اصبح لغالبية التوانسة عادة جديدة "ادمنوا" عليها في وسط الأسبوع وهي متابعة مباريات بطولة الاندية الاوروبية لكرة القدم في ادق تفاصيلها، وتتبع آثار "ابنهم البار" حاتم الطرابلسي لاعب اياكس امستردام الهولندي. ولا شك في ان الطرابلسي يعد استثناء، والصفقة الأغلى في تاريخ انتقالات اللاعبين التوانسة الى الضفاف الشمالية. وغني عن التعريف أن اياكس يحيلك على تاريخ عريق بالأمجاد ومدرسة عالمية نموذجية في رعاية اليافعين وتخريج النجوم الشباب، لكن مسيرة الطرابلسي في موسمه الثاني في "بلد الدراجات" تلقى الاحترام كونه فتى مهاجراً صقل الفقر موهبته فأصبح نجماً عربياً يتلألأ في سماء أوروبا، يحثه طموح نحو آفاق ارحب كنموذج للاندماج الناجح في عالم الاحتراف الشرس الذي لا يعترف إلا بالقيمة المضافة خصوصاً في هذه الأوقات الصعبة. عندما بث موقع نادي ميلان أ.س الإيطالي على شبكة الإنترنت، خبر اهتمام النادي، الذي يملكه رئيس الوزراء سيلفيو برلوسكوني، بالطرابلسي، لم ينتظر المدرب الألماني لاياكس طويلاً، ليرفع سقف الاهتمام الى الأعلى قائلاً أن "في عالم الكرة المستديرة، ليس هنالك قيمة رياضية في الدنيا تفوق الفتى الأسمر سوى البرازيلي كافو...". لم يعهد بالمدرب رونالد كويمان الدائم التجهم وصاحب الآراء والافكار الحديدية التلاعب بالألفاظ، ولكنه ابرز حقيقة امكانات اللاعب التونسي وبأن ما تقدم في البدء يتجاوز الخطاب الإنشائي. لا يزال الاتحاد الدولي يعتبر الدوري التونسي افضل دوري عربي على رغم تراجع مستواه وعقدته المستديمة المتمثلة في الانتقال من الهواية الى الاحتراف. وقد حافظ المنتخب على تصنيف جيد ضمن المنتخبات العربية والافريقية دولياً، ولا تزال الأندية التونسية تقتات من تاريخها العريق الحافل بالأمجاد والبطولات، إلا ان الميزان التجاري على مستوى انتقالات اللاعبين لا يزال يعاني عجزاً يتفاقم مع مرور الأيام والسنين. وتستقطب البطولة التونسية جيشاً عرمرماً من اللاعبين الأفارقة والبرازيليين، في حين لا يكاد يسمع شيء عن اللاعبين التوانسة في الضفاف الشمالية. ولا مجال هنا للمقارنة مع اشقائهم المغاربة او الجزائريين، ولا النظر الى ما وراء الصحراء وإبداعات النيجيريين والسنغاليين. وتعددت الآراء حول فشل "تصدير" التوانسة الى أوروبا، لكن التاريخ يحيلنا الى عقدة مع الدوري الفرنسي وشذرات هنا وهناك، وغياب كلي في البطولات الإسبانية والإيطالية والإنكليزية. لائحة في عيد استقلال تونس عام 1956، انتقل اللاعب بو جمعة الكميتي وزميله المختار بن ناصف الى نادي نيس الفرنسي وتبعهما نور الدين ديوة الى ليموج، وحمادي هنية الى مونبيليه ثم موناكو. وحصل الطلاق مبكراً بين تميم الحزامي وأولمبيك مرسيليا ثم مع اللاعب الأسمر المهدي بن سليمان. وعجز جيل التسعينات وأبرز وجوهه فوزي الروسي وعادل السليمي، على التأقلم مع معشبات المستعمرة القديمة. فعاد جمال الدين الامام سريعاً من ستاندارد لياج البلجيكي، لتحتفظ ذاكرة التاريخ التونسي في اوروبا بنبيل معلول في هانوفر وزبير بيه في فراريبورغ الألمانيين وزياد التلمساني في غيماراش البرتغالي. وتعد عائلة التلمساني عائلة عريقة في كرة القدم التونسية، فالأب عبدالحميد لا يزال يحتفظ بلقب افضل هداف في الدوري 36 هدفاً، والابن زياد ابدع في مسيرته الجامعية فأصبح مهندساً ونجح في احترافه في البرتغال واليابان، ثم أتقن لعبة الانتقال من لاعب نجم الى عالم المال والأعمال، فأصبح وسيطاً في انتقالات اللاعبين يعتد بآرائه واختياراته، ولولاه لكان الطرابلسي ملازماً للمحلية وعلى مقعد البدلاء لمنتخب تونس. رحلة صامتة في محلة "حي المطار" الشعبية والساخنة نشأ الطرابلسي. غادر المدرسة باكراً والتحق بالنادي الصفاقسي. من هناك تخرج الساحر حمادي العقربي والفنان اسكندر السويح والمدافعان المختار ذويب ورضا اللوز... لم يكن مشواره مفروشاً بالورود وسط بارونات تتحكم في تشكيلة الفريق قبل رأي المدرب. قاسى طويلاً من تجاهل المدرب السابق الإيطالي فرانشيسكو سكوليو، لكنه إلتزم الصمت وثابر على العمل والجهد، ليحمله الوسيط التلمساني الى اياكس في صفقة هي الأرفع في تاريخ انتقالات التوانسة، اذ بلغت 3 ملايين دولار. ولكن الفتى المهاجر لم يغتر ويتنكر لهيئته ومدرسته الأولى الصفاقسي الذي استغل الثروة غير المنتظرة ليشيّد مجمعه وفندقه الجديدين، وكان نصيب حاتم من الصفقة 200 ألف دولار فقط. وهو فهم اصول اللعبة ولم يشترط اية مزايا في عقده الجديد الذي يستمر حتى مطلع عام 2004، وأدرك بأن التعب والجهد والمثابرة والصمت طريقة لتثبيت موقعه وسط النجوم. احرز اياكس بطولتي الدوري والكأس في الموسم الماضي، فضاعف الطرابلسي الجهد وسط استحقاقات مسابقة الاندية الاوروبية حيث الأضواء والشهرة وسوق الانتقالات الواعدة. لم يغادر تواضعه بعدما اشاد مدربه السابق ادريانسي بإمكاناته "كظهير ايمن صلب يتميز بالسرعة في حبك العمليات الهجومية"، بل اثبت رغبة في التألق والطموح نحو الأفضل مع مدربه الحالي كومان. سفير ناجح ولعل الأجمل في سيرة الفتى المهاجر، تلك المقدرة على إبراز الوجه المشرق للعربي المسلم في مجتمع مختلف ووسط تصاعد موجات العداء لحضارة الشرق ونداء صراع الحضارات. يحرص الطرابلسي على الالتزام بموعده الأسبوعي صباح كل اثنين والمخصص لتعلم اللغة الهولندية بانتباه لا يقل عن اعتنائه بحصص التمرين في الملعب. ويصر على الصيام في شهر رمضان المبارك "أشعر بأن الصيام يزيدني قوة ويسعدني ولا يؤثر على أدائي، لأن قوة الإيمان والعزيمة تجعلني اتغلب على الصعوبات كلها". لم يعرف التوانسة السيدة منى زوجته مرتدية للحجاب في تونس، لكن عدسات العالم نقلت صورتها الجديدة في المونديال الاخير في كوريا الجنوبية واليابان، والأهم من ذلك لم يتخلف يوماً عن الحضور في التوقيت المحدد للتمارين والمباريات إلا لأمر طارئ او اصابة حادة... فجلب له ولبلده وحضارته الاحترام. يعتقد الطرابلسي بأنه لا يزال في بداية مشواره ويرنو الى الأعلى، هناك في تشلسي الإنكليزي او برشلونة الإسباني، وما ذلك ببعيد...