين كانوا يعملون لحساب تلك الاجهزة. كما اوضح انه عمل مندساً في تنظيم "شيخ العرب" الذي كان يعمل من أجل اطاحة النظام. ويعتقد ان الملاحقات امتدت الى خارج المغرب، وتحديداً الى الجزائر وفرنسا واسبانيا وعواصم في الشرق الاوسط. والثابت، في غضون ذلك، ان بعض عملاء الاستخبارات المغربية الذين كانوا يتعقبون معارضي النظام في الجزائر تعرضوا للقتل. وهناك رواية حول الممرض ابو بكر الحسوني الذي تردد انه حقن المهدي بن بركة بجرعة زائدة، تقول انه كاد يلقى المصير نفسه في عملية نظمتها اجهزة الاستخبارات المغربية في منطقة على الحدود المشتركة مع الجزائر. واخبرني احد المعارضين شخصياً انه سمع عن هذه الرواية عندما كان مقيما في الجزائر في بداية الستينات، في حين قال البخاري ان عملاء مغاربة كانوا مختصين في اختطاف معارضي النظام ارتبطوا بعلاقات مع شبكات المهربين لتسهيل مهماتهم.
"سر الدولة"
بين التعاطي معها قضية فرنسية، كون الجريمة وقعت داخل الاراضي الفرنسية وتورط فيها اشخاص فرنسيون، او قضية مغربية على اعتبار ان المعارض بن بركة مغربي، وكان بصدد التحضير للعودة الى بلاده، او قضية مغربية - فرنسية بحكم ملابسات التشابك في علاقات المتورطين، بقيت وقائعها موزعة بين ارشيفات اطراف عدة، ضمنها أجهزة المخابرات الاميركية وملفات "الموساد" الاسرائيلية، عدا عن الاستخبارات الفرنسية والمغربية.
لكن مفهوم سر الدولة الذي لا يمكن الافصاح عنه الا باتفاق كامل بين الاطراف المعنية سيكيف وقائع القضية الى درجة الالتباس، سيما وان اللاعبين الاساسيين في مربعها غابوا جميعاً عن مسرح الحياة. وفيما دفن جثمان الجنرال اوفقير في مسقط رأسه في تافيلالت التي ولد فيها عام 1920 عند مشارف الصحراء جنوب شرقي البلاد، في منطقة لا يزورها احد، فإن الجنرال احمد الدليمي ووري التراب في مقبرة الشهداء في الرباط. أما المهدي بن بركة فقد ظلت جثته سراً لا يعرفه أحد.
ثلاثة رجال سيطبعون فترات الاحتقان السياسي في المغرب منذ نهاية الخمسينات الى بداية الثمانينات، مع فارق ان التباين في المواقف ظل قائما. فالعسكري اوفقير الذي كان يوصف ب"الرجل الدموي" حارب الى جانب الفرنسيين في معركة بيلفدير وحمل العلم الفرنسي عند الدخول الى روما في الحرب العالمية الثانية وشارك في حرب الهند الصينية ليعود ضابطا يحمل وساماً فرنسياً، لكنه منذ عام 1965، بعد حادث اختطاف المهدي بن بركة لن يزور فرنسا ابدا، فقد صدر ضده حكم بالسجن مدى الحياة. وهو ظل الى جوار الحسن الثاني الى حين انكشاف تورطه في المحاولة الانقلابية الثانية عام 1972. وكما كان غامضا في حياته كان انتحاره كذلك.
كان الجنرال احمد الدليمي وفيا لمدرسة أوفقير. والفرق بين الرجلين اللذين عملا في جهاز الامن والاستخبارات، ان احدهما لم يكن يثق في الاخر حتى وان ابديا مزيدا من الحرص في الانضباط العسكري. وليس صدفة ان الدليمي كان برفقة الملك الحسن الثاني في الطائرة التي تعرضت لقصف "المقاتلات الاوفقيرية" صيف 1972. فقد كان ذلك يعكس الرغبة في التخلص منه. لكنه سيصعد الى الواجهة ويصبح "الرجل القوي" في البلاد بعد انتحار اوفقير الى ان غيبه الموت في حادث سير عام 1983 في مراكش.
بعكس ذلك، كان المهدي بن بركة مشهودا له بالذكاء والدينامية وسرعة البديهة. لكنه كان اكثر طموحاً. ظل بريق عينيه يلاحق المتورطين في تصفيته. هناك في باريس في ظلام الليل كان وحده يواجه مصيره بعناد. قد يكون دفع خصومه الى مغامرة غير محسوبة قادت الى وفاته. لكن هؤلاء الرجال الثلاثة سيختزلون في حياتهم كما في غيابهم فترات حرجة في تاريخ المغرب كان يطبعها الصراع على السلطة، والصراع على نوعية المشروعات المجتمعية لبناء استقلال البلاد.
"لا أثق حتى في وسادتي"
وربما كان التعبير الذي صدر في احدى المرات عن الملك الحسن الثاني "لا اثق حتى في وسادتي" أفضل اختزال لسمات تلك الفترات الحالكة التي سيكون على المغاربة ان يتصالحوا معها بقوة الطبيعة التي منحت النسيان قوة خارقة. لكن في حال المهدي بن بركة لم يستطع قانون النسيان ان يغيبه من الذاكرة المغربية. وربما بسبب ان الغموض احاط بظروف مقتله، تحول بن بركة رمزاً، واصبحت حانة "ليب" محجاً سنوياً لرفاقه القدامى ولأجيال جديدة من الطلاب ورجال الفكر والصحافة يأتون اليها في الموعد نفسه مرة كل سنة في 29 تشرين الأول من كل عام، يشعلون بعض الشموع ويحملون لافتات تطالب بكشف الحقيقة التي اصبحت تنعت في المغرب الان بأنها "حقيقة ذائبة"، وليس ضائعة.
وبين الفينة والاخرى تظهر معطيات جديدة على درب تلك الحقيقة غير المكتملة. لكن تحريات اوساط عدة مغربية وفرنسية تلتقي عند فكرة ان جثته دفنت في غابة في ضواحي باريس غير بعيد عن "الفيلا" التي نقل اليها، سيما وان سجل حركة الطيران المدني او العسكري لم تسجل في تلك الفترة اقلاع اي طائرة عسكرية في اتجاه الرباط. الا ان افادات عميل الاستخبارات السابق البوخاري اعادت الجدل حول مصير جثته الى الواجهة. وكان لافتا ان ابرز تداعياها تمثلت في خروج ضباط رفيعي المستوى عن صمتهم حيال اتهاماتهم بالضلوع في تذويب جثته، اذ لم يكتفوا بنفي الاتهامات، وانما زادوا على ذلك ان البخاري كان فُصل من عمله في الاستخبارات قبل حصول حادثة بن بركة بثلاثة اشهر بسبب عدم الانضباط المهني.
لكن تحريات متطابقة اكدت ان العميد السابق للامن عبدالحق العشعاشي شقيق محمد العشعاشي كان هناك في باريس في الفترة نفسها، الا ان المسؤولين المغاربة يعزون ذلك الى كونه عمل مدير ديوان العقيد احمد الدليمي، وان زيارته رفقة مسؤولين اخرين كانت معروفة لدى السلطات الفرنسية، الى جانب عسكريين بارزين امثال الجنرالين الصفريوي والشلواطي، فالاول قاد الجيش المغربي في معركة الجولان الى جانب القوات السورية في حرب اكتوبر 1973، والثاني قتل في المحاولة الانقلابية الاولى في الصخيرات عام 1971. بيد ان الحفلة التي اقامتها السفارة المغربية في باريس على شرف الجنرال اوفقير والعقيد الدليمي وقتذاك، لم تخل من مفاجآت، بينها ما تردد عن ان بعض عقيلات المتورطين الفرنسيين في خطف بن بركة كن هناك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.