Charles Townshend. Terrorism: A Very Short Introduction. الإرهاب: مقدمة قصيرة جداً. Oxford University Press. 2002. 158 pages. تحتل الظاهرة الارهابية في عالمنا اليوم أهمية غير مسبوقة. لكن إذا كان هذا المعطى يحض على التمعّن في درسها وفهمها، فإن مساهمة التأويل اليميني الأميركي لم تقدّم الا ضجيجاً ديماغوجياً يلبّد عملية الفهم المطلوبة. في المقابل يحاول البريطاني تشارلز تاونسهيند، بأقل قدر من الصفحات، أن يحشد كمية من المعرفة والتحليل يجمعان بين بساطة التعبير ومواكبة التعقيد الكامن في الظاهرة قيد التناول. فأحد أهم التمييزات بين الارهاب والحرب ان الاخيرة صناعة دول فقط، فيما الأول هو ما يقوم به أناس أضعف من أن يتحدّوا الدول علناً. ومن دون ان يعني هذا ان كل معارضٍ ضعيفٍ يعتمد استراتيجية الارهاب، يبقى ان الحرب مواجهة، والارهاب نفي المواجهة. ومنذ الستينات كان صدر الكتاب الرائد ل تي. بي. ثورنتون حيث اقترح وجود نمطين ارهابيين بالمعنى التقني، واحداً "تعزيزياً" والآخر "تحريضياً". وأما وظيفة الارهاب التعزيزي فمحدودة لأن هدفه الحفاظ على أمن المنظمة المعنية عبر ردع الجمهور عن تزويد السلطات بالمعلومات. والمنظمة، كي تنجح في هذا، ينبغي ان تتمتع بنظام رصد موسّع يُقنع الناس بأن مساعدة السلطات أمر مكلف. وفي المقابل، يطرح الارهاب التحريضي على نفسه أهدافاً أبعد وأكبر، كالثورة والتحرر الوطني. وحتى الآن لا يزال تقسيم ثورنتون صالحاً مع أن كتّاباً لاحقين أغنوا ووسّعوا معانيه. ففي دراسة لها عن جبهة التحرير الجزائرية، مثلا، لاحظت مارثا كرينشو ان تأمين الدعم للارهاب ينطوي على هدفين مميزين: ضمان الخضوع أو الطاعة، والفوز بالتعاطف والتأييد الايديولوجي والأخلاقي وهذه السمة الأخيرة هي ما ينفيه الكتّاب اليمينيون اذ ينفون كل غرض وراء الارهاب. وقد وجد المنطق الفريد لهذا العنف صياغته المبكرة في كرّاس يعود الى ثمانينات القرن التاسع عشر. فقبل ظهور مديح جورج سوريل للعنف، ألّف الفوضوي جوهانس موست "فلسفة القنبلة" مسجّلاً النقاط التالية: 1ً- العنف المتجرّىء يستولي على المخيّلة العامة، 2ً- بالعنف هذا يمكن ايقاظ جمهوره على القضايا السياسية، 3ً- العنف أداة تمكين احتياطية لصاحبه وقوة تطهيرية المعنى الذي استعاده فرانس فانون بعد ثمانين عاماً، 4ً- العنف المنهجي يمكن ان يهدد الدولة ويدفعها الى ردود فعل نازعة لشرعيتها، 5ً- العنف قابل لضعضعة استقرار النظام وتهديد التركيب الاجتماعيين من خلال اطلاق دوّامة العنف والعنف المضاد، 6ً- الشعب، في النهاية، سوف يتخلى عن الحكومة ويتجه الى الثوريين. وبحسب ترسيم كهذا يُرفع الارهاب من كونه عنفاً يخدم غرضاً ما الى صيرورته استراتيجية سياسية حاسمة ومكتفية بذاتها. لكنه، وهذه نقطة نادراً ما يتم التطرق اليها، يختلف عن الحرب في سمة أخرى هي دور المرأة. فمنذ فيرا زاسوليتش التي نفّذت اول هجوم مسلح قام به الشعبيون الروس مُطلقةً النار على حاكم سان بطرسبورغ في 1878، احتلت النساء موقعاً متصدّراً في الارهاب بحيث قلبن الوظائف الجندرية التقليدية. والحال ان النساء شكلن قرابة ربع ارهابيي روسيا القرن التاسع عشر، ونسبةً ربما كانت اكبر بين ارهابيي الولاياتالمتحدة والمانيا في سبعينات القرن العشرين، كما ان ثلث المنضوين في "جبهة تحرير البروليتاريا" و31 في المئة من عناصر "الألوية الحمراء" الايطاليتين كانوا منهن. ولقد أمكن إيراد أسباب عدة ومتضاربة لتفسير ذلك. فأُشير الى التأويل التنميطي من أن حوافز النساء "العاطفية والأشد مناعة حيال الحجج المنطقية" تلعب دوراً يفوق الدور الذي ينشأ عن طبيعة التنظيمات نفسها. وذهب والتر لاكور، في المقابل، الى ان النساء الارهابيات اكثر تعصبا من زملائهن الرجال وأشد تحملاً للألم. على ان اجابات كهذه لا تفسّر الكثير، مثلها مثل الاجابات المعطاة عن السؤال الأم: من الذي يصير إرهابياً؟ والجواب النسبي الأرجح هو ان الأمر منوط بظروفه. فالتنظيمات الارهابية تختلف على نحو بيّن في كيفية استقطاب اعضائها: بعضها لا سيما الاكثر ثورية تتطلب متعصبين وايديولوجيين وحالمين. والبعض الآخر لا سيما التنظيمات القومية المشدودة الى تجمعات أهلية، يتشابه الانتساب اليها مع طقوس العبور الوطنية والدينية. لكن هل يسع الارهاب أن يحرّر، ام أنه يرتّب آثاراً مخرّبة ومُفسدة يدوم تأثيرها لعقود؟ ما من شك في ان الأحلام الرؤيوية التي حفّزت مجموعات ارهابية عدة بقيت عديمة التحقق. وفي هذا يصيب اولئك الذين حاجّوا، على ما فعل لاكور، بأن الفشل كان دوما نصيب الارهاب. ذاك ان إثارة الرعب والهلع لها حدودها الا ان الأمر، وهذا موضع تشابه مع الحروب، يتعدى ذلك. فتجربة الصراع العنفي يمكن ان تقلب التعاطف من وجهة الى وجهة نقيض، خصوصاً حين يلوح ان الوعد بكسر الوضع القائم لن يتحقق بالضرورة، وأن الفوضى وأكلافها ستستمر الى ما لا نهاية. وتعلن تجربة الجماعات الثورية القصوى في الغرب ان اعتمادها على الارهاب البحت لم يكن الا دليل هامشية او افلاس سياسيين. هكذا بات الخطر الذي يشكله الارهابيون محدودا جدا بالمعنى السياسي للكلمة، الا أن الأثر الذي يخلّفونه على البسيكولوجيا الجمعية للشعب ضخم جداً، وفي وجهة غير التي يسعون إليها. بيد ان الحقيقة اعلاه لم تردع من تنامي هذا العنف على امتداد تاريخه، وفي خضم تقدم الحداثة وأسلحتها. فالظاهرة التي تُسجّل ولادتها الرسمية مع "حكم الارهاب" الروبسبييري في 1793 كانت مشدودة الى التنوير ومشبعة بالنوايا التغييرية الحسنة، الا انها حرمت متهَميها كل حقوقهم وأعملت سيف المحاكم الثورية في رقاب المواطنين. وكان الاستخدام المنهجي للعنف على يد الثورة الفرنسية ما أسس موديلاً للتطبيق الارهابي من منصة الدولة، أو "الارهاب من فوق"، استمر العمل به مذّاك. ولئن بلغ هذا الارهاب ذروته مع النازية والستالينية، الا أن أعمالهما الاستئصالية، لا سيما في حالة النازية واليهود، أفقدت مفهوم الارهاب بعض عناصره: فالمطروح هنا ليس التأثير في الضحية أو تغييره بل اجتثاثه كلياً. اما "الارهاب من تحت" فأثبت الإثنيّ منه خصوصاً قابلية نمو ملحوظة في القرن العشرين. ففي بلفاست، مثلاً، انطلق العنف صيف 1920 ليدوم، بكثير من التقطع، عامين. وخلال تلك الفترة قُتل أكثر من كل الذين سقطوا في مجموع اعمال الشغب التي شهدها القرن التاسع عشر. والشيء نفسه عاد يتكرر مع انفجار العنف الارهابي مجدداً في 1968 والذي لم يتوقف حتى اليوم. كذلك تملك القومية طاقة مدهشة على اطلاق الارهاب، كما اظهرت الحركة الصهيونية في فلسطين ومن بعدها المقاومة الفلسطينية. لكن اذا نجحت الأولى دون الثانية، فانها بذلك شكلت أحد الاستثناءات القليلة على نجاح الارهاب تبعاً لاتصاله بعوامل أخرى. وبدوره قدم الارهاب الجزائري الذي تمكن من ان يندمج بالمقاومة داخل استراتيجية واحدة متناغمة، مثلاً آخر. وقد لعبت، في هذا السياق، نظرية رمضان عبّان دوراً ملحوظاً، إذ رأى أن قتل فرنسي واحد في الجزائر العاصمة - حيث يتولى الإعلام الأميركي نقل الخبر - أهم من قتل عشرة في الأرياف النائية. أما الثمانينات فوضعتنا أمام "إرهاب أممي" بات يقض مضاجع العالم الغربي. وكان من سمات هذا الارهاب الرعاية المباشرة، وأحياناً السيطرة المحكمة، من الاتحاد السوفياتي على الجماعات الارهابية، في موازاة النفخ الريغاني - الثاتشري لمقولة "امبراطورية الشر". وهذه وجهة بدأت في الستينات والسبعينات، خصوصاً مع خطف الطائرات، ولم تتعفف عن توزيع مادة سمتكس التي كانت بمثابة "هدايا" يقدّمها المعسكر الاشتراكي السابق للارهابيين. الا ان أممية المذكورين لم تتعدّ عبور الحدود الوطنية، على عكس الأممية الأعمق التي عبّر عنها الارهابيون الفوضويون الأوروبيون في اواخر القرن التاسع عشر ومطالع العشرين. لكن اواخر القرن الماضي هي التي وضعت العالم ازاء انبعاث الاصوليات الدينية الذي حيّر اصحاب الوعي التفاؤلي والتطوري المبسط. وبحسبة أجراها بروس هوفمان في كتابه "داخل الارهاب"، تبين أنه لم تكن هناك أية مجموعة دينية بين المجموعات الارهابية العالمية الأهم في 1968 والتي بلغ عددها إحدى عشرة، لكن عدد المجموعات الدينية ارتفع في 1994 الى 16 مجموعة من اصل 49، ثم الى 26 من 56 في 1995. بيد أن دينية هؤلاء لا تقلل من اهمية طابعها الحديث، أكان لجهة تنظيمها وتسليحها ام لجهة انعكاس أزمات الحداثة، اقتصاداً وثقافةً وديموغرافيا، عليها. واذا كان الخط التصاعدي المعزز بالتطور العلمي والتقني سبباً وجيهاً للقلق، غير انه ليس سبباً لتصديق التهويل الأميركي ب"خطر الارهاب على الحضارة". ذاك ان وراء هذا التهويل القيامي واحداً او اكثر من عوامل ثلاثة: التفكير السطحي الذي لا يميز بين المستويات والاشكال، ولا بين الأسباب والنتائج، والمصالح الجماعية او الفردية التي تستدعي هذا التهويل، وأخيراً الأهومة والوعي الفانتازمي الذي يجد في موضوعة الارهاب مصدراً خصباً. وأخطر مما عداه أن يتحول هذا التهويل الكابوسي قيداً على الحريات المدنية والوعي الديموقراطي والنقدي بصورة أعم. فالنشاط المضاد للارهاب إما ان يكون اكثر تمييزاً وأرفع حساسية من النشاط الارهابي، أو ان ينتهي الى توسيع المأزق واعلان استحالة النجاح. فإذا صح أن الديموقراطية أكثر تعرضاً لعمل الارهاب، صحّ في المقابل أنها تؤسس بعض مرتكزات انتفائه، أو على الأقل محاصرته.