مرّ وقتٌ طويل قبل أن أفهم لماذا كانت أمي تحب سرد حكاية الطبيب الذي رأيت النور على يديه. فكلما وجد مستمعون مستعدون للاصغاء، كانت والدتي تروي الحكاية، حتى أني سمعتها ألف مرة. وحتى يكون للحكاية معنى، عليكم ان تعرفوا اني الأنثى الثانية التي انجبها والداي، وأني وشقيقتي كل نسلهما. كانت تروي: "عندما غادر الدكتور رزوق غرفة التوليد، كان التوتر بادياً على وجهه. مر بوالدك دون أن ينظر اليه. كان والدك ينتظر بقلق ولادة الطفل ليكون بجانبي. في تلك الأيام لم يسمح بتاتاً للأزواج بأن يشهدوا ولادة أطفالهم. موقف الطبيب روّع والدك الذي ظن ان شيئاً فظيعاً لا بد قد حدث لي ولمولودنا. وعندما علم اني أنجبت بنتاً معافاة بدا مسروراً. الدكتور رزوق لم يكن يحب توليد البنات، وخاصة إذا كان الوالدان من أصدقائه، وكان يشعر بأن سمعته كطبيب نسائي تهتز مع كل بنتٍ تأتي الى الدنيا على يديه. أما أنا ووالدك فلم نكترث بأية حالٍ، أكان المولود صبياً أم بنتاً. قصة ولادتي كما كانت والدتي ترويها استعارة تامة لبلدي. انها قصة قيمٍ وتناقضات متجاورة. نعم، لا بأس بأن يولد المرء بنتاً، لكن القصة لا تنتهي أبداً عند هذا الحد. فهناك "لكن"، "لكن" متوسطية، وهناك "لا بأس" مغربنة، وعليهما ان يتعايشا، كما على المواطنين العصريين أن يوفقوا بينهما على نحوٍ ما ويعيشوا في فضاءات هذا التعايش. وعليهم ان يفعلوا ذلك بشكل متوازن. والداي من جيل شرق أوسطيين عاشوا في زمن الانتقال من القيم التقليدية للعائلات الكبرى الى العائلة النواة المغربنة، ينجبان طفلين على الأكثر يتربّيان ويتعلمان في أحسن المدارس التي يمكن سداد تكاليفها. وكانا يحلمان بتنشئة أفرادٍ أحرارٍ ومسؤولين - أفرادٍ يجري، رغم ذلك، تذكيرهم على الدوام بأنهم مؤتمنون على شرف العائلة، لا سيما إذا كانوا ينتمون الى الشطر الأنثوي من ضفتي الجندر، أفرادٍ عليهم أن يحذروا باستمرار ما "يقوله الجيران" عنهم، وعن آبائهم وأعمامهم وأخوالهم وأبناء العمومة والخؤولة وغيرهم من الأقارب الآخرين. كانت قصتي، والطريقة التي حاولت أن أعيش فيها حياتي، مجهوداً مستميتاً، لكنه ليس بائساً بالضرورة، للتوفيق بين حقبتين على الأقل، بين نمطين من السلوك، بين نظامي قيم كانا سائدين في آن وبكل وضوح في لبنان قبل الحرب. دعوني أعود الى والدتي. امرأة ذكية، كانت تُعتبر في مطلع شبابها مرغوبةً جداً كمشروع عروس تبعاً لجمال تقاطيعها. هكذا قرر والدها انهاء تعليمها في أواخر الأربعينات حين كانت في السادسة عشرة. آنذاك كانت تعشق مدرستها وتعتز بالمعارف التي اكتسبتها هناك، لا سيما في العلوم. لكنها لم تكن تملك أي تأثيرٍ على قرار والديها. ثم أنها، كائناً ما كان الأمر، وقعت في غرام والدي. ووالدي، وهو يومها شابٌ عصريّ، لم يأبه كثيراً بالاختلاف في انتمائهما المذهبي، فكان يُغازلها علناً لأنه كان صاحب "نيّات حسنة". ربط بينهما عشق متبادل، وقد تزوجا حين كانت هي في السابعة عشرة وهو في العشرين. فهما كانا يمقتان زيجات المصلحة أو الزيجات المنظمة والمحسوبة، ويؤمنان بالحب الحقيقي. وقد وجدا في أفلام هوليوود التي غزت شاشات بيروت، ما يؤكد صواب خيارهما الرومانسي. يومها عرف لبنان بعض من تزوجوا مثلهما، الا ان هؤلاء لم يكونوا القاعدة. وهما بعد مرور تسعة أشهرٍ على زواجهما أنجبا شقيقتي الكبرى ففرحا بها، وغمراها بحبهما. يكفي النظر الى العدد الذي لا يُحصى من الصور التي التقطاها لها، والى يوميات والدي حيث سُجلت كل ابتسامة بانت على وجهها وكل ضرسٍ ظهر في فمها. وقد خطر ببالي ذات مرة ان الدكتور رزوق نفسه قام بتوليد شقيقتي، وان خيبته بها ربما كانت مثل خيبته حين جاء دوري للإطلال على العالم. ولكن، لسببٍ مجهولٍ، بدا مولدي وحده، عند والدتي، حكايةً تستحق السرد. والسبب كان ينبغي ان يكون واضحاً لي. فبالنسبة للوالدين قد لا يكون مهماً ما إذا كان المولود الجديد ذكراً أو أنثى. لكن في المجتمع الأكبر، ليس هناك ما يمكنك التباهي به حين لا تُعطي هذا العالم الشرق أوسطي الا البنات. ولا بد ان تكون شديد الحرص على احاطة أسرتك بأقصى العناية كي تتوقف عن الانجاب بعد بنتين، وتكف عن التفكير بمولودٍ يخلّد اسم الأب ويؤكد رجولته، فضلاً عن الحصول على بركة الأم. Garcon manque كان اللقب الذي بقيت اسمعه عن نفسي. غلامية. التعبير الفرنسي أبلغ بما يكشف عنه. صبيٌ وقد ضاع، فرصة وقد فاتت. لكن القيم التي أدخلتها المجتمعات الصناعية الى واقعنا الشرقي كانت محسوسةً بما فيه الكفاية بما جعل انتظار مولودٍ ثالثٍ مستبعداً. هكذا التقت قصتي بقصة مجتمعي. فأنا أنثى، مقبولة بما أنا كذلك، ولكن لا شعورياً أو بصمتٍ دفينٍ، كان المراد أن أكون غير ذلك. وبدا السياق الأعرض الذي ولدت فيه، أي لبنان الخمسينات، نموذجاً لهذه الثنائية. البعض أطلق على قطبي هذا التركيب تسمية الحديث والتقليدي، والبعض الآخر الصق بهما يافطة الشرق والغرب، والآن كثيراً ما يستخدم مصطلح ما بعد الحداثة. وأستطيع التفكير في تشبيه ملائم عن هذه العلاقة بين الخاص والعام: un garcon manque، صبي فاتَ، une opportunite manquee، فرصة ضاعت. ولنمض مع التداعيات: بلدٌ أهدر امكاناته الديموقراطية والمتسامحة. بديلٌ سعيدٌ. ولكن... لنعد الى جندري ومدلولاته: بدأت، مثلي مثل أي طفل يجد نفسه/ نفسها في مركز الاهتمام، ممارسةً الدور الذي أعطاني خصوصيتي بين أفراد عائلتي وأصدقائهم. بدأت التصرف كبنتٍ غلاميةٍ. كنت أكتب الى "بابا نويل" أطلب منه ثياب الCowboys. وعندما ألعب بما لدي من دمى كنت أفعل ذلك بحذر لأن متعةَ الأمومة أو الباس الدمى كانت محاطةً بشعورٍ حادٍ بالذنب وبالخوف من تخييب أمل كبار السن. كنت أنضم الى الأولاد في الفناء بعد ساعات الدوام للعب الكرة، وهكذا بقي كل شيءٍ سلساً ومسلياً الى أن رأتني "الست زلفى"، وهي جارةٌ عجوزٌ مهيبةٌ، مشتبكةً بالأيدي مع أحد الصبيان حول نتائج المباراة. والست زلفى كانت ترعبنا بتسريحة شعرها الشينيون ومفرداتها التركية والايطالية: Pronto، صرخت مصوبةً عصاها نحوي ثم باتجاه بيتي. بعدها زارت والديّ وقالت لهما انه "لا يليقُ" ببنتٍ في التاسعة ان تختلط مع صبيان الحي. وتلك كانت نهاية حياتي في الشوارع. فلقد أثبت ما قاله الجيران أنه أشدُ فاعليةً من الصورة الحادة للبنت الغلامية garcon manque. وكان لرأي الجيران تأثيرٌ حاسمٌ في والديّ اللذين ظلا يصران على أنه لا يهم عندهما أن أكون بنتاً أو ولداً. وقتذاك كانت أوائل الستينات. كان لبنان ينعم بحكم برلماني، خصوصاً وقد أُجهض انقلابٌ عسكريٌ. وبدورهن كانت أمي وخالاتي يرتدين أحدث صرعات الأزياء الباريسية، لكن مدرستي المخلتطة كات تستعد لفصل البنات عن الصبيان: نعم حتى الليسيه الفرنسية عمدت الى تعديل أنظمتها بما يناسب الواقع العربي - المتوسطي للمجتمع اللبناني. الدين والتربية الدينية لم يكن مسموحاً بهما داخل المدرسة العلمانية، لكن تعين فصل البنات اللواتي كن يقتربن من سن البلوغ عن الأولاد. أما وجود صبيةٍ غلاميةٍ في مدرسة للبنات فبدا بلا معنى. صحيحٌ ان فصل الصبيان عن البنات في ثانويةٍ علمانية كان ليبدو شذوذاً في فرنسا، لكننا لم نكن في فرنسا، رغم أننا كنا نتكلم لغتها ونؤمن بقيم التنوير. كنت أسمع والديّ يسمياني غلاميةً، والآن بدأت أسمع أمي تؤكد اني كنت شاطرةً في العلوم، العلوم الوضعية. وعليه أصبحت جيدة في الرياضيات والفيزياء. علاماتي في الأدب الفرنسي الذي كنت مشدوهةً به، لم يكن لها تأثير في أمي لكن أساريرها كانت تشعُ فرحاً كلما رأتني أحل مسألةً في الهندسة أو الرياضيات. كانت تلك طريقةً أسلم للتعويض عن الصبي الذي لم ير النور، وطريقة أسلمَ من اللعب والعراك مع الصبيان على ركلةِ كرةٍ. فالعلوم لا تنال من الفضيلة أو السمعة. لكنني في المدرسة، ولم أكن بلغت الرابعة عشرة بعد، قرأت رواية سيمون دي بوفوار "الموظفون"Mandarins Les وسمعت عن الحب الحر، الا أن حدثاً آخر جدَّ يومها: فقد الغيت حفلة موسيقية لنجم موسيقى البوب الفرنسي جوني هاليدي بقرارٍ من وزير الداخلية "التقدمي" كمال جنبلاط الذي كان يعتقد أن "الصور الغربية المنحطة" لا تنسجم مع "قيمنا الأخلاقية ويمكن أن تُضِر بشبابنا". ومع سائر المواطنين اللبنانيين في الستينات تعلمت أن أعيش هذه المواقف والقيم المتضاربة. وفعلاً أصبحنا حواةً: وبهذا القدر أو ذاك من الرشاقة، رحنا نمشي على بيضٍ، ونشقُ طريقنا الى ارتداء تنانير الميني والشالات الطويلة، كما نردد الشعارات المعادية للامبريالية وأغاني البيتلز. مغنية الكيتش اللبنانية طروب كانت آنذاك تغني لجمهورٍ عربيٍ فيما كانت أختها ميادة تركّب كلماتٍ عربيةً على ألحان بوب غربية. وعندما غزت رقصة Hully Gully أندية لبنان الليلية غنت المطربة المعروفة صباح أغنية "هالي دبكة يابا أوف". Hully Gully est connu chez tous les occidentaux, Hully Dabke Yaba Of est connu chez Les Orientaux, Presque le meme et tout le monde lصaime. لا نحن ولا صباح كان باستطاعتنا ان نحزر ان الغرب والشرق سيغنيان على ايقاعاتٍ مختلفة تماماً. فمن اذاعة القاهرة كان صوت أم كلثوم الصداح يعلن انه "أصبح عندي الآن بندقية" - لتحرير الأرض العربية. وكنا نقرأ جان بول سارتر ونخرج للتظاهر من أجل تحرير فلسطين. وبحلول أوائل السبعينات كنت أدرس الرياضيات والأدب الفرنسي: أولهما موضوع ذكوري والثاني أنثوي، والنسوية كانت على الأجندة: جورج طرابيشي ترجم شيلا روبوثام وكان عمل جيرمان غرير "المخصية" يُباع في المكتبات، فيما دعت المذيعة التلفزيونية سونيا بيروتي نفراً منا الى برنامجها التلفزيوني لمناقشة تحرير المرأة. مشهدان من تلك الفترة ظلا يخطران في ذاكرتي. المشهد الأول: أني، في هذا البرنامج التلفزيوني، قلت أني أريد ان أكون امرأةً متحررةً ومستقلةً، وأن أعمل لكي لا أتعيش على مال أبي أو من سيكون زوجي في المستقبل. وحين سمع أبي الذي كان يتابع البرنامج كلامي هذا شعر بامتهانٍ بالغ لكرامته، وعد كلماتي هذه اهانة لشرفه. ما المشهد الثاني فحين صعدت، خلال مظاهرةٍ طالبية، بضعة فتياتٍ على أكتاف زملائهن للمشاركة في قيادة المظاهرة وترديد هتافاتٍ ثورية - الجميع في هذه المظاهرة شاهدوا صور أيار مايو 1968 في فرنسا واللقطات المثيرة لنساء رفعهن رفاقهن في الاحتجاج فوق الحشود: "فضيحة"، صرخ بعض المارة، وكذلك قلةٌ من المتظاهرين. أنزلت النساء بسرعة. فنحن ربما كنا متأثرين بأحداث 1968 لكننا لسنا في الحي اللاتيني بباريس بل ما زلنا على شواطئ المتوسط. كنا ديموقراطية برلمانية بلا حكام وراثيين ولا جنرالات متسلطين علينا، لكن الكثيرين من سياسيينا كانوا أبناء مُلاّكٍ أو أبناء سياسيين آخرين. وكانوا جميعهم يلهجون بالديموقراطية بينما كنا نطالب بحقنا في الاستقلال كنساءٍ. ولكن أيضاً كان يجري تنظيم الميليشيات المسلحة، فيما غدت عمليات ترميم بكارة المرأة متاحةً بسهولة. وبمعنىً ما أرى الآن توازياً بين دراستي الرياضيات في الجامعة الأميركية ودراستي الأدب الفرنسي في الجامعة اللبنانية، بين جندري الذي ألقى على عاتقي المسؤولية عن سمعة العائلة من جهة وسجالات بلدي المتعايشة في ما بينها من جهةٍ أخرى. فالنسوية كانت طريقاً من البديهي ان يسلكه شخص مثلي - امرأةٌ تؤمن بأن فضاءات الرجل ليست عصيةً تماماً على الاختراق، ولا هي بالغامضة أو التي يصعب التعامل معها. فأنتِ تلعبين مع الصبيان، وتدخلين صفوفهم الدراسية وتنالين علاماتٍ أفضل من علامات كثيرين منهم، ثم يُطلب منك تقديم الطاعة لهم أو الإقرار بلا مساواةٍ تضعهم فوقك؟ كان هضم ذلك صعباً للغاية، لا سيما وقد قرأنا عمل سيمون دوبوفوار "الجنس الآخر" على نطاق واسع بين صديقات من ذوات التعليم الفرنسي. ومن قرأته قرأت لا بد، تأكيدها on ne nait pas une femme, on le devient ان المرء لا يولد امرأةً بل يصبح هكذا الذي بدا شعاراً من المُغري الأخذ به. لقد بدت النسوية القديمة، نسوية رائداتٍ كهدى الشعراوي أو المحامية الناشطة لور مغيزل، قاصرة قياساً بشوقنا الى التغيير بعنفوان شبابي لا يعرف التحفظ. فنحن لم نكن نريد مساواة فحسب، ولا كان يكفينا الحق في دخول الحياة المهنية مصحوباً بتوكيد أننا، أولاً وقبل كل شيءٍ، "أمهات صالحات": كنا نريد أن نعلن بصوت عالٍ، وبلا خجل، أن لا شيء يمكن أن يمنعنا من تحقيق أمانينا، وأن أجسادنا ملكٌ لنا. تعاليم انغلز ورايخ والكساندرا كولنتاي أضفت بعداً اجتماعياً على ايماننا بأن "كل شيءٍ ممكن". والبلد نفسه كان يؤمن بأن نهوضه، كجنة مالٍ وسياحة للشرق الأوسط ومنطقة الخليج الغنية، نهوض لن يوقفه شيء، وأن مقاتلي المقاومة الفلسطينية هم التجسيد المحلي للثوار الفيتناميين. جاهرنا بشجب الرياء في مجتمعنا، وكنا نزداد راديكاليةً في معتقداتنا، وكذلك كانت التناقضات والصراعات في لبنان. وانتقلت الى الجانب الآخر من الخط الآخضر حيث كنت أظن ان الناس سيكونون متحررين من عنعنات بيئتي، لأجد مرآةً معكوسةً تجهر بالنمط نفسه من عدم التسامح. وما لبث أن مرّ زمن بدأت فيه، وسط المسلسل الدموي والفظيع للحرب الأهلية، افتقد ما يُسمى نفاق أزمنة ما قبل الحرب. وتبدد الاحساس بأني "أريد كل شيء وأريده الآن". وبعينين مختلفتين رحت أنظر الى ليبرالية والديّ اللذين عضَّا على جرحهما المتوسطي وتركاني أكون ما أكون. لقد تسامحا مع حريتي في الحركة رغم ان صورتي الغلامية ماتت منذ زمنٍ طويل ودفنت تحت التأثير القوي للست زلفى وأمثالِها. فما كنا نسميه رياءً قبل الحرب كان أفضل شكلٍ للتوفيق وجده الناس من أجل أن يتعايشوا معاً: ذاك ان المحرم التابو الذي يلجم المرء عن الافصاح عن كرهه للآخر هو انضباط جيد. فللنظر حولنا ونرَ مدى البشاعة التي يخلقها الناس حين يعبّرون بكل حريةٍ عن عدم تسامحهم. وهذا، بالطبع، ليس دعوةً الى الرقابة، فمعاذ الله! والحال ان للناس حق التعبير عن مشاعرهم مهما بدت، في نظرنا، قبيحة. لكن هذا ينبغي ان لا يردعنا عن فعل كل ما يسعنا لربط الكراهية حيال لون الآخر أو عرقه أو خياره الجنسي بمفهوم السوء وعدم التحضّر واللاأخلاقية، ومن ثم ربط التعبيرات العنيفة عن هذه الكراهية بأحكام القانون وسلطته. نعم مرَّ زمن طويل قبل أن أدرك لماذا كانت والدتي تعشق سرد قصة الدكتور رزوق ومولدي. ومر زمن أطول قبل أن أُدرك ان التناقضات التي كان على والديّ ان يعيشاها فتحت لي فضاءاتٍ جديدةً ورحبة. فلو انهما لم يتمنيا لي القفز فوق الحدود الصارمة التي فرضها جندري، لحكم علي بالعيش طيلة حياتي على جانب واحد من تلك الحدود، ولما كنت تعلمت اننا جميعاً، في السنوات الكالحة لحربنا الأهلية، متساوون في إنسانيتنا أو في سوئنا. وأمي، لو لم ترو هذه الحكاية، هل كنت سأتحلى بالثقة التي لازمتني قبل ثمانية عشر عاماً، حين امتنع مدير البنك في لندن عن التعامل معي بصفتي أحد مدراء "دار الساقي" للنشر مفضلاً ان يقابل "الرجل المسؤول عني"؟... هل كنت لأمتلك الشجاعة كي أطوي عود الالمنيوم الطويل الذي يسند منحوتاتي؟ هل كنت سأجد القدرة على أن أكون "الآخر"، وأن أندمج بالآخرين دونما معاناة، وغالباً بكثير من المتعة؟