أذكر يوماً من أيام صباي سألتُ فيه توفيق الحكيم، وكان صديقاً لأبي، عما ينصحني أن أقرأه من كتب التراث العربي، فأجاب ضاحكاً: "سأجيبك شرط ألا تذكر إجابتي هذه لأبيك حتى لا يغضب... ما من كتاب في التراث العربي كله، عدا مقدمة ابن خلدون، هو أهل لأن تضيّع الوقت في قراءته في زماننا هذا، اللهم إلا إن أردتَ اتقان العربية، فلا بأس في هذه الحالة من النظر من حين لآخر في "كتاب الأغاني" مثلاً، أو كتاب "العقد الفريد"!". أصبح من المألوف أن تسمع المثقف العربي يقول: "ماذا أقرأ من الكتب العربية القديمة حتى أتمكن من اللغة من دون أن يكون نظري فيها مضيعة للوقت؟ كان أمام فلوبير مثلاً أو مورياك وهما بعد صبيّان كنوز من الروائع في الأدب الفرنسي. كانت أمامهما مؤلفات راسين وكورني وفولتير وروسو وبلزاك وستندال وهيغو وعشرات غيرهم ممن كان يمكنهما أن يقرآ لهم ليستمتعا بالمعاني ويستفيدا من الأفكار، في الوقت نفسه الذي يستفيدان فيه من اللغة. ثم أنظر إليّ. أتحسبني أقبل الآن بعد قراءتي مؤلفات دوستويفسكي وتولستوي ومونتيسكيو وبايرون وهايني الى آخره، أن أضيع وقتي في قراءة الصفدي والنويري، أو حتى الجاحظ والمتنبي وأبي حيان التوحيدي، لمجرد أن أُتقن رفع الفاعل ونصب المفعول؟ أتظنني أرضى بأن أترك أشعار كيتس وشيلي إلى شعر عربي رُبعه في مدح الولاة والسلاطين، وربعه في الهجاء، وربعه في الفخر بالنفس، وربعه الباقي في رثاء لا يمس القلب، أو وصف لا هو بالمقنع ولا بالممتع، وحديث عن الناقة لا أتجاوب معه؟". ثم يمضي في حديثه فيقول: "لا تحسب أني لم أحاول قط أن أتذوق وأن استسيغ هذا التراث العربي، فماذا وجدت؟ وجدت قول الفرزدق لجرير وهو ما كان علينا أن نحفظه في مدارسنا!. يا ابن المراغة أين خالك؟ إنني خالي حُبَيْسن ذو الفعال الأفضلُ إنّا انضرب رأسَ كلّ قبيلة وأبوك خلف أتانه يتقمّلُ! أتراني استطيع اليوم أن أرى فلسفة في قول الشاعر: حياةٌ ثم موتٌ ثم بعثٌ حديث خرافة يا أمَّ عمرو أو حكمة في قول زهير: رأيت المنايا خَبْطَ عشواء، من تُصبْ تمته، ومن تخطئ يعمّر فيهرَم؟ وأيّ مثقف عربي يمكنه أن ينفعل اليوم إذ يقرأ قصيدة حافظ ابراهيم في رثاء تولستوي: قضيت حياة ملؤها البر والتقى فأنت بأجر المتقين جدير وسموك فيهم فيلسوفاً وأمسكوا وما أنت إلا محسن ومجير!! كان حافظ هذا يستبيح لنفسه أن يقول الشعر في كتاب لقاسم أمين من دون أن يقرأ منه سطراً... فإن سطّر طه حسين نقداً لديوان جاء نقده على النحو الآتي: "وأنت تطرف في هذه الحديقة فترى فيها ما شاء الله أن ترى من شجر باسق في السماء، وزهر نضر يملأ النفس بهجة ورضى.. وأشهد أني قد قرأت الديوان مرات فلم أشعر بأني قد قرأت شيئاً كنت قد قرأته من قبل. وما أشك في أني سأقرأه إن شاء الله وأقرأه، وأستمتع بقراءاته كلها كما استمتعتُ بقراءته من قبل". أهذا نقد؟ إني لأكاد أشهد أن طه حسين لم يقرأ من ذلك الديوان بيتاً واحداً!. أنا معك في أن وضعي وجيلي مشين، وأن لغتي وغيري من الأدباء اليوم مزرية. غير أننا نريد المعرفة والنور قبل النحو والصرف. فإن كان فلوبير قد أخذها جميعاً من قراءته لتراث بلاده الادبي، فمن سوء طالعنا ان يختلف وضعنا، وان يكون تراثنا الادبي تراث لغة فحسب. منذ شهرين اعدتُ قراءة ديوان المتنبي وفرغت منها دفعة واحدة، لأتحقق من أمر هذا الذي "جاء فملأ الدنيا وشغل الناس"، والذي قال عن نفسه إن الأزمان لا تسع علمه بأمرها، وأن الأيام لا تحسن تكتب ما يُملي... فما الذي وجدت؟ وجدت الديوان يشتمل على ثلاثمئة من القصائد والمقطوعات، تقع في 5429 بيتاً، مئة وخمسون من هذه القصائد والمقطوعات أي النصف بالضبط في باب المدح. كل ممدوح هو خير من تحت السماء، وأطعن الناس بالقناة وأضربها بالسيف، وأندى العالمين بطون راح، لا تصلح الدول إلا بمثله، وكل مديح في سواه مضيَّع!. له في مدح كافور عشر قصائد، وفي هجائه تسع قصائد، ان دخل عليه أنشده: قواصد كافور توارك غيره ومن قصد البحر استقل السواقيا وإن خرج من عنده أنشد: ومثلُك يُؤْتى من بلادٍ بعيدة ليضحك ربّات الحداد البواكيا والمدح عنده قائم على أن والد الممدوح خير الآباء، وأخاه خير الاخوة، وكفاه انه من قحطان! وأنه أكثر المحاربين تقتيلاً للناس، وأنه سخي كالسحاب ونحن نعلم جيداً علّة هذا المدح بالسخاء، وأنه جميل الوجه من واجبه أن يلبس برقعاً حتى لا تموت النساء عشقاً: خفِ الله واستر ذا الجمال ببرقع فإن لُحتَ ذابت في الخدور العواتقُ يُخاطب سيف الدولة فيقول: نَهبْتَ من الأعمار ما لو حَوَيْته لَهُنّئت الدنيا بأنك خالدُ أليست هذه صورة لمجرم إلا أنه ممدوح؟ فإن كانت هذه حال أكثر من نصف الديوان، فكيف مواضيع النصف الآخر؟ عيّنةٌ من هجائه: وما يشقّ على الكلب أن يكون ابن كلبة وهي القصيدة التي قُتل المتنبي بسببها قصائد تهنئة بعيد الأضحى - وصف بطيخة عليها قلادة لؤلؤ - استبطاء لعطاء ممدوح - وصف لكلب صيد أُرسل على غزال وليس معه صقر - وصف لسلاح كان بين يدي سيف الدولة - تهنئة للأمير لشفائه من دمّل - تهنئة لكافور بانتقاله الى مسكن جديد - وصف لمجلس نُثر فيه الورد بين يدي عضد الدولة - رثاء لأمه... وهكذا. فإن نظرنا إلى شعر الحكمة الذي اشتهر به رأينا ان المعنى الأساس للحكمة عنده الذي يكرره هو أن الموت آت لا محالة، الى الملوك والرعية، إلى العالم والجاهل، وأن الشباب زائل، والمستَغَرّ بما لديه هو الأحمق. أما أن يتبع هذه المقدمة بنتيجة خاصة بالسلوك الذي يجب أن نؤسسه على حقيقة الموت هذه، فما لا تجد له اثراً، بمعنى أن حكمة المتنبي يمكن تلخيصها في الجملة الشائعة لدى العامة: "الدنيا فانية". أما ملخص معرفته بالطبيعة البشرية فهو أنه لا ينبغي على المرء أن يثق بالناس، إلا بطبيعة الحال: سيف الدولة، وعضد الدولة، ومحمد بن عبيد الله العلوي. يخبرنا جان بول سارتر في كتابه "ما هو الادب؟" انه لا يمكن أن يكون لأدب قيمة اذا كانت في أساسه معان منافية للإنسانية، فأين إذاً قيمة المتنبي وهذه معانيه؟ غير أنه يقول: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعتْ كلماتِي من به صمم ما أبعد العيب والنقصان من شرفي أنا الثريا وذان الشيب والهرم فإن كانت هذه هي حال الثريا، فكيف الشيب والهرم؟ مثل هذا الموقف الذي يتبناه الكثيرون من المثقفين العرب من تراثهم فيه جانب من الصحة، غير أنه موقف انتقائي متعسف عززته اعتبارات بددت احترام شباب امتنا لتراثهم الفكري، ورغبتهم في الاستزادة منه، وقدرتهم على النظر فيه. فالحصيلة التي يخرج بها ابناؤنا من اللغة العربية بعد انقضاء سني دراستهم لا توفر القدرة على فهم ما كتبه الاقدمون. والنماذج التي تدرّس لهم في المدارس لأدب هؤلاء وفكرهم، كهجاء الحطيئة للزبرقان بن بدر، وفخر عمرو بن كلثوم بقبيلته، ومدح الاعشى لوالي الحيرة، في كتب رديئة الورق، سيئة الطباعة، قبيحة الصور، لا يمكن أن ينجم عنها احترام حقيقي لتراث العرب، كذلك الاحترام الذي ينجم لديه لآداب الفرنجة حين يُدرّس في حصص اخرى مسرحية لشكسبير، أو قصائد لامارتين، في كتب انيقة الطباعة. غير أن أهم ما يمكن أن أردّ به على حجج واستشهادات اصحاب ذلك الموقف، هو أن ثمة الكثير الكثير في التراث العربي القديم مما يختلف مضمونه عن مضمون الامثلة التي يسوقها المتفرنجون الساخطون المزدرون... هناك في ميدان الشعر دواوين امثال ابي نواس، وبشار بن برد، وابي فراس الحمداني. وفي التاريخ "تجارب الامم" لمسكويه، و"فتوح البلدان" للبلاذري، و"الاخبار الطوال" للدينوري. وفي الادب رسائل الجاحظ، والامتاع والمؤانسة لابي حيان التوحيدي، ومقامات الحريري. وفي الجغرافيا وأدب الرحلات "معجم البلدان" لياقوت، و"نزهة المشتاق" للادريسي، ورحلة ابن جبير. وفي التصوف "المواقف" للنفري، و"الفتوحات المكية" لابن عربي، و"الرسالة" للقشيري. وفي الدين "احياء علوم الدين" للغزالي، و"الفصل في الملل والنحل" لابن حزم، و"تنقيع الابحاث" لابن كمونة. وفي التراجم "وفيات الاعيان" لابن خلكان، و"طبقات الاطباء" لابن ابي اصيبعة، وفي ادب السيرة الذاتية "المنقذ من الضلال" للغزالي، وسيرة المؤيد في الدين بقلمه. وفي القصص "كليلة ودمنة" لابن المقفع، وكتاب "ألف ليلة وليلة" وفي العلوم والرياضيات "الجبر والمقابلة" للخوارزمي، و"الزّيج" للبتّاني، و"اعمال الهندسة" للبوزجاني. وفي الفلسفة "الاشارات والتنبيهات" لابن سينا، و"حي بن يقظان" لابن طفيل، و"تهافت التهافت" لابن رشيد. ناهيك عن "كتاب الاغاني" لابي الفرج، ومقدمة ابن خلدون، و"طوق الحمامة" لابن حزم، و"تحقيق ما للهند" للبيروني، و"شرح نهج البلاغة" لابن ابي الحديد، وعشرات وعشرات من غير هذا من الكتب. فإن كان عالمنا العربي قد نشر فيه بالفعل عشرات الآلاف من كتب التراث، فإن شبابنا يضلون في متاهاتها، معظمهم عاجز عن اقتناء ولو اليسير منها، والقادرون مفتقرون الى من يهديهم الى القمم الشامخة فيها، ويثنيه عن النظر في تافه الشأن منها. والوقت المتاح لهؤلاء الشباب للاطلاع على الثمار الفكرية لحضارتنا وحضارات غيرنا محدد، ولا ينبغي ان نسمح لأنفسنا بأن نهدره في التسكع بين الهزيل ضئيل الشأن من هذه الثمرات. وقد اقدم الغربيون منذ سنوات، من أجل تعزيز إلمام شباب الغرب بتراثه والجذور الفكرية لحضارته، على إخراج مجموعة من الكتب تحمل اسم "اعظم كتب العالم الغربي" من هوميروس الى فرويد. هذه المجموعة باتت تشكل جزءاً من اثاث معظم العائلات المثقفة القادرة على اقتنائها في اوروبا واميركا الشمالية. فلو أن حكومة عربية مستنيرة تبنت مشروعاً كهذا، وشكلت لجنة من عشرة او عشرين من العلماء المتبحرين في التراث العربي، المدركين مع ذلك لطبيعة ذوق شباب امتنا المعاصر، ولاحتياجاتهم الحضارية في زماننا هذا، فانتقت بعد النقاش والفرز وتمحيص الآراء المختلفة اعظم مئة كتاب في تراثنا منذ امرئ القيس الى الجبرتي، واستبعد من هذه الكتب المئة الغث الكثير الذي تحفل به كتب عظيمة كالأغاني، أو السلوك للمقريزي، وأبقت على بعضها الآخر بصورته الكاملة، كمقدمة ابن خلدون، وحي بن يقظان، ونشرتها في خمسين او ستين مجلداً انيقاً بسعر في متناول العائلة العربية المتوسطة الحال، لأسدت بهذا الصنع خدمة جليلة. * كاتب مصري.