يفاجئنا اليوم تيار يفرض نفسه على السينما كنوع منفصل يحمل روح الباب وقدرتهم على إبداع تيارات جديدة، قوامها كاميرا فيديو وأقل ما يمكن من المادة الخام. لكننا نرى وراء هذه الكاميرات مخرجين حقيقيين يقدمون، بتقنيات بسيطة، صوراً سينمائية مدروسة. "سينما الشباب الفقيرة" تخلق من فقرهم غنى فنياً في الشكل والمضمون على رغم ما يعانونه من أزمات تعترض حصولهم على تمويل من جهة، وعلى مكان تعرض فيه افلامهم من جهة اخرى، اضافة الى عدم خضوعهم لمقاييس العرض التجاري وبالتالي عدم ضمانهم تحصيل ربح مادي للجهة الممولة. علاقة متبادلة ما يثير الاهتمام والتساؤل هو العلاقة المتبادلة بين هؤلاء الشباب ومضامين افلامهم وأسلوبية التعبير عنها...!! لديهم ميل واضح تجاه التفاصيل الحياتية البسيطة وابتعاد عن الشعارات والإيديولوجيات والمانشيتات العريضة. ينطلقون من انفسهم في عرض واقع يعيشونه مملوءاً بالانكسارات الداخلية، لا يكتفون بنقله إنما يضيفون وجهات نظر خاصة يقولون رأيهم من خلالها من دون رقابة او خطوط حمر ربما لتحررهم من رقابة المنتج. بدأت سينماهم كموجة ثم اثبتت نفسها كنوع يُطرح بقوة في المهرجانات الإسماعيلية/ بيروت السينمائي عارضاً إمكانات مثيرة، تحديداً في الأفلام العربية سواء قدمت باسم بلد عربي ام اجنبي... كلاهما يحكي واقعاً. ترى ما الواقع الذي يقدمه مغترب يصنع فيلماً؟ وما الذي يقدمه عربي يعيش مغترباً في بلده؟ غربة داخلية في الوطن... وغربة خارج الوطن. نجدها متجسدة في افلام ثلاثة: "شريط شائك" لمنى مرعي باسم لبنان، "غرباء دوماً" للسوري هشام الزعوقي باسم النروج، و"الشاطر حسن" للفلسطيني محمود المسعد باسم هولندا. وبالعودة الى العلاقة التي تربطهم بمضامين افلامهم نسأل عن سبب اختيارهم هذه المواضيع؟ يجيبنا هشام الزعوقي: "ما نعرضه هو انعكاس لحال التشظي التي نعيشها في المنفى، فالغربة كلمة لطيفة تجاه ما نعانيه كل يوم في محاولات لتحقيق انتمائنا...". "لا نستطيع التخلص من شعورنا بالغربة، نسأل دائماً في لحظة يأس، لم خرجنا من بلادنا؟" سؤال يؤرق محمود المسعد على رغم بساطة الجواب الذي تلقاه من منى مرعي "نحن شباب كسرت اجنحتهم، نعيش مشكلات حقيقية وضغوطاً اجتماعية وسياسية من دون قدرة على التعبير"، هذا العجز اثار هشام وأمثاله للبحث عن الاحترام الإنساني "لم أعد أحتمل ان أعامل كحيوان، أبحث عن آدميتي وحقوقي في عيش كريم آمن ولو لمدة 24 ساعة فقط". كل هذه الإشكالات والصراعات الداخلية نجدها معكوسة على افلامهم، كل بطريقته الخاصة. خبرية شريط اختارت منى ان يكون فيلمها الروائي القصير "شريط شائك" عبارة عن "خبرية شريط" تسجله فتاة تحكي واقع وطن من خلال علاقتها بالآخر، تلك الوثيقة ترمى في القمامة عند نهاية الفيلم. شاب وفتاة حكم على علاقتهما بعدم الاكتمال او التوافق نتيجة غربة يعيشانها داخل الوطن تفرض اختلافاً في نمط التفكير هو يريد الرحيل بينما ترغب هي بالبقاء. هذا الاختلاف ينسحب على طرق التعبير ايضاً وكيفية تشويهها، اذ تردد الفتاة كلمة بكرهك تعبيراً عن حبها في حين يكرر هو بموت فيكي. لكن موته جاء صدفة وليس حباً... كان موتاً لا قيمة له. كما لا قيمة او معنى للحب في ظل ظروف تحرمنا فرصة العمل، بل الحياة ايضاً. هذا الشباب التواق للسفر يغادر البلاد هرباً من غربة داخلية ليعاني منها ثانية بطريقة مختلفة تبدأ لحظة دخوله عالم الآخر. في الفيلم التسجيلي "غرباء دوماً" نستشف من عنوانه الإشكالية التي يتمحور حولها الفيلم وهي الإحساس الدائم للمغترب بعدم اندماجه مع الآخر او بالأحرى عدم ادماج الآخر له أو قبوله. جسد ذلك من خلال عدد كبير من المغتربين الذين يتوقون لقبولهم انسانياً، على رغم إقلال المخرج من الإشكالات على تنوعها وعدم رصده لردود الأفعال التي قد يمارسها المغترب لقاء العنف إن تعرّض له. يعيش الغرباء صراعاً بين عالمين: عالم يعتمد بممارساته على ذاكرة قديمة مرتبطة بالوطن وتفاصيله. وآخر حالي له واقع مختلف يتطلب اكتشافاً واعتياداً وقبولاً. وسبب الصراع انهم احبوا العالم الجديد المختلف عنهم، احبوا تفاصيله بصدق وعفوية مستمرين في محاولات لانتزاع فرصهم وإثبات حضورهم على رغم الصعوبات والرفض الاجتماعي لا القانوني... التراث وزمننا من وجهة نظر اخرى نجد فشلاً يتجسد ومعاناة ترصد نتيجة انكسار حلم في الفيلم التسجيلي "الشاطر حسن" الذي حاول مخرجه الخلط بين ما ورثناه من حكايا التراث الشعبي وبين واقع مختلف لا يبشر بنهايات سعيدة هانئة. يبدأ الفيلم بقصة تحكيها ام لابنها قبل النوم، سمكة تعد "الشاطر حسن" بتزويجه اميرة البلاد إن انقذها... ينتقل المخرج بنا من الخيال المحكي الذي بقي حتى نهاية الفيلم مجرد كلام، الى واقع صادم كاشف للكذب الذي غذينا طفولتنا به. غادر حسن وطنه المغرب معتقداً انه سيحقق نجاحاً ومالاً وفيراً في أوروبا... وربما يتزوج اميرة البلاد!! لكنه تشرد وسكن الشارع وها هو يشحذ قوت يومه بالعزف على الفلوت الذي يصنعه من منفاخ الدراجة الهوائية. بقي غريباً، بل نكرة في اوروبا، وفي بلده ايضاً، لم يعد قادراً على العودة بفشله... واكتشف ان الشاطر حسن ليس الا كذبة كانت امه ترويها له بصوت دافئ ينوّمه دائماً قبل سماع نهاية الحكاية، لم يسمع النهاية لكنه رآها بعيداً من الخيال مغرقة في الواقعية. وطن ضائع ثلاثة افلام يجمع بينها خط رابط يحكي واقع انساننا اليوم وتفاصيله، وطننا الضائع، غربة قابعة في اعماقنا داخل الوطن وخارجه، اتفق المخرجون على التشكيك بمصداقية الرموز والثوابت الوطن، التراث، الوهم الاوروبي... وأعلنوا انكسار الحلم وفقدانه بأشكال مختلفة كقتل الشاب في "شريط شائك" لتموت علاقة الحب، وكشف الكذبة في "الشاطر حسن"، ليبقى تراثنا خيالاً فقط. وفي النهاية محاولات تثبيت يقوم بها المغتربون في "غرباء دوماً" ليقبل بهم الآخر وتبقى في إطار المحاولات. هذه الغربة تدفع نحو الفردية ونسف فكرة وجود الآخر كشريك وبالتالي عدم المقدرة على التواصل معه. اوضحت منى مرعي ذلك من خلال الغاء اي حوار او نقاش متكامل بين الشابين على رغم حبهما. كل يتكلم عن نفسه من دون تطرق للحديث عن نفسيهما معاً. حتى حديث الفتاة عن العلاقة كان امام آلة تسجيل تدور طوال الفيلم تطحن الزمن والشريك غائب. اما "الشاطر حسن" فبقي وحيداً في السواد من دون ملامح، يجوب الشوارع متشرداً، ومحاولات للتواصل بقيت مستمرة في "غرباء دوماً" وإن استدعى الأمر ممارسات غير مقنعة او سوية. ما عرض هو ازمة انتماء الى وطن وبالتالي لا بد من ان تحمل الأمكنة المختارة دلالة تدعم الحال وتغنيها. مرحلة يعيشها شبابنا اليوم ربما هي انتقالية وربما مرحلة ضياع؟ الا انها تبتعد عن الثبات لذا لا نجد في هذه الافلام اعتماداً على الاماكن الثابتة او الآمنة وان وجدت كما في فيلم "شريط شائك" فهي اماكن قديمة مهترئة بجدران متشققة... اما المكان الاساس لعلاقة الشابين السيارة فهو غير ثابت او آمن، مصنوع من الحديد البارد، متنقل، مكشوف للآخرين... ربما كان يمثل وطنهم؟ وكذلك الامر في "غرباء دوماً" يدخلون عالماً آخر المترو تحت الارض، ليس مكاناً طبيعياً للعيش يصور التطور التقني، يبقون داخله في انتقال دائم. ربما يصلون الى محطتهم المبتغاة. ينتهي الفيلم في المكان نفسه المترو وأيدي الركاب تمسك العمود في محاولة للثبات خوفاً من الوقوع وبحثاً عن الاستقرار. حاول المخرجون الثلاثة الابتعاد من تحديد اي زمن في افلامهم ربما لاحساسهم واحساسنا ايضاً بوجودنا خارج الزمن... وما نعانيه ليس محصوراً بزمن محدد. تجلت دلالة الزمن بقوة في "شريط شائك". من خلال دوران آلة التسجيل نرى زمناً يدور بهدوء، ربما يدور حول نفسه، او يمر بعجلاته على ما يريد جاعلاً منه ماضياً يدوسه... آلة التسجيل هذه يمكن ربطها بعجلة السيارة التي رُكز على التقاطها في حال التوقف غالباً... وهنا نتوقف مع السيارة ومع الشريط الذي رمي في القمامة. رمز... وسياسة ترتبط دائماً دلالة الرمز بالواقع السياسي، فإن كان ديكتاتورياً يمثل ضغطاً على مواطنيه ويحرمهم ادنى حدود الحرية. تصبح آلية تعبير الفرد معتمدة على الرمز في الكلام والممارسات اليومية، بالتالي تنعكس على الفن. كل ذلك نجده مكثفاً في سينمانا العربية التي تعكس باستخدامها المفرط للرمز واقعاً سياسياً واجتماعياً مخابراتياً مراقباً. هذا ما ورثه جيل الشباب، وربما يكون سبباً اساسياً في اتجاههم للقول بالرمز قدر الامكان وبالتالي اهتمامهم الاول بالصورة وجماليتها وصدقها وان وجدت الثرثرة الكلامية بعض الاحيان. لخصت منى مرعي الوطن وما فعله في جيل طالع من سنوات الحرب الاهلية الطاحنة بمشهد على خشبة المسرح لا نود التطرق الى جدوى او مبرر دخول المسرح في الفيلم، الناس داخل اطر ضيقة تُمنع حركتهم وأطفال يقفزون في الهواء لعدم اكتمال الطريق... يرافق المشهد موسيقى النشيد الوطني. اما الصورة لدى هشام الزعوقي فتوحي منذ البداية بالعالم الذي اراد الفيلم وضعنا فيه وبالتالي تحكي الصورة لديه الفيلم وان كان مقلاً منها على رغم قناعته بجدواها، على عكس محمود المسعد الذي حاول ألا يقدم صورة مجانية وعلى رغم ذلك لم ينج من الاكثار بعض الشيء. نلاحظ في هذه الافلام وتحديداً في "الشاطر حسن" فنية عالية ربما تفيض بعض الشيء او تتجه نحو الاستعراض، وهنا نسأل: ما السبب الذي يدفعهم الى ذلك؟ هل هم شبان يريدون اثبات انفسهم ومقدراتهم في وطن داخل/ خارج لا يعترف بهم؟ وهل يندرج هذا ضمن نضالهم في تثبيت سينماهم؟ هل سنستمر في رؤية شباب يناضل وسيستمر ام يناضل فقط ثم يتوقف؟ والسؤال الأهم: بعد كل هذا النضال هل سيجدون وطنهم الضائع؟