يدافع الباحث الفرنسيّ المعروف أوليفييه روا عن وجهة نظر تلقى معارضة واسعة، لكنّها بالتأكيد تستحقّ انتباهاً أوسع بسبب القائمة الطويلة من «القناعات» التي تتحدّاها، وإن أتى التحدّي متفاوتاً في إقناعه. ففي كتابه الصادر أصلاً بالفرنسيّة «الجهاد والموت: الجاذبيّة الكونيّة للدولة الإسلاميّة» (بالإنكليزيّة، عن دار «هِرست»)، يرى أنّ ظاهرة الجهاديّ الإرهابيّ حديثة أكثر بكثير ممّا هي ظاهرة تديّن. وفي خلاصة اشتغاله على سِيَر العشرات، يستنتج أنّها حركة شبابيّة أساساً، تتّصل بثقافة الشبيبة وتعبّر عن تمرّد جيليّ سبق أن حملته الثورة الثقافيّة الصينيّة كأوّل ثورة لم تستهدف طبقة اجتماعيّة بل استهدفت جماعة عُمريّة. أمّا الخمير الحمر الكمبوديّون فأيضاً حقدوا على أسلافهم، رافضين الصور والإشارات والمعابد الدينيّة ومحطّمينها، ذاك أنّ حركات كهذه لا تدمّر البشر فقط، بل تدمّر الذاكرة أيضاً، وهو ما لا يصحّ في ثوريّين كالبلاشفة الروس، الذين أودعوا الماضي في المتحف، أو في خمينيّي إيران ممّن لم يفجّروا بيرسيبوليس. استعمار وسياسة واقتصاد وتدمير ذاتيّ كهذا لا صلة له بسياسات الشرق الأوسط، فهو يُعدِم كلّ سياسة أو تسوية أو تفاوض، ومَن يقرّر أن يموت، هكذا وسلفاً، لن يتبقّى له ما يفاوض عليه. ثمّ إنّ إرهاب الانتحار ليس فعّالاً كشكل في المواجهة العسكريّة، ناهيك بأنّ أعمال الإرهابيّين تحصد أرواحاً مسلمة أكثر ممّا تحصد أرواحاً غربيّة، ما يُستبعد أن يمثّل نضالاً فعّالاً ضدّ أيّ عدوّ. فالصلة المنهجيّة بين الشبيبة والموت تشكّل أحد المفاتيح لفهم التجذّر الحاصل اليوم. ذاك أنّ البُعد العدميّ أساسيّ هنا، لأنّ ما يسحر الإرهابيّين هو الانتفاض والتمرّد بذاتهما، من دون أيّ رؤية للمستقبل. إنّه العدم، لا الطوبى التي تبقى «الخلافة» وجهها الفانتازيّ. فهؤلاء لا يعنيهم من الحركة التي ينضوون فيها سوى منحها يأسَهم الشخصيّ بُعداً كونيّاً. وهنا، لن يفيد كثيراً الرجوع إلى النصّ الدينيّ أو إلى أعمال ابن تيميّة والبنّا وقطب وبن لادن، فالأفيد فهمُ عنفهم في توازيه مع أشكال أخرى من العنف والتجذّر، كالتمرّد الجِيليّ والتدمير الذاتيّ والقطع مع المجتمع وجماليّات العنف (وهنا بيت قصيد الكتاب، حيث السجال الضمنيّ مع «خصمه» جيل كيبيل). فالدين والسياسة والاقتصاد والتاريخ الاستعماريّ كلّها قد يكون لها وزن في الظاهرة، لكنّها ليست كافية ولا هي الأساس، ذاك أنّ التجذّر العنيف ليس نتاج التجذّر الدينيّ، ولو سلكا دروباً متشابهة، وتكنَّيا بمفاهيم متقاربة. صحيح أنّ الأصوليّة تثير الكثير من المشكلات لرفضها القيم التي ترتكز إلى مركزيّة الحرّيّة الفرديّة في سائر الميادين، غير أنّ تلك الأصوليّة لا تقود بالضرورة إلى عنف سياسيّ، فاليهوديّ الحسيديّ أو الراهب البنديكتيّ مؤمن «مطلق»، ومنفصل عن المجتمع، لكنّه ليس عنيفاً سياسيّاً. وبالمعنى ذاته، فمعظم السلفيّين ليسوا عنيفين. أمّا الذين يقولون إنّ الأسباب السياسيّة من استعمار واضطهاد تجرّ الأصوليّ إلى العنف، فيقدّمون هؤلاء العنيفين بوصفهم ضحايا. إلاّ أنّ العلاقة بين الراديكاليّين والضحايا تظلّ أقرب إلى التوهّم، فالذين يرتكبون الهجمات في أوروبا ليسوا سكّان غزّة ولا ليبيّين أو أفغاناً. وهم ليسوا بالضرورة الأفقر أو الأكثر تعرّضاً للمهانة والأقلّ اندماجاً. وحقيقة أنّ ربع الجهاديّين الذين انكبّ الباحث على سِيَرهم من المتحوّلين إلى الإسلام، تُظهر أنّ العلاقة بين الراديكاليّين و «شعب»هم تندرج أيضاً في المتوهَّم. ومعروفٌ أنّ عموم الثوريّين لا يصدرون عن الطبقات التي تعاني والتي يزعمون تمثيلها. وما تماهيهم مع البروليتاريا و «الجماهير» والمستعمَرين إلاّ إعادة بناء مُتخيَّلة لموقعهم وموقع سواهم. هذا ليس جهاداً... لقد كان الإرهاب، قبل الثمانينات، سلاحاً تستخدمه جماعات علمانيّة قوميّة أو ثوريّة، امتداداً لتقليد برع فيه الفوضويّون يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، فمهاجمة أهداف رمزيّة أو قتل مدنيّين لزرع الرعب يهزّ، وفقاً للأدبيّات المصاحبة، دولاً ومجتمعات و «يرفع الوعي» بين المضطهَدين. أمّا الصيغة الإسلامويّة، فهي أيضاً تزعم الجهاد من دون أن تكون كذلك، فمنذ عهد الرسول شرعت تتراكم الأدبيّات التي تنظّم الجهاد وتوضح معانيه، بحيث لا يكون ذريعة ل «الفتنة» داخل الجماعة المسلمة، وبهدف تمكين الحكّام المسلمين من التحكّم بمجاري الحروب الخارجيّة فلا تفلت من السيطرة. لهذا لم يَعُدَّ الفقهاءُ الجهاد من الفرائض (الخمس). وهو ليس «فرض عين»، بل التزام جماعيّ مشروط بتعرّض جماعة مسلمة لتهديد غير المسلمين، ومشروط بعدم جوازه ضدّ مسلمين آخرين، وبإعلانه من سلطات دينيّة وازنة، وبتوافر مواصفات في متطوّعيه، كالحصول -إذا كانوا صغاراً- على موافقة ذويهم، وأن يكونوا قد سدّدوا ديونهم، وأن تستطيع عائلاتهم الاستغناء عن مداخيلهم. والحال أنّ أحداً لا يملك إعلان نفسه جهاديّاً، وقليلةٌ دعوات الجهاد التي كان حصادها كبيراً، فالعثمانيّون دعوا إليه في 1914، لكنّ شمال أفريقيا والهند البريطانيّة، أكثر المقصودين بالدعوة، لم يتجاوبا. وإبّان الصراع ضدّ الاستعمار، ظهرت الدعوة مجدّداً، لكنّ استجابتها لم تتعدّ نطاقها الجغرافيّ، كحال سودان المهديّ. ومع «نكبة» 1948، عجزت الدول العربيّة والإسلاميّة عن تفعيل الجهاد، وهو ما تجنّبته لاحقاً منظّمة التحرير. إلاّ أنّ «حزب التحرير»، المؤسَّس في 1953، والذي دعا إلى جهاد كونيّ، ما لبث أن استقرّ على دعوة إلى الخلافة انطلقت من... لندن. أمّا الدعوة في أفغانستان، بعد الغزو السوفياتيّ، فوحدها تندرج في النظريّة الكلاسيكيّة للجهاد. والمقصود هنا بالجهاديّة نظريّةٌ طُوّرت في الخمسينات، وكانت مبثوثة ضمناً في كتابات سيّد قطب، كما عبّرت عنها كتابات المصريّ عبدالسلام فرج والفلسطينيّ عبدالله عزّام. معهم يُرقّى الجهاد إلى فريضة كالفرائض الخمس، بل يُعدّ «الفريضة الغائبة» وفقاً لفرج، من غير أن يكون لذلك أصل في القرآن. والجهاد هذا ليس خدمة عسكريّة، إنّه مدرسة تأهيل دينيّ وحربيّ، هدفه يتعدّى الانتصار على عدوّ إلى إنجاب المسلم الجديد المنفصل عن الروابط الإثنيّة والعائليّة والوطنيّة. والمسلم الكونيّ هذا، لا يعود إلى الحياة المدنيّة بعد «خدمته»، بل يغدو مجاهداً محترفاً. لكنْ حتّى هذا النموذج الجهاديّ ليس إرهابيّاً بالضرورة، فالمحيطون بعزّام في أفغانستان لم يلجأوا إلى الإرهاب أو العمليّات الانتحاريّة، كذلك لم يتعقّبوا ديبلوماسيّين أو مدنيّين سوفياتاً، علماً بوجود هؤلاء في العالم العربيّ. تشاؤم... لقد تمّت الصياغة المفهوميّة للجهاد مع حرب الناصريّة على الإخوان في الستينات، فظهرت فكرة «التكفير» القطبيّة آنذاك. لكنّ الهجمات الانتحاريّة كانت «هجمات» أكثر منها «انتحاراً». فاغتيال قائد مُدان («فرعون») كان يُفترض به رفع وعي الشعب وتشكيل شرارة الانتفاض. وهذا هو النموذج الفوضويّ عن الدعاية من خلال العمل. غير أنّ التكتيك لم ينجح: فاغتيال السادات في 1981 لم يُنتج انتفاضة بل تسبّب بمزيد من قمع الإسلاميّين. فالشعب إذاً، وفق تأويل ما، لم يستحقّ التضحيات التي قُدّمت لأجله. وهذا ما يعزّز ذاك التشاؤم الأصليّ الذي سبق أن اخترق كتابات قطب، فالمجتمع المسلم إنما يُدفع ويندفع إلى الجاهليّة، مع فارق بارز هو أنّ ما من نبيّ سيظهر هذه المرّة، لأنّ الرسول خاتم الأنبياء. وهذا يعني أنّ مقاومة الجاهليّة الجديدة لا تفضي إلى خلاص نهائيّ وكامل، وبالتالي أنّ نهاية الزمن وشيكة، وهو التصوّر الذي يصاحبه بُعد رؤيويّ وعدميّ حادّ: فإذا كانت النهاية قاب قوسين وجب على المؤمن أن يفكّر بخلاصه الفرديّ بدل تبديد جهده في محاولة خلق مجتمع أفضل. وخلاص كهذا لا يوفّره إلاّ الموت بوصفه الطريق المضمونة والأقصر. إنها ظاهرة تطوّرت في البيئة السنّيّة خصوصاً. صحيح أنّ «حزب الله» الشيعيّ اعتمد العمليّات الانتحاريّة، لكنّها بقيت أقرب إلى إرهاب الدولة، وهي هنا إيران، التي رعت الحزب وامتلكت الاستراتيجيّة المستفيدة من أعماله. ثمّ إنّ عمليّاتهم عسكريّة تستهدف جيوشاً أجنبيّة، أمّا عمليّاتهم الإرهابيّة في الخارج (الأرجنتين في 1994 وبلغاريا في 2012) فيستأنف المرتكب بعدها نشاطه كحزبيّ تحت الأرض، وهذا فضلاً عن أنّ المبادرة الفرديّة و «الجهل المقدّس» لا مكان لهما في الشيعيّة حيث يبقى القرار لرجال الدين. لقد غلب على الجهاديّين، حتّى أواسط التسعينات، كونهم شرق أوسطيّين يتوجّهون إلى أفغانستان ويعودون، منذ سقوط الشيوعيّة الأفغانيّة في 1992، إلى بلدانهم، أو إلى بلدان أخرى، للمضيّ في الجهاد. هؤلاء هم الذين شنّوا الموجة الأولى من الضربات «المعولمة» (عمليّة المركز التجاريّ العالميّ في 1993 والسفارات الأميركيّة شرق أفريقيا في 1998 ومدمّرة كول في 2000)، وشكّلوا جيل الجهاديّين الأوَل. لكنْ منذ 1995 بدأ يظهر جيل ثانٍ من أبناء البلدان الغربية ذاتها. وهؤلاء، بمن فيهم غير المولودين في الغرب، كانوا متغرّبين. أهمّ من ذلك أنّ ما من روابط ربطتهم بعائلاتهم في بلدانهم الأصليّة. كذلك كانت بينهم نسبة مئويّة ملحوظة من المتحوّلين دينيّاً ومن النساء ممّن بات معهم حقل النشاط معولماً. وكان من الفوارق البارزة عن سابقيهم أنّ الكثيرين منهم تجنّدوا عبر الإنترنت، أو شكّل الإنترنت مصدر معرفتهم بالجهاد والجهاديّين. لكنّ التقاطع الكبير حتّى التماثل، بين الجهاديّ والإرهابيّ، إنّما حصل لاحقاً مع الحرب السوريّة، ذاك أنّ المتطوّعين الأجانب الذين يتوجّهون إلى سوريّة يُختارون أساساً لأداء عمليّات انتحاريّة، فيما كلّ الإرهابيّين تقريباً ممّن يعملون في أوروبا محكومون بالموت أثناء أداء المهمّة. فأشدّ ما يلتقي الاثنان عنده، إذاً، هو الموت الطوعيّ والانسحار بالموت، حتّى ليجوز الافتراض أنّ الإرهابيّين غدوا فرعاً من الجهاديّين. والموت الطوعيّ (إبّان العمليّة أو بتفجير النفس أو بالقتال حتّى النهاية في اشتباك مع الشرطة ومن دون التخطيط للهرب) هو السمة الأبرز للجيل الثاني كما يمثّله خلخال والأخوان كواشي وأباعود. وحتّى اللحظة، لا يبدو هناك جيل ثالث. وهو ليس سلفيّة ومن الشائع النظر إلى الجهاديّة كامتداد للسلفيّة. لكنْ لئن لم يكن كلّ السلفيّين جهاديّين، فكلّ الجهاديّين يُفترض أنّهم سلفيّون. غير أنّ الأمور أعقد، إذ إنّ صلة الإرهابيّين بالسلفيّة التي يُنسبون إليها ضعيفة، فالسلفيّة تنظّم كلّ شيء وكلّ سلوك، بما فيه استخدام العنف. والسلفيّون لا يختارون مسبقاً الموت لأنفسهم. إنّهم مهجوسون بالخلاص وبمزيد من الحياة بما يتيح لهم فرصاً أطول وأوفر لتحسين حظوظهم في الآخرة. ما لا شكّ فيه أنّ هؤلاء الشبّان مؤمنون بأنّهم متّجهون إلى الجنّة وأنّ نظامهم المرجعيّ إسلاميّ. وهم ينضمّون إلى جماعات تعلن عزمها على إقامة أنظمة إسلاميّة، أو استعادة الخلافة. لكنْ أيّ إسلام هو الذي نتحدّث عنه هنا؟ فهؤلاء لا يمارسون عنفهم بعد استشارة النصّ، أوّلاً لضعف ثقافتهم الدينيّة، وثانياً لقلّة اكتراثهم بالبحث عن تبرير. والراهن أنّ المقاربة النصّيّة للدين أقلّ نفعاً بكثير من التعامل مع التديّن بوصفه عواطف وتجارب وجماليّات ومخيّلة. والتمييز هذا لا يعفي التأويل السلفيّ من مسؤوليّتين، واحدة تطاول مواقفه من الحرّيّة، وأخرى تطاول عدم إدانته ممارسات كالعنف والعبوديّة. لكنْ ينبغي ألاّ ننسى أنّ موقف «الدولة» من أدوار النساء والأخلاقيّات الجنسيّة ليس سلفيّاً، ف «الدولة» مثلاً تطالب المرأة المسلمة ب «الهجرة» أوُجد مَحرَم أم لم يوجد، وتجيز تعرّي الجواري في السوق أمام الشاري، ولا تحترم مبدأ «العِدّة» في تزويج الأرملة. و «الدولة» لا تطالب باحترام الأهل، وهناك من قتل ذويه لمحاولتهم ردعه عن الالتحاق بالتنظيم، كما تشجّع على الموت ولو لم يكن جهاداً، ما يعدّه السلفيّون انتحاراً وعدواناً على مشيئة الله، ولا تحترم المعاهدات والمواثيق التي قد تُعقد مع «الكفّار». وهذا فضلاً عن إدانتها كلّ تأويل آخر للإسلام، بما فيه التأويل السلفيّ، وعن الاختلاف في أداء الفروض التي يبحث عناصر «الدولة» عن الذرائع ليتفادوها، أو في الموسيقى التي يسمعونها والملابس التي يلبسونها. ملامح وحوافز لدى الاشتغال على السِيَر المتوافرة، تتبدّى الحوافز بوصفها المشكلة الأكبر، فإرهابيّو اليوم يوصلون «خطابهم» عبر الفيديو و «تويتر» و «تشات» و «سكايب» و «واتس أب» و «فايسبوك»، وهم يخاطبون أصدقاءهم وأمّهاتهم، ويعلنون عن موتهم كما يتركون وصايا على الفيديو. والحقّ أنّه لا يوجد بروفايل جامع للإرهابيّين، لكنْ توجد سمات تكراريّة قليلاً ما تغيّرت في العقدين الأخيرين، فخلخال (أوّل إرهابيّ من «أبناء البلد» ومرتكب 1995 في ليون) والأخوان كواشي (مرتكبا «شارلي إيبدو» في باريس عام 2015) يجمعهم أنّهم جيل ثانٍ، بدأوا مندمجين على نحو معقول، ثمّ ارتكبوا جرائم صغرى، بعدها تجذّروا في السجن فانقادوا إلى التسلّح وشنّ الهجمات والموت في اشتباكات مع الشرطة. لكنْ إذا كان التجذّر في الجيل الثاني هو الأعلى، فالسمة الجامعة بين سائر البلدان الأوروبيّة أنّ مجاهديها أقرب إلى مسلمين «وُلدوا من جديد»، فهم بعدما ذهبوا بعيداً في حياة علمانيّة (نوادٍ، كحول، لا بل جرائم وضيعة...)، آبُوا فجأة إلى واجبات دينيّة تؤدّى إمّا فرديّاً أو ضمن جماعة صغيرة، لكنْ ليس في إطار تنظيم دينيّ. وتتشابه العمليّات التي تتشكّل بموجبها الجماعة الراديكاليّة، فتقوم بنية الجماعة على إخوان أو شلّة أصدقاء منذ الطفولة أو على رفاق سجن، وأحياناً رفاق مخيّم تدريب. ويبقى مدهشاً دور القرابة، إنْ كإخوة أو كأصهرة، وهو ما لم يعرفه الراديكاليّون الآخرون، اليساريّون منهم والجماعات الإسلاميّة الأقدم، وهذا إنّما يظهّر البُعد الجيليّ في التجذّر الراهن، انفصالاً عن الأب وتشاركاً في ثقافة «شبابيّة» فاقمتها دعاية تنظيم «الدولة». فالشبّان يرفضون سلطة آبائهم بمقدار ما يرفضون إسلام الآباء، ذاك أنّ الأخير من نتاجات الحقبة الاستعماريّة، يحضّ على الإذعان، ضدّاً على «إسلامنا» المقاوم. وكثيرون هم الراديكاليّون اليتامى أو الآتون من عائلات متصدّعة يعيشون بعيداً منها. والحال أنّهم يقلبون العلاقة الجيليّة رأساً على عقب: فهم يعرفون الدين «أكثر» من الآباء، ما يدفع بعضهم حتّى إلى تحويل آبائهم، أو إعادة تحويلهم، إلى إسلام حقّ. ولأنّهم يموتون قبل أهلهم، فإنّهم بسلوكهم هذا يضمنون للأهل الخلاص على رغم خطاياهم. كذلك، فالكثيرون منهم متزوّجون، وهم يغدون آباء في الأشهر التي تسبق تنفيذهم عمليّاتهم، تاركين «أرامل سوداً» و «أشبالَ أسودٍ» يدبّر التنظيم أمرهم. مع هذا، فالعائلة وحدة «حديثة»، واختيار زوجة وولدين أو ثلاثة هما رفض للعائلة الموسّعة، حيث يتولّى الأهل اختيار الزوجة. وهنا، غالباً ما تكون الزوجة متحوّلة دينيّاً فيما تتشكّل العائلة خارج النظام العائليّ ومن حول خطّة إيديولوجيّة مشتركة، وإذ لوحظ في العقدين الماضيين تزايد عدد النساء في البيئة هذه، لوحظت أيضاً مفارقات يتضمّنها اجتذاب الجهاد للنساء، ومنها الاستقرار على وضع تتصاحب فيه وتتداخل النشاطيّة الحرّة والعبوديّة. ثمّ إنّ ارتفاع أعدادهنّ سهّله تشجيع «الدولة» على الجهاد من ضمن نطاق العائلة، ما يتكامل مع تحطيم الروابط الاجتماعيّة بوظائفها المألوفة، بهدف خلق «إنسان إسلاميّ» من الصفر. والتعويل على «الهجرة» جزء من هذا الانفصال عن المجتمع وعن المألوف، فالبطل حين يغادر بلد إقامته يطهّر نفسه، فضلاً عن استبعاده العائلة الموسّعة. لكنْ لئن باتت المرأة تلعب دوراً، وهو ما غاب تماماً عن الكتابات الجهاديّة للثمانينات، فذلك لأنّ الجهاديّ المعاصر إنّما يعيش في مجتمع معاصر. وإذا صحّ أنّه لا يشارك هذا المجتمع قيمه، فإنّه يشاركه سوسيولوجياه. وبالمعنى هذا، فنساء المجتمع هذا متحرّرات، وهنّ ولو تحجّبن وعارضن مساواة الجنسين «حديثات»، يخترن حياتهنّ بأنفسهنّ، بما فيها الموت والعبوديّة. فوق هذا، معظم الراديكاليّين منغمسون عميقاً في «ثقافة الشبيبة»، ليس فقط كتقنيّات تواصل، بل كذلك كنمط حياة مرفق بانخفاض التقيّد بالممارسة الدينيّة. يمتدّ هذا إلى الملابس والأحذية، وبعضها مصدره الرياضة، ممّا بات يُعرف ب «لباس الشارع»، فيما اللحية اليوم موضة شبابيّة. وأيضاً تندرج موسيقاهم وغناؤهم في ذلك: ففضلاً عن «النشيد» الميلوديّ الذي لا تصحبه آلات، ولكنْ لا يربطه رابط بالسلفيّة، هناك «الراب» خصوصاً، والموسيقى التي تعتمدها أفلام العنف الأميركيّ. أمّا النوادي الرياضيّة فأشدّ تأثيراً بكثير في بناء اجتماعهم من المساجد، بينما لغات تَخاطُبهم هي لغات البلدان التي يقيمون فيها، بلهجات ولكنات شبابيّة أُقحمت عليها تعابير دينيّة كما تُنطق في ضواحي المدن، وهذا عموماً إنّما وَجد في تجربة السجن ما يبلوره. لقد تردّد بعض هؤلاء بتقطّع إلى مساجد الأحياء، وبعضهم طُردوا منها لعدم إبدائهم «الاحترام اللازم»، لكنّ أيّاً منهم لم ينخرط في حزب أو في نشاطات البرّ والرعاية الإسلاميّة. وقد تكون بريطانيا، حيث أنشأ «المهاجرون» شبكة مساجد نضاليّة، الاستثناء الأبرز. وهذا ما يستبعد حجّة رائجة تربط الإرهاب الجهاديّ بعدم الاندماج، متجاهلة أنّ أعداداً هائلة من المسلمين اندمجت، بل أنّ المسلمين الفرنسيّين العاملين في الشرطة يفوقون بأضعاف مضاعفة أعداد الإرهابيّين. عالم مفكّك في أواسط التسعينات، مع انفصال الإرهاب عن قضايا فلسطين وإسرائيل وإيران، برزت الظاهرة الجديدة ومؤدّاها أنّ المنظّمات الراديكاليّة الإسلاميّة في الخارج شرعت تستثمر في مهاجري الجيل الثاني المأخوذين بقضيّة إسلاميّة. لكنْ منذ ذاك التاريخ لم يعد الإرهابيّ يتوجّه إلى بلده الأصليّ للنضال فيه، كما لا يأتي على ذكر هموم ذاك البلد. ولأنّ التجذّر بات يسبق التطوّع، تراجعت أهميّة التنظيم، الذي راح يقتصر على فرد وسيط، واستقلّت بنفسها المبادرة الفرديّة إلى حدّ بعيد، والتي يتبنّاها التنظيم لاحقاً، على ما تدلّ ظاهرة «الذئاب المستوحدة». فهؤلاء ذوو عالم مفكّك يتحوّل معه النصّ إلى بضع عبارات سهلة ورائجة، لكنّه أيضاً منزوع التاريخيّة بالكامل، فالأمّة الإسلاميّة التي يعلنون أنّهم سيثأرون لها غير مُعيّنة بتاتاً، وهم حين يتحدّثون عن السياسات الفرنسيّة يستخدمون مصطلح «الصليبيّين»، كما لا يذكرون إطلاقاً الحقبة الاستعماريّة، متجاهلين كلّ الحركات الدينيّة والسياسيّة التي سبقتهم، ورافضين أن يكونوا امتداداً لنضالات آبائهم، المرفوضين بدورهم. بل يتبدّى تعويلهم على الإسلام الأوّل ذريعةً لتجنّب التاريخ، ذريعةً معطوفة على تجنّب الصراعات الراهنة، فالكلام الكثير عن فلسطين وغزّة تصاحب، عند القاعدة و «الدولة»، مع ضرب أهداف يهوديّة (لأنّ اليهود، كما يُفترض، أعداء الدين والأمّة) وليس أهدافاً إسرائيليّة. والذهاب إلى سوريّة هو ذهاب إلى «الشام». وكمثل تغييب الفوارق في الزمن هناك تغييبها في الجغرافيا، فهم يمارسون بداوة جهاديّة تأخذهم إلى حيث هناك جهاد. وفي هذا لا يندمجون في أيّ من المجتمعات التي يقاتلون فيها. إنّهم يغادرون عالم الواقع إلى عالم مُتوهّم، و «الهجرة» تشقّ لهم الطريق إلى «حيّز مكانيّ مؤسلم» هو مجتمع مضادّ. وهذا ما سبق للهيبيّين ولفرق دينيّة أن فعلوه بطريقتهم، فحينما ظهرت «الدولة» جذبت عدداً، أغلبهم عائلاتٌ نُوى، لم يأتوها للجهاد بل للعيش في ما ظنّوه قانوناً إسلاميّاً. وفي هذا كان حضور الفرد نافراً تحت غشاء الجماعة: فهو يؤبَّن ويُمدح عند مصرعه، ويوصف بالجمال والرائحة الطيّبة. وبدورهم، فالإرهابيّون لا تعوزهم النرجسيّة الموازية لعلاقتهم بالموت، فهم مثلاً يُشهرون أنفسهم عبر فيديوات ذاتيّة الصنع أو عبر «فايسبوك». وليس بعيداً من هذا ما اشتُهروا به من تعميم جرائمهم بحقّ ضحاياهم. وإذ تضجّ مجلّتا «الدولة»، «دابق» و»دار الإسلام»، باستشهادات قرآنيّة وأحاديث نبويّة، فإنّها كثيراً ما ترِدُ، بعد نزعها من سياقها، في إطار الإعلان عن الخلافة ونهاية العالم أو تبريراً للعنف الممارَس. لكنّ هذا أيضاً يندرج في جماليّات حديثة عن البطولة والعنف الذي يُمسرَح، حتّى أنّ بعضه يُصوَّر مسبقاً قبل تنفيذه الفعليّ، ف «بربريّتهم» إذاً لا تنتمي إلى أزمنة سحيقة، بل تستخدم ساديّة كتلك التي استخدمها بازوليني في فيلمه الشهير «سالو». إنّ صور الشبيبة في سيّارات رباعيّة الدفع تَخفُق من نوافذها الأعلام، وسط صحراء شاسعة وغامضة، مجرّد واحدة من لوحات جماليّات العنف الشبابيّ التي تقدّم ل «الدولة» إحدى مخيّلتيها، فيما الأخرى دينيّة وكلاسيكيّة مدارها الخلافة. الخطاب القياميّ وبالعودة إلى الخطاب القياميّ، فإنّه يتبدّى هنا مركزيّاً وجديداً في آن، ف «الدولة» استخدمته بدايةً حيث لم يكن له حضور يُذكر بين الراديكاليّين الغربيّين، كما غاب عن خطاب «القاعدة»، فعنوان «دابق»، الصادرة بالإنكليزيّة، يحيل إلى بلدة صغيرة شمال سوريّة حيث ستنشب، وفقاً لحديث نبويّ، معركة كبرى وأخيرة بين «الرومان» و «المسلمين»، وهذا ينقل السؤال من: «ماذا يقول القرآن؟»، إلى: «ماذا يقول المسلمون عمّا يقوله القرآن؟». واقع الحال أنّ إيمان أنصار «الدولة» إيمانُ المقتَلَع، فهم فقدوا تديّن آبائهم المتجذّر ثقافيّاً ولغويّاً، ولفّقوا تديّناً يحوّل هامشيّتهم منتوجاً معولماً. وهذا ما يفسّر النسبة المرتفعة للمغاربة الذين عانوا تداخل اللغات واللهجات تلاه تعريب عشوائيّ مثلما عانوا فرْنَسَة عشوائيّة. والشيء نفسه يصحّ في المسلمين السوفيات سابقاً الذين عرّضتهم موسكو للاقتلاع الثقافيّ (ترحيل الشيشان في 1944) والاختلاط اللغويّ (الداغستانيّون)، ويصحّ في الكوسوفيّين الذين ضمّتهم «الدولة» إلى كتيبة «يوغوسلافيّة» لغتها الصربيّة– الكرواتيّة، بينما ضُمّ الأصغر بينهم إلى كتيبة «ألبانيّة». ولئن بقي تمثيل الأتراك منخفضاً، بسبب الافتقار إلى هذا العامل، ارتفع تمثيل الباكستانيّين الذين تنكمش لغتهم الأوردو في المَهاجر لتحلّ الإنكليزيّة محلّها. ويفسّر نزعُ ثقافيّة الحيّز الدينيّ أسبابَ إعادة بنائه بشكل أصوليّ، كما يشكّل مصدراً للعنف الرمزيّ تبعاً لتجفيف المحيط الاجتماعيّ والثقافيّ للدين ذاته. لكنّ الهجرة والعولمة ليستا وحدهما ما نزعا ثقافيّة الحيّز الدينيّ، فالعلمنة أيضاً كان لها سهمها: ففي المجتمعات الأوروبيّة، وبسبب هذه العلمنة، صار الدين مقبولاً في المجال العامّ كهويّة لكنْ ليس كإيمان، وخصوصاً ليس كممارسة، إلاّ حين تُعامَل هذه الممارسة بوصفها فولكلوراً. لقد نشأ إجماع على أنّ الدين «ثقافة قديمة»، وبات حضور رموزه في المجال العامّ، خصوصاً منها الحجاب، أشبه بالفضيحة. وهذه الرغبة في حصر الدين في المجال الخاصّ إنّما تناقض قانون 1905 الفرنسيّ روحاً ونصّاً. فالقانون المذكور لا يتعلّق بالإيمان، بل بالعبادة، أي بممارسة الدين في الحقل العامّ. وربّما لأنّ العلمنة الفرنسيّة أكثر مثيلاتها تطرّفاً وإيديولوجيّةً، غدت البلدان الفرانكوفونيّة أشدّ البلدان نزعاً لثقافيّة الحيّز الدينيّ، ف «العلمانيّون» الجزائريّون والتونسيّون «استئصاليّون»، يحرّمون حضور الإسلاميّين في السياسة وحضور الدين في المجال العامّ. وأشدّ أعداء الحجاب في فرنسا هم من المغرب. هكذا، فالموضوع ليس في التمييز ضدّ المهاجرين، وهو قائم، بل ضدّ الإسلام بهدف طرده الذي يضعه في أيدي الراديكاليّين. فما هو دينيّ يبدو غريباً للعلمانيّ إذا تجاوز الدين المجال الخاصّ. لكنّ هذه «الغرابة» هي بالضبط ما يبدو جذّاباً لبعض الشبّان الباحثين عن القطع مع المجتمع. وهؤلاء لا يتّجه احتجاجهم ضدّ رُهاب الإسلام، لأنّهم هم أيضاً يعتقدون أنّ الإسلام والغرب لا يقبلان التعايش. هكذا نراهم يلتصقون بالرموز التي تخيف الآخرين من البرقع إلى السكاكين. وللسبب هذا سيكون سخيفاً افتراض «علاجهم» عبر أئمة معتدلين يعلّمونهم الدين الصحيح. إنّ هؤلاء يبحثون عن الراديكاليّة بذاتها ولذاتها. أجيال وتطرّف لقد عرفنا في الستينات شكلاً جيليّاً من الاعتراض. في البداية احتلّ اليسار المتطرّف الحلبة، فكان «العمل المباشر» و «الجيش الأحمر». وقد عبّر جان مارك رويّان، الوحيد المتبقي على قيد الحياة من «العمل المباشر»، عن إعجابه بشجاعة مرتكبي باتاكلان. أمّا كارلوس، إرهابيّ السبعينات والثمانينات الشهير، فاعتنق الإسلام في سجنه كما امتدح بن لادن. والانتقال هذا من اليساريّة إلى الإسلاميّة لا يقتصر على الراديكاليّين المعولمين. فقد سبق أن مارسه ناشطون مؤيّدون للثورة الفلسطينيّة في لبنان. ذاك أنّ الانتفاضات الجيليّة، من الثورة الثقافيّة الصينيّة والخمير الحمر إلى تنظيم «الدولة»، تتميّز بالرغبة في استئصال البشر والذاكرة وتحويل الأبناء أساتذةً لآبائهم. فجماعة بادر ماينهوف انتقدت الجيل السابق بسبب صمته إبّان الحقبة النازيّة. أمّا الجزائريّون الذين هاجر آباؤهم إلى فرنسا في الستينات، فلا يفهمون كيف آلت الملحمة الكبرى لثورتهم إلى الهجرة والعيش بشروط مهينة في فرنسا. وفي هذه الجيليّة ثمّة بُعد عالمثالثيّ بارز ومشترك بين جذريّتي اليسار وإسلاميّي «القاعدة» و «الدولة»، يتجلّى في غياب العنصريّة وفي الحضور الكثيف لسود المستعمرات السابقة. ويجوز اعتبار ثورة 1979 الإيرانيّة جسر الانتقال من الجذريّة الأولى إلى الثانية. فهي، على المسرح الدوليّ، قُدّمت ثورةً عالمثالثيّة مناهضة للإمبرياليّة، أصدقاؤها ليسوا الدول المسلمة، بل كوبا والساندينيّون. أمّا «حزب الله»، فيمكن عدّه من ثمار التركيب الإسلاميّ– اليساريّ هذا، والأهمّ أنّ ذاك اليسار الذي فقد كونيّته وقيمها، كان فقد البروليتاريا الأمميّة التي يبحث عنها، ما أدّى إلى إرهابه ثمّ موته، وبدورها سوف تموت «الدولة» تبعاً لعدم عثورها على «الأمّة» الكونيّة التي هي، مثلها مثل «الخلافة»، مجرّد فانتازيا.