نقل إنشاء معهد تاريخ الوقت (أو الزمن) الحاضر في 1978 عبارة «الوقت الحاضر» من التداول العام الى التبويب الاداري والدراسي في فرنسا. وأنشأ المعهد المؤرخ بيار نورا، وكان على رأس مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في 1975، وأوكل الى المعهد الاضطلاع بتأريخ موضوعه الأول هو الحادثة وأنماط التخيل التي تغلب على وسائط الاتصال وعلى تصورات الحاضر عن الماضي. وأراد المدير الاول للمعهد، فرنسوا بيداريدا، تمييز الماضي القريب والمتصل بالحاضر من التاريخ «المعاصر»، على المعنى الاشتقاقي. وابتداء «التاريخ الحديث والمعاصر» في برامج التدريس الفرنسية هو الثورات الفرنسية في 1789، بينما برنامج دراسة الحاضر او الوقت الحاضر، يتناول وقائع وحوادث الامس القريب والمخيم على حاضرنا أو يومنا. وفي الانكليزية تترجح التسمية بين «كونتنبيروري» (معاصر) وبين «موديرن» (حديث)، وفي الالمانية بين «زايتفيشيشته» (تاريخ الزمن – الحاضر -) وبين «نيورغيشتيه» (التاريخ الجديد). مصدر عبارة الوقت الحاضر، هو دورية أنشأها في 1932 فريق من الكتاب أراد الجمع بين دراسة الحاضر والخوض في مشاغله وهمومه، والتذرع بالمشاغل والهموم، في صورتها الحاضرة أو الماثلة، الى معالجة القضايا العامة - الكونية. ومعهد تاريخ الوقت الحاضر، لدى نشأته، تحدر من لجنة تاريخ الحرب العالمية الثانية، وهي جزء من كوكبة هيئات أوروبية ولدت في اعقاب الحرب شأن معهد ميونيخ في 1949 وغيره مثله. في العقد 1970 – 1980، كرست هذه الهيئات التاريخ الاوروبي المعاصر شعبة على حدة من الدراسات التاريخية الجامعية. والمسحة الاوروبية، على ما أرى، قوية وهي مرآة حاجة القارة الى كتابة تاريخ «الكارثة الاخيرة والاقرب زمناً»، والكارثة الاقرب زمناً كانت الحرب الثانية والنازية. ومؤرخ الوقت الحاضر، بالمعنى المتقدم، يغرف من تجربته ومشاركته في الحوادث والوقائع التي يؤرخ لها وهي «حارة» لم تبرد. وهو يشترك في هذه السمة مع بعض كبار مؤرخي العهود القديمة، مثل توقيديديس، مؤرخ حروب البيلوبونيز بين اسبارطة واثينا في القرن الرابع ق.م. والمؤرخون المعاصرون فرنسوا بيداريدا وراوول هيلبيرغ وسول فرايدليندير (والأخيران اختصاصيان في النازية) ووالتر لاكور وجورج موس (اختصاصيان في الحرب الأولى) وإريك هابسباون- كلهم شاركوا في الحرب الثانية على وجوه وأنحاء مختلفة. وكانت «مجلة التاريخ المعاصر» («جورنال اوف كونتيمبيروري هيستوري») أول دورية كبيرة تعنى بهذا التاريخ، ورعى نشرها لاكور وموس في 1966، في لندن. والفرق بين المعاصرين والقدماء هو في النظر الى علاقة الحاضر بالماضي، وعلاقة الاثنين بالمستقبل أو الآتي. ففي العصر الوسيط، الاوروبي، اضطلع اللاهوتيون وكتاب الحوليات برواية تاريخ هو «حاضر أزلي» (جاك لوغوف)، ولا يقيم فرقاً بين الماضي والحاضر، ولا بين التأريخ والتكهن. وعلى هذا الاساس، فالتاريخ متصل وواحد، يفسر حاضره ماضيه، ويلابس ماضيه حاضره ومستقبله، من غير حاجز ولا تمييز. والنظر الى الزمن انقلب من حال الى حال مع القرن السادس عشر (م). وذهب ميشال فوكو الفرنسي الى القول ان سمة فارقة من سمات الحداثة هي غلبة «حركة الزمن الاجتماعي» (أي التاريخ في مفهومه الجديد) على الفكر، وإلحاحها على تعليل الظواهر الانسانية وحتى الطبيعية وتناولها. وصاحبت هذه السمة سمة أخرى شدت «دائرة تجربة واختبار»، متصلة بالماضي القريب، الى «أفق انتظار» موصول بالمستقبل، وفق عبارات الألماني راينهارت كفرسيليك. وولدت فكرة التاريخ المعاصر من تمييز الأوقات الثلاثة وإفراد كل وقت منها بسمات تخصه. ويقول ميشال دي سيرتو «ولدت الحداثة من الفصل بين الماضي والحاضر». وقامت الثورة الفرنسية علماً على الانقطاع، وأرخت لطي «النظام القديم» وبدء زمن جديد مشرَّع على احتمالات لا حصر لها. وأرسى الانقطاع فكرة أخرى هي الحادثة التاريخية، أو الانعطاف الذي يختلف ما سبقه عما يليه أو يأتي بعده. ومع كتابة التواريخ الاولى المعاصرة للثورة، كتاب إدموند بيرك الانكليزي في 1790 وكتاب مدام دي ستال في 1818 (غداة وفاة الكاتبة)، برزت الملاحظات الاولى على هذه التواريخ، والشكوك في جوازها. وتجاذبها نازعان: رأى الاول أنها ضرورية ومفيدة، وذهب الثاني الى انها مستحيلة ولا سبيل الى كتابتها. والى اليوم يتجاذب النازعان التأريخ للحربين العالميتين. وفي اثناء القرن التاسع عشر ألح ميل الى بلورة علم تاريخي قائم برأسه، استبعد الماضي القريب منه، وتذرع بقصور الوقائع عن «التمام» (فوستيل دي كولانج في 1893). ونص المؤرخون الألمان والفرنسيون من اصحاب المدرسة الوضعية، على نصب الموضوعية ودرس المحفوظات المكتوبة والمسافة النقدية، معايير لازمة للدراسات التاريخية. وتحمل هذه التاريخ على الآثار «الباردة» والمتخلفة عن الماضي. والمؤرخ، في هذه الحال، هو راعي انبعاث أصوات الموتى ومقالاتهم والساهر على دوام تقاليد عريقة يتهددها الاهمال والنسيان. والمآخذ الوضعية على تاريخ الحاضر، أو الماضي القريب، ثلاثة، على عدد معايير التأريخ «العلمي»: قصر الزمن المنقضي، والافتقار الى المحفوظات المدونة، والافتقار الى النظر المتزن والرزين. ونجم عن إدانة هذا الضرب من التأريخ عزوف كبار المؤرخين عنه. فنحو عام 1900، في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، كان معظم المؤرخين الأكاديميين من المختصين في التاريخ القديم أو التاريخ الوسيط. وعلى سبيل المثل، لم تنشر مجلة التاريخ الانكليزية البارزة «ذي انغليش إيستوريكل ريفيو» بين 1886، سنة إنشائها، و1920، مقالاً واحداً في التاريخ الوطني تناول واقعة حصلت بعد 1852، أو في التاريخ الاوروبي بعد 1870. ولولا تكاثر تواريخ الثورة الفرنسية طوال القرن التاسع عشر، استجابة لطلب الجمهور ورغبته في سرد الحوادث والوقائع على معانٍ وحبكات مفهومة، لما اضطر المؤرخون المحترفون الى مناقشة جواز تأريخ معاصر. ويلاحظ أن المحافظين والمؤرخين المناهضين للثورة كانوا سباقين الى كتابة تواريخ «تدحضها»، وتظهر مساوئها. ولحقهم التقدميون بعد بعض الوقت. والمفارقة أن المحافظين يشترطون على مواضيع التأريخ الجديدة بالتناول انقضاء الزمن عليها، فيما هم يبادرون الى كتابة الكتب في موضوع قريب وحار، بل ملتهب، هو الثورة الفرنسية، خشية ان يحتكر معالجته التقدميون! ومن 27 جزءاً من «تاريخ فرنسا» الذي كتبه إرنست لافيس بين 1903 و1922، ودرس في المدارس الثانوية، خص الحقبة بين الثورة في 1789 وبين 1919 ب20 جزءاً. وما خلفه النهج التاريخي الموروث من القرن التاسع عشر هو حمل التأريخ العلمي على النظر البعيد، زمناً، من موضوع التأريخ. والظاهر الذي لا شك فيه هو افتقار الامس القريب الى مثل هذا البعد. فالفكرة المضمرة في «البعد» هي انقضاء الوقت وتقادمه على الوقائع، أو ربط الموضوعية بالزمن. وهذه فكرة لا تتماسك: يكفي تذكر المناقشات التي صاحبت ذكرى مضي قرنين على ثورة 1789، في 1989، وهي سنة سقوط النظام الشيوعي في أوروبا. يومها احتدمت مناقشة مواضيع مثل علاقة الثورة (الفرنسية) بالارهاب وعلاقتها بالكليانية الشمولية، وأقحمت هذه المناقشات الثورة التي بلغت قرنين من «العمر» في قلب الحاضر المباشر وعاصرت الواقعة الحاضر النابض معاصرة قلّ ان تحظى بها واقعة راهنة و «كبيرة». وتاريخ فيشي، عاصمة النظام الفرنسي الذي تعاون مع الاحتلال النازي الألماني في 1940 – 1944، مثل آخر على التباس أو إشكال موضوع تاريخي قريب. فنظام فيشي لم يتناول التأريخ الأكاديمي إلا بعد انقضاء 25 عاماً عليه، واقتصر أمره على تواريخ شعبية كتبها روبير آرون وهنري أمورو. ولم يصدر عمل أكاديمي واحد قبل 1970. والندوة الأولى التي تصدّت لسنوات نظام الماريشال بيتان نظمها رينيه ريمون في 1970، في معهد العلوم السياسية، وتناولت «حكومة فيشي والثورة الوطنية، 1940 -1944»، وأغفلت مسؤولية نظام فيشي عن ترحيل اليهود الفرنسيين واحتجازهم، في المعتقلات. وفي هذه الاعوام استهل مؤرخون من الرواد مثل روبرت باكستون الاميركي وجان بيار أزيما الفرنسي، اعمالهم. وحين شرعت في درس نظام فيشي في 1975 بدا ان الموضوع يشكو عيبين: الوضاعة وإثارة الحساسية. وكبار مؤرخي ذلك الوقت هم جورج دوبي وجاك لوغوف وإيمانويل لوروا لادوري، والثلاثة هم أعلام التاريخ الوسيط. لكن التطرق الى نظام فيشي تكشّف عن أخطار أقل من الأخطار المتوقعة. ففي الثمانينات، خرجت المحفوظات الى العلن، وأثار درس المسألة غلياناً فكرياً، واستدرج إقبالاً واهتماماً اجتماعيين جاريين. وفي 1992 – 1993، صار نظام فيشي «شأناً عاماً». والقرائن كثيرة: فالسلطات العامة اضطرت الى التدخل، وسارت تظاهرات، وتداولت بيانات الموضوع. وأسفرت هذه عن قضية جو بوسكيه، المتعاون مع الاحتلال الألماني، واعتقاله في 1991، واغتياله في 1993. وأدت الى محاكمة توفييه، وهو متعاون آخر، في 1992، وبابون في 1997. وأصبح التأريخ لهذه المرحلة أكثر عسراً جراء دهم الذاكرة الحاضرَ الراهنَ والمعاصر وتخييمها عليه. وأضاف الدهم مصلحة المحفوظات وموظفيها، فبادر بعضهم الى حجب المحفوظات، وحظر مراجعتها على الجمهور. وتقادم الزمن لم يؤد الى تبريد الانفعالات. ومعيار المعاصرة او الحضور هو أصداء الحادثة وتردداتها في شواغل المعاصرين ومشاعرهم ومصالحهم. * مدير بحوث في معهد تاريخ الوقت الحاضر، صاحب «فيشي ماضٍ لا يمضي» (مع إريك كونان، 1994) و «الكارثة الأخيرة. التاريخ، الحاضر، المعاصر» (2012)، عن «ليستوار» الفرنسية، 2/2013، اعداد منال نحاس