عندما ينظر المسلمون حولهم يكتشفون أن مراكز المواجهة في عالم اليوم تقع في أغلبها داخل العالم الإسلامي بدءاً من فلسطين مروراً بالعراق والشيشان وكشمير وصولاً إلى بعض مناطق القرن الافريقي وجنوب السودان، كما يبدو واضحاً أن المسلمين مطالبون اليوم بأن يدفعوا الجزء الأكبر من فاتورة التطورات الدولية والتداعيات التي جرت بعد أحداث أيلول سبتمبر عام 2001، ويكفي أن نضيف إلى ذلك أن نسبة المسلمين من مجموع اللاجئين في عالم اليوم تتجاوز الثمانين في المئة. ولا شك أن مثل هذا الوضع قد يؤدي بالضرورة الى شعور إسلامي عام بالاضطهاد والاستهداف والعزلة ويدفع المسلمين الى ترديد عبارات كثيرة منها أن الولاياتالمتحدة الأميركية وبعض الدوائر الغربية تريد أن تشن عليهم حرباً دينية قد لا تختلف كثيراً عن المفهوم الخاطىء للحروب الصليبية بكل ما جرته على المنطقة من حساسيات وما تركته في الذاكرة القومية من شوائب. وأضيف إلى ذلك أن هذا النمط من التفكير قد يؤدي أيضاً الى المبالغة في الاستسلام للتفسير التآمري للتاريخ وتصوير الأمور كلها وكأنها جزء من مؤامرة كبرى ضد الإسلام والمسلمين وهو ما يؤدي إلى نتائج وخيمة تصل إلى حد الإقصاء والعزلة والنفي الاختياري، والأمر في ظني يحتاج إلى معالجة واعية وفهم ذكي، ويقتضي ذلك إدراكاً عميقاً للنقاط الآتية: 1- يجب أن نعترف بأن صورة الإسلام لا تزال مشوهة لدى أولئك الذين لا يعرفون عنه القدر الكافي والذين يتناولونه من خلال قنوات مغرضة أو مصادر متعصبة. ونحن لا ننكر بالمناسبة أن الإسلام كدين لا يزال يتمتع بجاذبية شديدة، كما أنه يكتسب كل يوم أرضية أوسع. فهناك من يدخلون في دين الله أفواجاً بدءاً من سفير دولة أوروبية مهمة في عاصمة عربية مرموقة وصولاً إلى صحيفة غربية فرضت عليها ظروفها المهنية أن تتابع ما جرى أخيراً في إحدى الدول الإسلامية، كما أننا نتابع كذلك التزايد الهائل في حجم مبيعات ترجمة القرآن الكريم في الولاياتالمتحدة الأميركية وأميركا الجنوبية وأوروبا، وهو ما يعني إجمالاً أن المحنة الحالية لا تنال من جوهر الرسالة ولكنها تؤثر في أحوال المسلمين. 2- إنني أظن - وليس كل الظن إثماً - أن دور العرب المسلمين في الدعوة والتعريف بالإسلام انحسر تاركاً جزءاً كبيراً من الساحة للمسلمين غير العرب. ولا يخفى علينا أن فهم بعضهم للإسلام لا يبدو عميقاً بل ويخضع أحياناً لتأثيرات بعض القوميات الآسيوية ونعراتها المتعصبة. ولا زلت أذكر - ومعي الكثيرون - أن بعض الدعاة من مسلمي آسيا غير العرب بل ومن جنوب افريقيا ايضاً كانت لهم حظوة كبيرة في مجال الدعوة، وحقق بعضهم حضوراً عالمياً واضحاً. وهنا لا بد أن أشير إلى أنه من المقوّمات التي تميزهم عن المسلمين العرب في مجال الدعوة إجادتهم للغة الانكليزية وسيطرتهم على أسلوب التعامل مع العقل الغربي، ولكن ذلك يتراجع أحياناً أمام سطحية التناول والتشنج عند تناول بعض عناصر الدعوة من دون وعي عميق أو فهم لروح الإسلام الصحيح التي تتصف بالتسامح وتدعو الى الإخاء بين كل أطراف الجنس البشري. ولقد لاحظت أن بعض مسلمي الدول الآسيوية يوظفون انتماءهم الديني في خدمة أهداف قومية تسبق ارتباطاتهم الروحية، وهو أمر يدعو إلى ضرورة إحداث نوع من التوازن في الخطاب الديني الإسلامي المعاصر خصوصاً من حيث مصدره. أقول ذلك وأنا أدرك أن "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"، ولكنني أذكّر الجميع بنموذج "طالبان" وما جرّه على الإسلام والمسلمين من ويلات بسبب قصور النظرة وسطحية الفهم واستخدام الدين ستاراً للتعصب والتحجر والجمود. 3- إن انعدام الارتباط بين الخطاب الديني المعاصر الصادر عن العرب وبين إجادة اللغات الأوروبية لدى الداعية العصري أمر شديد الأهمية لأن افتقار المؤسسات الإسلامية في العالم العربي لقدرة التعبير باللغات الأجنبية خصوصاً اللغة الانكليزية هو أمر يمثل نقيصة كبرى ومشكلة واضحة في مجال الدعوة والتواصل مع الآخر وتقديم الإسلام الحنيف بصورته الصحيحة. ولو أخذنا أكبر مؤسسة دينية إسلامية في العالم العربي وهي الأزهر الشريف الذي يدرّس الفقه الإسلامي والشريعة الغرّاء بالمذاهب الاربعة لأهل السنة بالإضافة الى الفقه الجعفري للشيعة الاثني عشرية، فسنكتشف أن الأزهر قد عجز في كثير من المناسبات عن أن يلعب الدور الذي يؤهله له تاريخه وتسمح به مكانته لأسباب يقع في مقدمها ندرة المتحدثين من بين دعاته باللغة الانكليزية وغيرها من اللغات الأجنبية الحية، وهو أمر يشكل عقبة كؤوداً أمام توصيل صحيح الإسلام لمن يجب أن يصل إليه. ورغم أن الأزهر الشريف يحاول بقيادته المعتدلة وعلمائه الأفاضل أن يعالج النقص وأن يربي جيلاً من دعاة المسلمين العرب الذين يجيدون التعبير باللغة الانكليزية وغيرها من اللغات الكبرى إلا أن المشكلة ما زالت قائمة، ولقد فرضت التحديات الجديدة ضرورة الإسراع في حلها وتكثيف الجهود من أجل الوصول بصورة الإسلام الحقيقية إلى كل من يريد أن يعرفه أو حتى أولئك الذين يعادونه بغير فهم ومن دون دراسة. إن وسطية الإسلام واعتدال منهجه في الحياة وابتعاده الإنساني عن الغلو والتطرف يؤهلنا نحن العرب للتحدث بلغة جديدة فيها من فهم المتغيرات واستيعاب التطورات ما يجعلنا طرفاً فاعلاً في حياة العصر ومزاجه العام، وهو أمر قد لا تتيحه الظروف لأمم إسلامية أخرى من دون غطاء عربي يعطيها القدرة على فهم شريعة الإسلام وفقه ذلك الدين الحنيف. لذلك فإن المبادرة من جانبنا بالبدء في حملة دولية - فكرية وإعلامية - للتعريف بالإسلام والتركيز على مبادئه السامية وروح التسامح فيه ستكون خدمة سياسية كبرى لنا ولغيرنا وستمهد الطريق لإزالة أسباب سوء الفهم ومصادر انعدام الثقة. 5 - إن العالم الإسلامي يملك نماذج متعددة - رغم أممية الإسلام ووحدة شخصيته - فهناك على سبيل المثال النموذج السعودي والمصري والإيراني والتركي والباكستاني، وهي تتأرجح في ما بين التشدد والاعتدال. ففيما يبدو الإسلام في السعودية واقفاً على أرضه الأصلية في تمسك مباشر بالكتاب والسُنة، فإن الإسلام في مصر يحفل بطقوس التوقير لأهل البيت ويبدو وكأنه إسلام سني مذهباً ولكنه شيعي تاريخاً. أما الإسلام في إيران فقد تحول إلى سياسة رسمية لدولة إسلامية بعد الثورة "الخمينية". أما النموذج التركي فهو صورة فريدة من العلمانية التي فرضها أتاتورك مع وجود ثقافي راسخ للإسلام الذي بدأ يتزايد دوره هناك في السنوات الأخيرة. ويبقى النموذج الباكستاني الذي يحتوي أكثر العناصر تشدداً وأشدها تطرفاً، فهو النموذج الذي أفرز - بمنطق الجوار والظروف - حركة "طالبان" التي أساءت للإسلام كما لم يفعل غيرها. ونحن مطالبون بتقديم الإسلام الواحد في صورته الصحيحة وروحه الحقيقية وتسامحه المعروف. 6 - إن العلاقة بين الإسلام والسياسة تقع في جوهر العقيدة ولا يمكن تجاهل ذلك وإن كان يمكن توظيفها لخدمة المشاركة السياسية والتعبير عن إرادة الأمة مهما اختلفت المسميات والرموز. فالسياسة في الإسلام لا تعني العنف كما أن الجهاد أيضاً يخضع لمفهوم متطور فقد يكون التفوق جهاداً والتقدم جهاداً، كما أن ترويض النفس لمواكبة الحياة من دون تفريط في الثوابت هو نوع من الجهاد أيضاً، فليس الجهاد دائماً هو سيف أو مدفع ولكنه قد يكون كلمة حق أو فعل عدل أو مضياً نحو تحسين ظروف الحياة للمسلمين وغيرهم من البشر، وإذا استقر هذا الفهم لدى غلاة المتطرفين فإنهم سيتحولون إلى دعاة للاعتدال ويصبحون صورة مشرفة لدينهم في هذه الظروف الدولية الملتهبة بتداعياتها الخطيرة. 7 - إن التعليم الديني في الدول العربية بل والإسلامية يتحمل مسؤولية خاصة في هذه الظروف وليس المطلوب منا تلبية مطالب من يريدون القضاء عليه أو إضعاف دوره ولكن المطلوب هو ترشيده كي يؤدي الغرض منه والغاية من تطويره فيكون مصدراً لتخريج الدعاة العصريين وليس مركزاً لتفريخ دعاة العنف من المتطرفين، والتعليم الديني لا بد أن يكون عصرياً لا بالمعنى الغربي للكلمة ولكن بالمفهوم الإنساني لها. فلا بد للداعية المسلم من أن يتسلح بعلوم العصر وأدواته وأن يجيد لغاته الفكرية والتعبيرية حتى لا يصبح كائناً محلياً يردد النصوص ويقيم الطقوس وهو لا يدرك جوهر الدين وروحه الأصيلة. أقول ذلك وأنا أظن أن قرار تطوير الأزهر الشريف في مصر الذي اتخذه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في نهاية الخمسينات لم يحقق نتائجه بل أدى إلى ازدواجية واضحة داخل المؤسسة الدينية الواحدة، لذلك كله يجب التعامل مع مسألة التعليم الديني بكل حذر وانتباه. هذه ملاحظات رأيت أن أتطرق اليها ونحن نتناول قضية الدور الإسلامي للعرب في ظل هذه الظروف المعقدة والأجواء المسمومة. وقد رأيت التطرق الى هذا الموضوع الآن لأنني أظن أن رسالة واضحة حول الإسلام كما نعرفه ونؤمن به يجب أن تصل إلى كل الأطراف واضحة جلية خصوصاً أن التداخل بين الاسلام والعروبة أمر لا يحتاج إلى برهان. فالصورة في الغرب أن كل عربي مسلم بالضرورة وحتى المسيحيون العرب أصبحوا جزءاً منا نحسب عليهم ويحسبون علينا. إننا مطالبون بتحسين صورة رجل الدين الإسلامي وتدعيم الداعية الجديد بالفكر المستنير واللغات الأجنبية والإطلاع على المعارف الأخرى للثقافات المختلفة. فالإسلام مظلوم كما لم يحدث من قبل وصورته جرى تشويهها عمداً مع سبق الإصرار. ونحن مطالبون كعرب - مسلمين ومسيحيين - بالدفاع عن جوهر الإسلام الصحيح الذي يعترف باليهودية والنصرانية ويحترم الديانات السماوية. ويكفي أن نتصور أن معظم الأميركيين لا يزالون يظنون أن الإسلام هو "طالبان" وأن الإرهاب بضاعة إسلامية وتصدير عربي. فماذا ننتظر إذاً للبدء بدورنا العربي لإنصاف إسلامنا الحنيف؟ * كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.