توفي في لندن قبل أيام الممثل ريتشارد هاريس، لتفقد بذلك السينما الانكليزية واحداً من أهم ممثليها. فعلى رغم أن ريتشارد هاريس المولود قبل 72 عاماً، كان إرلندي المولد، وعلى رغم أنه حقق بعض أبرز أفلامه في هوليوود، فإنه ينتمي فنياً إلى السينما الإنكليزية التي عاشت بعض أزهى فتراتها بين نهاية الحرب العالمية الثانية وأواسط السبعينات من القرن الماضي. قامة طويلة، نظرات باردة، ملامح قاسية وحركة جسد لامبالية، وخلف كل ذلك موهبة تمثيلية فذة جعلت من ريتشارد هاريس واحداً من شخصيات الشاشة التي لا تنسى، وبخاصة في أفلامه التي لعب فيها أدواراً مركبة تحتاج الى مواهب عبقرية في التمثيل. وربما كان أفضل مثال على تلك الأفلام التي صنعت مجده في أوائل الستينات من القرن الماضي، وفي صورة خاصة دوره في فيلم "تلك الحياة الرياضية" الذي أخرجه البريطاني ليندساي أندرسون عام 1963، وقام فيه هاريس بدور عامل يحاول أن يتحول الى لاعب ركبي من دون كبير نجاح. فشل في العمل وفشل في الرياضة وفشل في الحب مع صاحبة المنزل الذي يقيم فيه، وهو ما طبع شخصيته في الفيلم بطابعين متناقضين هما القسوة الظاهرة والضعف الداخلي. عاطفتان متناقضتان أجاد هاريس التعبير عنهما، ما جعله واحداً من أهم الممثلين الإنكليز في جيله. وحاز عن دوره هذا جائزة افضل ممثل في مهرجان كان، كما حصل على ترشيح لنيل جائزة الأوسكار. رجل - حصان وفي العام 1970 قدم هاريس دوراً آخر من أدواره المركبة التي لا تنسى، حين قام ببطولة فيلم "رجل يدعى حصان" مثّل فيه دور أرستقراطي إنكليزي أبيض يقع أسيراً في أيدي هنود السيوكس ويلقى على أيديهم العذاب، ولكنه يتحول واحداً من أكبر مؤيديهم في هذا الفيلم الذي تحول واحداً من كلاسيكيات السينما. وفي العام 1990 قام هاريس بدور فلاح ناري المزاج في فيلم "الحقل". ولكن كثراً يتذكرونه في أشهر أدواره، وإن لم يكن أعظمها، وهو دوره في فيلم "كامليوت" 1967، الفيلم الغنائي الذي جسد فيه شخصية الملك آرثر. ومثل كل الممثلين الإنكليز ذوي المواهب الفذة من جيله، من أمثال ريتشارد بيرتون وبيتر أوتول وآخرين أقل شهرة مثّل بول سكوفيلد "رجل لكل الفصول"، بدأ ريتشارد هاريس حياته الفنية على المسرح البريطاني العريق، ففي العام 1956 مثّل أول أدواره في مسرحية "الشخص غريب الأطوار" من تأليف مواطنه الكاتب المسرحي الإرلندي براندن بيهان، فالمسرح هو المدرسة الحقيقية التي يتخرج فيها الممثلون البريطانيون قبل أن تخطفهم هوليوود. وبعد مسرحيات عدة دخل عالم التمثيل السينمائي بفيلم "أحياء ونلاكم" عام 1958، وبعدها ذهب إلى هوليوود حيث شارك كممثل ثانوي في بعض أشهر أفلام مطلع الستينات مثل "مدافع نافارون" و"ثورة على السفينة بونتي". لكن فرصته الأكبر كانت في "تلك الحياة الرياضية" التي وضعته في مصاف الممثلين العظام في تاريخ السينما الإنكليزية. ولكن مسيرة هاريس الفنية لم تكن متسقة كلها، فهو مثّل بعض أعظم أفلام النصف الثاني من القرن الماضي: "ماجور داندي" 1964 مع تشارلتون هستون، و"الصحراء الحمراء" للمخرج الإيطالي الكبير أنطونيوني 1964 و"كرومويل" 1967، ولكنه مثل أيضاً في أفلام كانت كما اعترف هو نفسه، دون مستواه الفني بكثير. وفي صورة أو أخرى كان هاريس يكرر تجربة فنية عظيمة أخرى هي تجربة عبقري السينما أورسون ويلز الذي كثيراً ما شاهدناه ممثلاً ثانوياً في افلام من الدرجة الثانية وبخاصة في سنواته الأخيرة. كان العبقري أرسون ويلز يقوم بهذه الأدوار لحاجته الى المال، أما هاريس فقال إنه كان يمثل أدواره هذه لمجرد التسلية: "لقد قبلت أدواراً كانت أقل من موهبتي بكثير. للتسلية فقط" قال لصحيفة "الغارديان" مرة معتبراً أن الجزء الأكبر من مسيرته الفنية كان فاشلاً. غير أن مضي السنين وتحوله من شاب صلب العود قاسي الملامح إلى عجوز أبيض الشعر مكّنه من مواصلة مسيرته الفنية حتى اليوم الأخير في حياته، فقام بأدوار الإمبراطور "ماركوس أوريليوس" في فيلم "غلادياتور" و"ألبوس دمبلدور" مدير كلية السحر الطيب في فيلم "هاري بوتر" الأخير، وراعي كنيسة نوتردام الذي يقع في غرام إزميرالدا الغجرية في إخراج تلفزيوني لرواية فكتور هوغو الشهيرة وغيرها. برحيل ريتشارد هاريس تغيب عن الشاشة موهبة تمثيلية عبقرية، تنتمي إلى تلك النخبة من الممثلين الكبار الذين قدمتهم بريطانيا إلى الشاشة السينمائية، مواهب تتضمن أسماء عظيمة مثل تشارلز لوتون ولورنس أوليفييه وديفيد نيفن وجيمس ماسون وأليك غينس في جيل، وريتشارد بيرتون وبيتر أوتول وريتشارد هاريس في جيل تال، وأوليفر ريد ومايكل كاين في جيل أخير. ورحل معظم هؤلاء قبل ريتشارد هاريس، ومن لم يرحل فقد توقف، ومن هنا يمكن اعتبار هاريس آخر عمالقة السينما الإنكليزية، وبرحيله تطوى صفحة مشرقة في تاريخ هذه السينما كانت خلالها بريطانيا ترفد هوليوود ببعض أفضل ممثلي الشاشة الفضية، وكان هاريس آخرهم ومن أكثرهم موهبة.