ليس ثمة خطر على مستقبل المقاومة الفلسطينية في اللحظة الراهنة أكثر من الارتباك الذي تعاني منه الفصائل الوطنية وما يؤدي إليه من عشوائية متزايدة سواء في الفعل القليل أو في رد الفعل الذي صار غالباً عليها. فهذا فصيل يعلن في الصباح استعداده لوقف العمليات المسلحة، ثم يعود قبل حلول المساء إلى تأكيد أنه لا بديل عن هذه العمليات. ولا يكاد يمر يوم على هذين الموقفين المختلفين، كي لا نقول المتعارضين، حتى يخرج أحد قادة هذا الفصيل ليقول إن وقف العمليات المسلحة يتوقف على الظروف الميدانية. وقد أصبح التباين بين قادة الفصيل الواحد، في هذا المجال تحديداً، ملحوظاً. وهذا دليل على ارتباك واضح. ولكنه يعبر، في الوقت نفسه، عن عشوائية دالة في حد ذاتها على فشل تنظيمي. وهذا فصيل آخر يصدر بياناً واضحاً لوقف العمليات ضد المدنيين الإسرائيليين، ويتحرك قادة تاريخيون فيه لشرح إمكان مقاومة الاحتلال من دون اللجوء الى عمليات تؤلب العالم كله ضد الفلسطينيين، ويرسل كوادره السجناء في أحد سجون الاحتلال رسالة تأييد للبيان. ولكن بعض كوادره في الضفة الغربية لا يكتفون برفض البيان، بل يحاولون تخويف بعض قادة الفصيل ومسؤولي السلطة يعتبرونهم "دعاة استسلام". وحين يجد مثل هذا الارتباك والعشوائية والاختلالات التنظيمية في لحظة فارقة بالنسبة الى مستقبل المقاومة الفلسطينية، يصبح الخطر أكبر. وعندما تفتقد الفصائل المناضلة رؤية واضحة للمستقبل، يزداد الخطر أضعافاً. فغياب الرؤية يعني التخبط على الطريق. ومن دونها قد لا يهتدي الفلسطينيون الى أن المطلوب الآن هو إنقاذ ما يمكن إنقاذه، والحفاظ على من يمكن الحفاظ عليهم من الكوادر والناشطين في الفصائل المختلفة، والإعداد لجولة تالية من المواجهة في مرحلة قادمة. ولا يمكن تحقيق هذا الهدف التكتيكي إلا إذا توافرت عزيمة قوية شرطها الأول هو التفاهم بين الفصائل جميعها على تفويض السلطة الوطنية للدخول في مفاوضات تستهدف الوصول الى اتفاق مرحلي جديد، وقبول بدء التفاوض بشكل فوري من دون انتظار انسحاب قوات الاحتلال، على أن يكون هذا الانسحاب أحد عناصر العملية التفاوضية الجديدة. ولا شك أن في هذا الموقف تخفيضاً للسقف الفلسطيني. ولكن هذا السقف يهبط يوما بعد آخر في غياب رؤية فلسطينية تعتمد على المناورة بالتكتيك السياسي عوضاً عن التخندق وراء مواقف استراتيجية. فأحد أهم عناصر ضعف المقاومة الفلسطينية، مقارنة بحركات التحرر الوطني الأخرى التي انتصرت، هو الارتباك الشديد في العلاقة بين التكتيك والاستراتيجيا. فقد غرق بعض الفصائل في بحر المواقف الاستراتيجية الذي لا يمكن أن تظهر له شطآن في غياب تكتيك جيد، فيما انغمس غيرها في مناورات كان معظمها مفروضاً عليها فاستنفدت جهدها في أعمال تكتيكية لم يكن للقسم الأكبر منها علاقة صحيحة باستراتيجية التحرير. وعلى رغم أن الأداء الفلسطيني يبدو أفضل في مجال العلاقة بين الأهداف المرحلية والنهائية، فقد شابه بدوره الكثير من الارتباك. كان إقرار البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير في العام 1974 خطوة إيجابية، إذ أقر إقامة سلطة وطنية على أي جزء يتحرر من أرض الوطن. فقد وضع هذا البرنامج أساساً للعلاقة بين الأراضي المحتلة في العام 1967 وفي العام 1948 . ولكن صعود دور الحركات الإسلامية الفلسطينية في أواخر ثمانينات القرن العشرين أربك تلك العلاقة، خصوصا وأنه جاء في وقت كان التيار الرئيسي في حركة المقاومة يتجه الى بلورة تصور أكثر تعقيداً يميز بين أهداف مرحلية وأخرى نهائية في التعامل مع أراضي 1967 . وكان اتفاق أوسلو 1993 هو التعبير التعاقدي عن هذا التصور الذي يقبل انسحاباً إسرائيلياً على مراحل ، مع إبداء استعداد سياسي للتخلي عن أراضي 1948 من دون التزام قانوني قاطع ونهائي بذلك. وهنا يتقاطع القصور في بناء علاقة بين المرحلي والنهائي مع الغيوم في سماء العلاقة بين التكتيكي والاستراتيجي. وقد حجبت هذه الغيوم في كثير من الأحيان حقيقة أن هذا صراع طويل الأمد يحسب بالعقود وليس بالسنوات، ما أدى الى استعجال الوصول الى حل نهائي سواء عبر المقاومة أو التفاوض. فكلما أدرك المرء أن أمامه عملاً طويلاً على مدى أجيال عدة، صار أكثر حرصاً على تطوير مهاراته التكتيكية، وأوفر استعداداً لتغليب الاتفاقات المرحلية على الاتفاق النهائي. وهذا هو ما يفتقده العمل الوطني الفلسطيني في الغالب الأعم، سواء كان في حال قوة أو ضعف، في لحظة تقدم أو تراجع. وحتى عندما قبلت القيادة الفلسطينية اتفاق أوسلو ذا الطابع المرحلي، استعجلت الوصول الى اتفاق نهائي، أو على الأقل لم تقاوم جرها الى تفاوض على مثل هذا الاتفاق في قمة كامب ديفيد الثانية في تموز يوليو 2000. كما ظلت مصرة، منذ ذلك الوقت، على عدم العودة الى مفاوضات مرحلية بأي حال. وهذا هو الخطأ الذي يتوجب تصحيحه الآن في إطار حوار وطني فلسطيني حول العلاقة بين الاستراتيجي والتكتيكي وبين النهائي والمرحلي. وشرط نجاح هذا الحوار هو أن يتجاوز التنظير الذي يسهل الاستغراق فيه ويصعب الوصول عبره الى شيء، وأن يركز على تجارب العمل الفلسطيني وصولاً الى تجربة أوسلو. فهذه التجربة تظل هي الأكثر إيجابية من زاوية العلاقة بين التكتيكي والاستراتيجي على رغم من مساوئها الكثيرة ومن نتائجها التي تبدو اليوم مخيبة للآمال. فقد وفرت هذه التجربة فرصة تاريخية لتنامي امكانات المقاومة الفلسطينية عموماً والمسلحة منها خصوصاً. وليس هذا حكماً غائياً أو قائماً على نزوع نظري، لأنه مستخلص من المقارنة الكمية والنوعية بين عمليات المقاومة قبل أوسلو وبعده. فالفارق هائل بين عدد العمليات من 1967 حتى 1993، ثم منذ 1993 وخصوصاً في العامين الأخيرين. فحسب الاحصاءات الإسرائيلية، وقعت في الفترة بين 1997 و2000 حوالى 400 عملية أي أكثر من كل ما حدث منذ احتلال الضفة والقطاع في العام 1967. أما في عامي الانتفاضة فقط، فقد وصل عدد العمليات الى أكثر من 3800 عملية. ويرجع هذا الفارق الى أن تحرير جزء من الأراضي المحتلة في الضفة والقطاع وفر ظرفاً موضوعياً للتدريب والتسليح المحلي لم يكن متاحاً من قبل. وكذلك الحال بالنسبة الى الخسائر البشرية الإسرائيلية، التي أحصاها نداف شرغاي في هآرتس 15/9/2002 . فوصل الى أن إسرائيل خسرت 17 شخصاً سنوياً في المتوسط منذ الاحتلال في العام 1967 حتى اتفاق أوسلو، فارتفع المعدل الى 47 شخصاً في العام حتى أيلول سبتمبر 2000، ثم الى 309 أشخاص كمعدل سنوي للعامين الأخيرين. كما أورد نتائج استطلاع حديث أظهر أن 69 في المئة من الإسرائيليين يرون أن اتفاق أوسلو أفاد الفلسطينيين وأضر إسرائيل. ولكن هذا الاستنتاج لا يستقيم إلا إذا أقمنا علاقة صائبة بين التكتيكي والاستراتيجي وبين المرحلي والنهائي، أي إذا نظرنا الى اتفاق أوسلو باعتباره تكتيكاً يخدم استراتيجية النضال ومرحلة يمكن أن تليها مرحلة أخرى انتقالية بدورها وليس حلاً نهائياً. ولو توافرت هذه الرؤية في منتصف العام 2000، لربما تغير مسار الأحداث في العامين الأخيرين. في هذه الحال، كان في امكان القيادة الفلسطينية أن تسعى للتفاوض على اتفاق مرحلي جديد تحاول أن تنتزع من خلاله مساحة إضافية من أرض الوطن، وضمانات سياسية جديدة تساعد على دعم امكانات القوة الذاتية الفلسطينية. بل لو توافرت هذه الرؤية لربما تغير طابع العلاقة بين السلطة الوطنية والفصائل المعارضة لها منذ البداية، ولحدث تقسيم العمل الذي يبرع فيه الإسرائيليون دون الفلسطينيين. ولو قامت السلطة أصلاً على أساس ديمقراطي لكان أداؤها أفضل. فالطابع غير الديمقراطي لسلطة عرفات سهل على إسرائيل صوغ مسيرة أوسلو على خلاف تطلعات الشعب الفلسطيني. ومع ذلك، ما زال في الامكان تعويض ما فات في صراع ما برح طويلاً، وتقديم مبادرة فلسطينية متماسكة للدخول في مفاوضات مرحلية جديدة بموجب تفاهم بين الفصائل جميعها ومعها ما بقي من السلطة الوطنية على العلاقة بين التكتيك والاستراتيجية وبين المرحلي والنهائي. * كاتب مصري.