توقف الباص فجأة عند منعطف وصاح السائق بأعلى صوته: "شو شايف الطريق قدامك صحن فتوش!؟". تململ الركاب وأخذوا ينظرون من نوافذهم المغلقة الى سبب توقفهم الكفيل بتأخيرهم ثواني قليلة عن مائدة الإفطار، ثم انعطف السائق نزولاً عند مطالبتهم بالتقدم وهو يتمتم: "اللهم اني صائم". غالباً ما تتكرر مثل تلك الحادثة، قبل دقائق قليلة من موعد الإفطار، في شوارع ضاحية بيروت الجنوبية وبالتحديد شارع بئر العبد، ولكن طبعاً مع اختلاف الأبطال والمواقف والنتائج، إذ يكفي أن يكون أحد السائقين عصبي المزاج ليعرقل خلفه صفاً طويلاً من السيارات، فيختلط عندها صوت الأبواق المزعج وصيحات السائقين وأزيز الحديد الصدئ لأبواب المحال التجارية التي يهم أصحابها بإقفالها مع تلاوة آيات من القرآن الكريم تتعالى من قبة المسجد القديم: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام"... ويلقي عباس سائق سيارة أجرة مسؤولية عرقلة السير على الفانات التي "تتوقف لساعات بانتظار راكب من السماء، ما يسبب أحياناً كثيرة حوادث سير ويثير الفوضى..."، كما يقول، محاولاً استغلال الموضوع لمصلحته بإلقاء اللوم على "أعداء المهنة"... ويعلو صوت الآذان "الله أكبر" لتخف تدريجاً حركة السيارات وتفرغ الأرصفة من المشاة شيئاً فشيئاً وتبقى رائحة "الكلاج" و"القطايف"... وحدها عابقة في الجو، فيما يقف جعفر 19 عاماً عند عتبة محله يقلي الحلويات بالزيت الحامي ثم يغرقها في وعاء مملوء قطراً، ويؤكد بسعادة: "يعوّض العمل في رمضان عن بقية أيام السنة، إذ تبقى صواني الحلويات على أنواعها أساسية بعد وجبة الإفطار وربما تعتبر "مصلحة" بيع الحلويات الأكثر ربحاً في هذا الشهر". ربما يكون جعفر محقاً، ولكن هناك "مصلحة" أخرى لا تقل أهمية عن بيع الحلويات وهي "مهنة" التسول التي تتسلل من خلالها "مافيات" الشحاذين الى جيوب الصائمين مذكرة بوصايا الأنبياء ومتوددة الى قلوب أهل الخير. وهذا العام، ظهرت في شوارع ضاحية بيروت "موضة" جديدة من المستعطين الذين يحملون أكياساً ورقية كبيرة وينتقلون بتباطؤ شديد من مبنى الى آخر مشترطين التبرع بالملابس والأحذية فقط! وللأسف قلّما تجد في عيونهم انكساراً! ويقف أبو عبد بائع خضار عند طرف الشارع يختلس النظر الى النساء اللواتي يتهامسن حول غلاء أسعاره، ويراقب صناديق الخضار والفاكهة أثناء وضعه الأكياس الثقيلة على الميزان بقلة مبالاة واضحة للانتقادات والملاحظات التي يرد عليها بعبارة واحدة "بعدها أسعارنا أحسن من غيرنا بكتير"... فهو يعرف مسبقاً أنه مهما برر ارتفاع الأسعار لن يستطيع تبرئة ذمته أمام الزبائن وقلما يهمه الأمر، فصحن الخضر يبقى سيد المائدة كافتتاحية روتينية للأكل الدسم بعد 12 ساعة من الصيام. وعند الجهة المقابلة يستلقي الحاج كمال صاحب فرن على كرسيه القش باستكانة أقرب الى الاستسلام يحرك سبحته الصفراء بضجر ويقول: "في رمضان يتوقف العمل تماماً خلال النهار ونحاول التعويض عبر فتح الفرن من المساء وحتى وقت السحور لبيع المناقيش والمشاطيح الطازجة". ولليالي رمضان في شارع بئر العبد حكاية خاصة، حيث تستعيد السيارات - وأبواقها - نشاطاً اضطر اصحابها للتخلي عنه تحت وطأة جوع النهار، وتزدحم مساءً الأرصفة بغير الصائمين الذين خرجوا باحثين عن زاد يوم آخر - أو جولة أخرى - من الصيام. وبدورها تتنافس التعاونيات والمحال على شد انتباه الناس - وجيوبهم - عبر الأضواء المتلألئة والحسومات المغرية والعروض الخاصة بالشهر الكريم. وعند ناصية الطريق يطالعك المسجد بفوانيسه الصفر وأهلّته المضاءة، حيث يدعو المنادي كل مساء لقراءة الدعاء ويعلن طوال اليوم عن اقامة البرامج الدينية وأمسيات ختمية القرآن والاحتفالات الرمضانية في محاولة متكررة لتذكير الناس ببركة هذا الشهر. ويقول الحاج مهدي إمام جامع: "هذا الشهر هو فرصة للتقرب من الله وليس شهر ربح وتسالٍ وخيم رمضانية كما يحاول الإعلام تحويله...". ويبدو أن كلام الحاج لا يأتي من فراغ، إذ ان التلفزيون نجح في جذب المشاهدين ومشاركة العائلات سهراتها، بخاصة عندما يصير هو السبب الرئيسي في جمع شملها عند شاشته الصغيرة بحجمها، الغنية بتنوع محطاتها بين أرضية وفضائية تتنافس في عرض أقوى البرامج من مسلسلات وأفلام وسهرات بحلول شهر العبادة، وتتركز برامج الضحك ومقالب الكاميرات الخفية في شكل خاص عند الإفطار حيث تكثر الزيارات والدعوات، وخلال السهرات الممتدة حتى السحور والتي يترأسها التلفزيون وتكملها النرجيلة و"كانون" الفحم ويزينها التمر الهندي والجلاب... وبطبيعة الحال يتداول الساهرون أحاديث عامة خالية من أي غيبة أو نميمة، كما يؤكد عمر 25 سنة قائلاً: "بما ان هذا شهر الصيام فإننا بطبيعة الحال سنخفف من القلقلة والكلام على الناس... حتى بعد الإفطار!!". أفكار كثيرة كتلك وعبارات مثل "ما رح إكذب عليك برمضان" أو "بس لو مني صايم" وغيرها... اعتدنا ان نرددها بعفوية، مع أنها توحي بدلالات غريبة إذا أخضعناها للتحليل: فكأنما كلام السوء أمر مستقبح فقط خلال هذا الشهر أو أن الكذب ممنوع في رمضان وجائز في غيره من الشهور!! كثيرة هي العادات التي نغيرها خلال هذا الشهر، ولعل أبسطها عادة الأكل والشرب، وكثيرة أيضاً هي العادات التي تتغير من عام الى آخر، وتتطور مفاهيمها عبر الأجيال، إلا أن هناك عدداً من الثوابت التي تبقى على حالها وتميز رمضان عن بقية أشهر العام، وعلى رأسها وجبة السحور التي تعكس روحية الليالي وتمنح الصيام نكهة خاصة. وعلى رغم تطور الحياة الحديثة، وابتكار الأساليب المختلفة لإيقاظ النيام من سباتهم العميق، كما يفعل بعض الشبان الذين يتنقلون ليلاً من حي الى آخر واضعين على مكبرات الصوت أناشيد رمضانية، إلا ان المسحراتي يبقى مستأثراً بمكانته الخاصة في قلوبنا باعتباره دليلاً الى أصالة الماضي، خصوصاً أنه لا يزال محتفظاً بطبله الكبير، يسير في الشوارع على رغم برودة الطقس ولا يستبدل خامته الصوتية الجهورية بأي ميكروفون أو تقنية حضارية، يحفظ رونق فترة السحور ولا يتراجع عن مهمته التي يمكننا اعتبارها "فدائية"، خصوصاً حين يتربص به أحد عشاق النوم ليرمي على رأسه دلواً من الماء البارد... ورمضان كريم!