شغل التسجيل الصوتي الذي أعلن أخيراً لزعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن العالم كله ورفع وتيرة الاستعدادات الغربية إلى الخط الأحمر في توقع هجوم ضخم و"مذهل" يستهدف المصالح الغربية والأميركية تحديداً. وأعاد التسجيل الصوتي معركة "مكافحة الإرهاب" التي تقودها الولاياتالمتحدة إلى المربع الأول، وبرز من جديد السؤال القديم: أين أسامة بن لادن وخليته الضيقة، وهل الأسماء الكبيرة المتداولة دولياً هي بالفعل القيادة الحقيقية لتنظيم "القاعدة" أم أن هناك قيادة سرية تدير المعركة؟ وإلاّ فكيف يمكن تفسير استمرار نشاط "القاعدة" على رغم كل الضربات التي وجهت اليها؟ وفي اعتقاد المتابعين للشأن الأفغاني والحركات الإسلامية المتشددة، فإن نشر التسجيل الصوتي طرح علامات تساؤل كثيرة وأربك الأجهزة الأمنية الدولية حول مكان اختباء بن لادن، أكثر مما حل ألغازاً لا تزال تحيط بهذه الشخصية الغامضة التي تمكنت طوال 14 شهراً من التواري عن الأنظار على رغم كل الجهود الدولية لملاحقته ومتابعته. ويرى مراقبون للوضع الأفغاني أن التصعيد العسكري الخطير والنوعي الذي شهدته المناطق الأفغانية والذي جاء بعد 48 ساعة من إذاعة الشريط، ربما يوحي بأن بن لادن لا يزال مع الملا عمر وقلب الدين حكمتيار يديرون المعركة من داخل الأراضي الأفغانية، اذ اتخذت الهجمات التي تشنها حركة "طالبان" وتنظيم "القاعدة" وقوات "الحزب الإسلامي" الأفغاني ضد القوات الأميركية داخل أفغانستان منحى جديداً وخطيراً عندما انتقلت الاستراتيجية العسكرية لهذه القوى من إطلاق الصواريخ إلى الهجمات البرية في وضح النهار، اذ اشتبكت القوات المهاجمة في الأيام الأخيرة لمدة ست ساعات مع القوات الأميركية والأفغانية الموالية لها في قاعدة تشابمان في ولاية بكتيا على الحدود مع أفغانستان من دون أن تهرع الطائرات الأميركية في قاعدة بغرام إلى نجدتها، وترافق ذلك مع اشتباك وقع في عزّ النهار أيضاً بين الطرفين في قاعدة لوارا العسكرية في منطقة خوست المضطربة منذ وصول القوات الأميركية إلى أفغانستان. ووفقاً لمصادر أفغانية موثوق فيها فإن هذا التطور ترافق مع ثلاثة أحداث بارزة أولها التسجيل الصوتي الذي حصلت عليه "الحياة" لزعيم تنظيم "القاعدة" والذي يتوعد فيه بتصعيد العمليات العسكرية ضد القوات الأميركية وحلفائها، والحدث الثاني هو الذكرى السنوية الأولى التي صادفت 14 من الشهر الجاري على سقوط حركة "طالبان" الأفغانية. أما الحدث الثالث فهو إعدام الباكستاني أيمل كانسي لقتله اثنين من موظفي الاستخبارات المركزية الأميركية عام 1993. وربط مراقبون سياسيون في بيشاور بين التطور الجديد الذي لجأت إليه القوات المناهضة لأميركا والتي تتكون من "القاعدة" و"طالبان" و"الحزب الإسلامي" بزعامة حكمتيار وبين اعتراف رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية الجنرال ريتشارد مايرز في كلمته أمام "معهد بروكينغز" بأن القوات الأميركية فقدت قوة الدفع في أفغانستان لمكافحة الإرهاب، وهو ما تصادف مع ما تداولته مصادر في الأممالمتحدة أخيراً عن مصادرة القوات الأميركية كميات ضخمة من الأسلحة لزعيم الحرب القائد باتشا خان زادران الذي كان موالياً لها، بعدما اتهمته ببيع هذه الأسلحة لمعارضيها من "القاعدة" والجماعات الأفغانية الأخرى. نظرية خروج الأوضاع عن السيطرة في أفغانستان، أو كما وصفها مايرز ب"فقدان القوة الدافعة"، ظهرت أيضاً في استعداد القوات الاسترالية للانسحاب من أفغانستان وهو ما ربطه البعض بتهديدات زعيم "القاعدة" الأخيرة لأستراليا. ومما سيزيد من فقدان القوة الدافعة للحملة الأميركية في أفغانستان التوجه نحو العراق اضافة إلى فوز الإسلاميين في مناطق محاذية لأفغانستان وهو ما يخولهم تشكيل حكومات اقليمية لن تتعاون بكل تأكيد مع واشنطن ضد مقاتلي "القاعدة" و"طالبان"، خصوصاً أن هذا التعاون لم يحصل بين الحكومة الباكستانية بزعامة مشرف والحكومة الأميركية حتى يحصل في زمان سيطرة الإسلاميين على حكومة الإقليمين في سرحد وبلوشستان. فقد برز التعاون الباكستاني مع واشنطن في مكافحة ما يوصف بالإرهاب في المدن الباكستانية الرئيسية كما حصل مع القبض على أبي زبيدة ورمزي بن الشيبه ، فيما لم يقبض على أي شخص كبير في مناطق القبائل. ولعل تراجع التعاون الباكستاني مع أميركا تجلى أيضاً أخيراً في رفض الحكومة الباكستانية تسليم الجراح الباكستاني أمير عزيز المتهم بالعلاقة مع القاعدة إلى الولاياتالمتحدة للتحقيق معه، كما ترافق مع الإفراج عن أحد قادة الإسلاميين الباكستانيين زعيم "لشكر طيبة" حافظ سعيد الذي حذرت واشنطن من مغبة اطلاقه. ونشط أخيراً "الجيش السري للمجاهدين المسلمين" الذي وزع بياناً جديداً بعد بيانه الأول دعا فيه إلى مواصلة المقاومة ضد القوات الأميركية والأجنبية حتى إخراجها من أفغانستان. وتبنى "الجيش" الذي يعد بيانه هذا الثاني من نوعه، سلسلة الهجمات التي تعرضت لها القوات الأميركية في أفغانستان. وبعدما كانت الأجهزة الأمنية الغربية وجهت اهتمامها الى المناطق القبلية الباكستانية المجاورة لأفغانستان كمكان مرشح لاختفاء زعيم "القاعدة" فيه، توجهت الأنظار فجأة إلى اليمن حيث أجداد بن لادن. فعمدت إلى تحريك طائراتها من دون طيار إلى قاعدة جيبوتي لتقوم بمهمة الاستطلاع والمتابعة لنشاط "القاعدة" في اليمن التي يعتقد بأنها قوية ونشطة بعد اغتيال أحد قادتها الحارثي الشهر الماضي بصاروخ أميركي موجه، وأوفدت بريطانيا على الفور بعض وحداتها الخاصة لتمشيط منطقة حضرموت التي يشتبه بوجوده فيها. أما على وجه اليقين فإن آخر ظهور لتنظيم "القاعدة" كان على شريط فيديو مع أحد مساعديه الدكتور أيمن الظواهري في شريط بثته قناة "الجزيرة" في نيسان من العام 2002 ، وفي الوقت الذي كان أحد قادة المجاهدين الأفغان زمان خان الذين شاركوا في معركة تورا بورا في جلال آباد يؤكد أنه سمع صوته وهو يحض أتباعه على القتال عبر أجهزة اللاسلكي. إلاّ أن الأجهزة الأمنية الغربية بدأت تحمل هذا القائد مسؤولية إخفاء بن لادن والتستر عليه والتشكيك حتى في وجود بن لادن في تورا بورا خلال تلك الفترة، خصوصاً بعد تصريح أحد قادة طالبان السابقين نائب وزير الدفاع الأفغاني مولانا عبد الله شاهدي الذي أكد أنه التقى بن لادن في تشرين الأول أكتوبر الماضي في "فندق موفق" في هيرات جنوب غربي أفغانستان على الحدود مع إيران. وتتوقع مصادرغربية أن يكون بن لادن تمكن بمساعدة المهربين من اللجوء إلى كويتا ومنها إلى ميناء جوادر ثم إلى عُمان ومنها إلى اليمن حيث مسقط رأسه. ومن المؤكد ان فوز الإسلاميين في الانتخابات الباكستانية وقدرتهم على تشكيل حكومتين في إقليمين مجاورين لأفغانستان سيضاعف من تعقيدات المهمة الأميركية في متابعة "القاعدة" وزعيمها في مناطق القبائل التي لا تخفي تأييدها وتعاطفها مع "القاعدة" و"طالبان".