يحار المرء في تصنيف أفلام بعينها، ويحار أكثر حين يجد نفسه في المحك التحليلي لما يود توظيف مفهومي الموضوعية والحرية فيه. الأول يخص النقد والثاني يخص الإبداع. فهل على المرء ان يتوخى الموضوعية ولا يراعي الظروف؟ ومن جهة أخرى، هل يعتبر الحرية مسوغا كافيا يسمح بكل التجاوزات بلا نقاش ولا نقد؟ فيلم «شقوق» للمخرج المغربي الشاب هشام عيوش، من هذه الأعمال السينمائية التي تثير هذه التساؤلات، ليس لأنه فيلم كبير وقوي، بل العكس لأنه فقط فيلم عادي جدا رغم إدعاءات مخرجه. وما يهم بخصوصه، هو أنه اجتمعت فيه أمور تستدعي النظر عن قرب فيما هو سينمائي وما هو مغربي، وما يجب أن يحدد العلاقة بينهما. يجب بداية، القول أن المخرج هو الأخ الأصغر للمخرج المعروف نبيل عيوش، وهما معا من عائلة غنية معروفة تعتمد على صناعة الإعلان مع حضور ملموس في إطارات المجتمع المدني. وفي فيلم هشام الأول هذا نرى شيئا من «علي زاوا» شريط شقيقه الشهير، مع تحوير الفضاءات والشخوص. ليس في «شقوق» أطفال، بل ثلاثة أشخاص راشدين لكن منكسرين ومحبطين ومخربين من الداخل، لكن فيه أيضا عوالم مدينة سفلية داكنة تعج بكل الانحطاطات الممكنة من أجواء انحراف وتخدير وأردان ودعارة، أي الوجه القبيح. المخرج قام بنقل عدسة الكاميرا إلى مدينة طنجة عاصمة الشمال بدل الدارالبيضاء. ويظهر جلياً مبرر هذا الاختيار، وهو غالباً مُملى، بشكل واع أم لا. فهذه المدينة اشتهرت بهذا الوجه في أدبيات كتّاب أمريكا الذين عاشوا فيها إبان حقبتها الكوزموبوليتية ، وبما خلده كاتبها الشهير محمد شكري في رائعته «الخبز الحافي». لكن شتان ما بين رصانة الأدب وهشاشة الشريط. فهذا يقلد ذاك من فوق، سطحيا، وإذا عرفنا أن عيوش الأصغر، من مواليد باريس حيث ترعرع ويقيم، يمكن تعضيد فهم هذا الاختيار. فكم من مخرجي فرنسا ذوي الأصول المغربية ينهجون ذات النهج إلى حد صار معه «تياراً سينمائياً» إن جاز التعبير. ومن هنا سؤالنا في مقدمة المقال. النقد لا بد أن لا يغض الطرف عن هذا المعطى بتاتاً. فحكاية الفيلم اولا مفارقة للواقع الذي تود الشهادة عنه: رجلان يقعان في حب امرأة غير مصنفة، برازيلية !! اي أنها امرأة اسقطت في واقع ليس لها. الأول يحبها حسيا وجسديا، وهو ستيني العمر بالكاد خرج من فترة سجن طويلة، والثاني صديق له يحبها حبا عاطفيا قلبيا. ثلاثي معروف في الأدبيات وفي السينما، وهشام عيوش اكتفى برميه في يم مجتمعي مغربي يروم أن يرسل عبره خطابا فوقيا (مرة أخرى) مفاده أنه مخرج منخرط وملتزم بقضايا الوطن ومشاكله وهمومه. لكنه في ذات الوقت وبقصته هذه، يود الانخراط في جو سينمائي بأبعاد دولية. وهذا الازدواجية جعلت الشريط يحيد عن هدفيه ويرتمي في الهلهلة. وأكثر من ذلك، أن المخرج توخى المنحى التجريبي في المعالجة الفنية والتقنية. كاميرا على الكتف، ولقطات سريعة، متذبذبة، واستطالات وزوايا التقاط جانبية. وكما يقول المخرج فهو صوّر الفيلم بدون الاعتماد على سيناريو مكتوب، بل كان هناك فقط الفكرة الموحدة والممثلون الذين يسكنون شخوصهم ويلتصقون بها ويحاولون اللعب كما لو كان الأمر حقيقيا. وهنا يطرح مفهومنا الثاني الذي هو الحرية. فهل يمكن لعمل إبداعي أن يعتمد على الخواء؟ في عز الموجة الجديدة الفرنسية التي أعلنت المخرج مؤلفا والسيناريو غير ذي أهمية قصوى، لم يحدث أن تم إخراج فيلم من لا شيء. إن الحرية في الإبداع مسؤولية أيضا، خاصة إذا ما تم دعم الفيلم بأموال الدولة. وهذه الحرية «المطلقة» ( لكن المستفزة والمفكر فيها لهذا الغرض بالذات) امتدت إلى جلّ مناحي الشريط، من لغة شارعية صريحة، ولقطات ساخنة... نعم، ليس الأمر حجراً على موضوع ولا على اختيار، فالإبداع لا يعرف الحدود، يعرف فقط التمكن وقوة الخيال والقدرة على الإثارة العميقة في النفس والقلب والعقل. في «شقوق» لا يثير الشخوص وحكاياتهم سوى الملل لكثرة ما شوهدت في السينما من قبل وبشكل أفضل. في مجتمعات أكثر ضبطا وحرية واتساع رأي، وتلكم فضاءاتها الحقيقية. أما إلصاقها بفضاءات غريبة عنها فهو تحوير غير جدي. لأن هذه الحكايات نفسية أكثر منها اجتماعية، وهي ليست نتيجة ظروف عيش أو ظروف بلد ومجتمع، بل نابعة من العواطف الإنسانية أصلا كما يمكن ملاحظتها في العالم أجمع، وليس المغرب فقط. ودليلنا في ذلك المرأة البطلة. فهذه ليست سوى حالة إنسانية خاصة. هي امرأة غير واجدة ذاتها ولا نشوتها في أي مكان، ولا لدى أي شخص بعينه. امرأة سينتهي بها المطاف إلى الانتحار حتما والموت. حين لا تجد التلبية القصوى لما تصبو إليه وما تريده. خلط متعمّد والحق أننا لا نفهم كثيراً هذا الخلط المتعمد. قد يشفع للمخرج أن هذا فيلمه الطويل الأول، وبالتالي اختار المجابهة والدخول بقوة إلى المشهد السينمائي المغربي هو الباريسي المضمخ بثقافة سينمائية وثقافية أخرى ربما متحررة أكثر من اللازم من خلال صور حية مثيرة للحساسيات والجدال. وهو أمر قام به مخرجون مغاربة في السابق. لكن الجديد ليس مرتبطاً بالضرورة بالصدام والاستفزاز، والذي نحبه إذا كان جميلاً وبديعاً، لكن قد يحدث في حالة الإملاء، أو في حالة انحسار الخيال الإبداعي. ولا نعتقد ذلك بخصوص «شقوق»، فقد أثرت فيه ربما أجواء الانتاج التي تفرض شروطها. رغم ما قيل بأن الشريط هو مغامرة فردية وشخصية لصاحبها هشام عيوش لا غير، ونحن نريد تصديق ذلك، لكن النتيجة لا تشجعنا. كم كان سيكون عملا مغايراً ومقبولاً بصيغته الشخصية الفردية، لو لم يطمح إلى مقارعة بلد أكبر من الشريط كثيراً.