عقد في أيلول سبتمبر الماضي مؤتمر عن جذور العداء للولايات المتحدة تبنته الخارجية الأميركية، أي أن الهدف هو التعرف على أسباب العداء لأميركا في العالم، كما قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية السيد باوتشر، وأمر مثل هذا لا بد من أن يرحب به دعاة السلام في العالم، فما أحوجنا اليوم إلى رجال يقودون العالم ببصيرة وحكمة، ولا شك في أن الباحثين لو رجعوا الى أدبيات الستينات لوجدوا الكثير مما يفيد في إلقاء الضوء على هذا الموضوع. لم تكن صورة الأميركي "القبيح" التي حارب جيل الستينات الأميركي في منازلتها من خلال المعارضة لحرب فيتنام إلا مظهراً من مظاهر البحث عن الذات، الذي مر ويمر به ذلك المجتمع، حيث تتنازع المجتمع الأميركي تيارات كثيرة لكن أهمها تياران، الأول يرى أن القيم التي بني عليها المجتمع الأميركي، مثل: الحرية والعدل واحترام الملكية الفردية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، هي من أهم رصيده الحضاري، ويمكن اعتبار رجال مثل الرئيس الأسبق جيمي كارتر أحد رموز هذا التيار في الوقت الحاضر، إذ يقول في مقال له في جريدة "واشنطن بوست" في الخامس من أيلول 2002، في عنوان "الوجه الجديد غير المريح لأميركا": إن هناك تغيرات أساسية في ثوابت السياسات الأميركية، في ما يتعلق بحقوق الإنسان كما في المجتمع الدولي، ودرونا في سلام الشرق الأوسط. ويضيف: "إن أميركا كانت في الماضي موضع تقدير عالمي واحترام بصفتها قمة المدافعين عن حقوق الإنسان، لكنها الآن أصبحت هدف المنظمات العالمية المحترمة المدافعة عن المبادئ الديموقراطية". ويعزو كارتر السبب في ذلك إلى مجموعة من المحافظين الذين يحاولون تنفيذ مخططاتهم تحت شعار محاربة الإرهاب. أما التيار الثاني فهو تيار المصالح الرأسمالية الأميركية الذي يدعو للتصرف من طرف واحد من دون اهتمام بتحالفات أميركا السابقة، وإن كان هناك من تنسيق بين الحلفاء السابقين فإنه يتم من باب الإعلام لا من باب المشاركة في اتخاذ القرار. ومن التيار الثاني، مجموعات الضغط الصهيوني واليمين المسيحي المتطرف، وهما فئتان لهما أجندتهما الخاصة، فالصهاينة همهم الكبير مشروع بناء إسرائيل والمحافظة على قدراتها العسكرية والمزيد من اغتصاب الأرض العربية، ولا يهمهم ما يلحق من مضار بسمعة أميركا. أما اليمين المسيحي المتطرف فإنه يرى في الإسلام المنافس الأول له من حيث الانتشار، فأتباع الدين الإسلامي في ازدياد عاماً بعد عام في الولاياتالمتحدة، وقد مثل انتشار المراكز الإسلامية هناك والزيادة في أعداد معتنقي الإسلام مصدر قلق للدعاة المسيحيين، كما يمثل هذا التطور قلقاً للمجموعات الصهيونية التي ترى فيه خطراً على نفوذها، وهذا ما يمكن أن يفسر التعاون في الهجمة الشرسة على الإسلام عامة، وعلى المملكة العربية السعودية بصورة خاصة للمكانة التي تحتلها في العالم الإسلامي. كانت أحداث 11 أيلول 2001 فرصة سانحة للانقضاض على الإسلام وقاعدته في المملكة العربية السعودية، وتأتي أهمية هذا المؤتمر وفي هذه الظروف بالذات لما يلي: أولاً: ان الولاياتالمتحدة الأميركية أصبحت فعلاً بلداً تحيط به الكراهية ليس من دول وأفراد في العالم الإسلامي فقط بل من العالم أجمع، ولا يعقل لدولة عظمى أن تفترض أن أسباب هذا العداء كما يحلو للبعض أن يصوره راجع للحسد والغيرة من التطور والثروة والديموقراطية التي يتمتع بها المجتمع الأميركي، فهناك دول أخرى في العالم مستوى دخل الفرد فيها أعلى منه في أميركا والممارسات الديموقراطية أفضل ولكنها لا تجابه بالعداء نفسه، ومثال ذلك الدول الإسكندنافية، ولكن قد تكون المشكلة كما وصفها الرئيس الأميركي السابق كلينتون بقوله: هل نريد أن نقود العالم أم نحكمه؟ وبالطبع هناك فرق كبير بين أن تقود وأن تحكم، لما لكل من الحالين من متطلبات وما لهما من تبعات. من متطلبات القيادة الناجحة اقتناع المقودين بعدالة القائد وحيدته، وأن يضرب به المثل في النزاهة والتجرد من الهوى، وهي أمور يصعب رؤيتها في الوقت الحالي في ما تعلنه الإدارة الأميركية من أن مصالحها القومية فوق كل اعتبار، ما يعني أن مصالح الأمم والشعوب الأخرى غير ذات بال بالنسبة اليها، وهذه الجزئية من أخطر ما يواجه صورة أميركا المنحازة لنفسها وغير العادلة بالنسبة الى العالم، إضافة إلى ما تمثله جماعات الضغط من إفساد للسياسة الخارجية الأميركية، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط. ثانياً: هناك سيطرة كبيرة في وسائل الإعلام ومؤسسات صناعة الفكر في أميركا لمجموعات الضغط الصهيوني والمسيحي المتطرف، التي استغلت كل وسيلة من وسائل التأثير لكي توجه السياسة الأميركية في العالم لتخدم مصلحة إسرائيل، هذه المجموعة وصلت إلى قلب القرار الأميركي، ومن ثم فإن الإدارة الأميركية لا تحصل بالضرورة على الرأي الصحيح الذي يخدم مصالح الولاياتالمتحدة بتجرد، لذا فإن هناك حاجة إلى أن تسمع الإدارة الأميركية رأياً محايداً في الأسباب الحقيقية لكراهية شعوب العالم لها. ثالثاً: من يزور القنصليات والسفارات الأميركية في العالم يصاب بذهول، إذ تحولت هذه السفارات وهذه القنصليات إلى قلاع محمية ينفق دافع الضرائب الأميركي عليها أموالاً طائلة. كانت هذه السفارات والقنصليات مكاناً يقصده الباحثون عن العلم والمعرفة وتحولت إلى قلاع كريهة، وهو ما يبين مدى الخوف الذي يسيطر على الإدارة الأميركية، حيث أصبح الهاجس الأمني هو المسيطر على هذه القنصليات والسفارات. إن معرفة أسباب الكراهية الحقيقية وغير المزورة من أصحاب المصالح والهوى، قد يكون له مردود إيجابي على الخزانة العامة ومن ثم على الفرد الأميركي العادي، وإنفاق ما يدفعه من ضرائب على تحسين مستوى المعيشة داخل أميركا بدلاً من إنفاقه على بناء قلاع للخارجية الأميركية. رابعاً: في ما يتعلق بالعالم الإسلامي فإن جذور الكراهية لا تحتاج إلى دراسة ومؤتمرات، فما يراه المسلم والعربي من انحياز كامل للكيان الصهيوني المعتدي في المنطقة هو المغذي والمنمي للعداء لأميركا في العالم العربي والإسلامي، خصوصاً بعد انحسار المد الشيوعي، وإن جذور هذه الكراهية ليست بين الشعب الأميركي والدول الإسلامية نتيجة لعقيدة أو دين أو غيرة مما حققته أميركا من تقدم، كما يحاول الصهاينة وأعوانهم أن "يفبركوا" من أجل تضليل الرأي العام، فالسبب الأساس هو غياب العدل، كما يراه المواطن العربي، في معاملة أميركا للقضية الفلسطينية وما يشهده من جرائم يومية نحو إخواننا العرب والمسلمين، وهنا نقطة مهمة: كيف ستستطيع الإدارة الأميركية الحد من نفوذ الجهات المسيطرة والجهات المتنفذة الدافعة بسياسة إسرائيل وسيطرتها على نتائج هذا المؤتمر، وتحويله إلى مؤتمر عن الإرهاب بدلاً من البحث عن أسباب الكراهية ومحاولة معالجتها؟ السؤال هنا: هل استطاع هذا المؤتمر الحصول على رأي نزيه ومحايد؟ خامساً: هذا المؤتمر يأتي في فترة حرجة من تاريخ البشرية، وهي نقطة تحول بين الحرب والسلم، فترة الحديث عن استعدادات الولاياتالمتحدة للدخول في مغامرة عسكرية من أجل إسقاط النظام العراقي كبداية، ومن ثم الانقضاض على من لا يروق لها من دول العالم النامي، خصوصاً دول العالم الإسلامي وهو أمر قد يفتح أبواب الشر على العالم أجمع. وهذا المؤتمر قد يعطي صورة محايدة للرئىس الأميركي، أو وجهة نظر مخالفة لوجهات النظر التي يدفع بها دعاة الشر في الإدارة الأميركية، أو من يطلق عليهم مجازاً بالصقور، وهي تسمية خاطئة فليسوا إلا دعاة خراب ودمار، وهذا ما يجب أن يسموا. وليس بالغريب أن نجد أن أكثر الدعوات المطلقة للعداء مع الدول الإسلامية، والداعية للتدخل السريع في إسقاط النظام العراقي، تأتي من مجموعة الضغط الصهيوني ودعاتها وأعوانها والصحافة الخاضعة لها. ألا ترى الإدارة الأميركية وبتحليل بسيط، أن التحليل الموضوعي لهذه الأصوات يبين أن المجموعة الدافعة والداعية لاستعداء العالم الإسلامي والتدخل في العراق، هي المجموعة نفسها التي تزرع العداء بين العالم الإسلامي وأميركا، وأن مجلس الشيوخ والنواب أصبحا حبيسي ولاء لما تمليه الحكومة الإسرائيلية من خلال جماعات الضغط الصهيوني. إن مصالح الولاياتالمتحدة ليست بالضرورة هي مصالح إسرائيل، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار أن هناك ما يزيد على بليون وربع البليون من البشر ممن يعتنقون الديانة الإسلامية وجزء كبير منهم من العرب، يرون ان السياسة الأميركية نحو الشرق الأوسط خالية من العدل. سادساً: لا نعلم ما هي النتائج التي تمخض عنها هذا المؤتمر ولا كيف سيترجم الخمسون مسؤولاً ومستشاراً في الخارجية الأميركية والمكلفون دراسة هذا الملف النتائج أو الروئ التي طرحت، كيف سيترجم ما قاله الخبراء الأجانب لصانع القرار في البيت الأبيض، إن كان هناك حيدة وموضوعية فهذا المؤتمر سيكشف بصورة لا تدع مجالاً للشك أن الأصوات الداعمة لإسرائيل في أميركا هي أصوات غير محايدة، لا يجب الوثوق بها في أي استشارة تقدم للإدارة الأميركية في ما يتعلق بالشرق الأوسط أو بالعالم الإسلامي، نظراً للعداء الذي تظهره هذه المجموعات للإسلام وللعرب المسلمين. وباختصار، يمكن القول إن هذا المؤتمر يمكن أن يؤدي إلى نتائج إيجابية في مصلحة الولاياتالمتحدة وتحسين سمعتها في العالم الإسلامي، شرط أن يقال لمجموعات الضغط والمصالح الخاصة أن يمتنعوا عن تشويه الصورة واستغلال الظروف والعمل على تشويه سمعة الولاياتالمتحدة في العالم، خصوصاً في العالم الإسلامي. كثيرون ممن تحدثت معهم من العرب والمسلمين لا يعتقدون بوجود مشكلة بين الولاياتالمتحدة والعالم العربي والإسلامي ذات جذور من الكراهية نتيجة الاستعمار، فإذا أمكن الوصول إلى حل عادل وشامل في فلسطين يحقق العدل للفلسطينيين ويحمي المنطقة العربية من الحروب فإن العداء للأميركيين يمكن استئصاله، ولكن، إن قامت أميركا بحرب على العراق واحتلته وسفكت الدماء فيه فإن جذور العداء بين العرب والمسلمين وأميركا ستتعمق، وهذا يكون ما تهدف اليه العصابات الصهيونية النافذة في واشنطن. إن الكيل بمكيالين ترجح فيه كفة إسرائيل هو جذر الكراهية لأميركا في العالم الإسلامي، ولكن، ألا يعرف الساسة الأميركيون هذه الحقيقة، التي يصبح من يتلفظ بها في خبر كان، كما حدث لبعض أعضاء الكونغرس في الانتخابات الأخيرة؟ هل يجوز لجماعات الضغط هذه أن تسخر هذه القوة العظمى لإرادتها؟ نأمل أن يقرأ الرئىس جورج بوش مقال رئىسه الأسبق جيمي كارتر بعناية، وأن ينسى أن الاخير من الحزب الديموقراطي، خصوصاً أنه حاز على جائزة نوبل للسلام للعام 2002. عضو مجلس الشورى السعودي.