تسعى كل دولة الى أن تنهض ديبلوماسيتها بالدفاع عن قضيتها، فما هي قضية اسرائيل، وما هي الرسالة التي تكلف بها ديبلوماسييها على امتداد العالم؟ هذه السطور ليست تحليلاً للديبلوماسية الاسرائيلية، وإنما هي عرض لمقال عن تجربة واحد من مخضرمي الديبلوماسية الاسرائيلية، وهو يبسط محنة اسرائيل ويعرض لأساطير لا نصدق ان هذه الكفاءات الديبلوماسية استهوتها او تعمل في ترويجها. الارتباط بين سياسة الدولة وجهازها الديبلوماسي يقوم على اساس ان الادوات الديبلوماسية واستخدامها لتحقيق اهداف الدولة هي جزء مهم من الاستثمار، ويجب أن تحسب على هذا الاساس. ويشير أبا ايبان، ابو الديبلوماسية الاسرائيلية، في مذكراته الصادرة في لندن في اواخر العام 2001 في مقولة نقلها عن توماس جيفرسون الرئيس الاميركي الشهير، موجهاً حديثه الى وزير خارجيته: "لم نسمع شيئاً من سفيرنا في اسبانيا منذ عامين، وما لم نسمع منه لعام آخر فلنرسل له خطاباً"، ويعني كلام جيفرسون الكثير مقارناً باليوم، يعني قلة الاتصالات بين البعثة والمركز وثبات التعليمات الموجهة الى البعثة وغلبة الطابع التمثيلي للبعثة على الطابع الوظيفي واهتمام الديبلوماسية بالمظهر لا بالجوهر، ويعني اخيراً ان البعثة لم تكن في حاجة الى تعليمات سريعة متلاحقة، أي ان المركز لم يكن في حاجة الى استخدام بعثته احياناً في شكل مكثف في وقت كان التمثيل الديبلوماسي الدائم حديث النشأة. وعلى رغم سرعة وسائل الاتصال والارتفاع الى مستوى القمة متجاوزاً في معظم الاحيان الوظائف الديبلوماسية التقليدية فقد صارت تعليمات المركز التفصيلية قيداً على تحركات البعثات، كما اصبحت البعثات طرفاً في صناعة القرار. يهودا افنير ديبلوماسي مخضرم قضى اكثر من اربعين عاماً في العمل الديبلوماسي الاسرائيلي يروي بنفسه في مقال الجمعة 23/8/2002 في صحيفة "جيروزاليم بوست" مصاعب العمل الديبلوماسي لدولة غير عادية، فهو مطالب بأن يظهر اسرائيل كدولة جذابة وخلاقة مفيدة للعالم وللمنطقة ومسالمة تحترم القانون، وتشرف الغرب بسلوكها وانتمائها الحضاري، لكنه يعلم أنه يمثل دولة شاذة، فهي الدولة الوحيدة في العالم في كل شيء ما جعل الشك والحذر ينعكس في نظرات الدول المضيفة الى ممثليها، فهي الوحيدة التي انشأتها الاممالمتحدة، وهي الوحيدة القائمة على مشروع سياسي صهيوني، ومع ذلك فهي الوحيدة القائمة على الدين اليهودي وتصر عليه ما يجعل العالم غير مرحب بها، وأن هذا الامتعاض وعدم الارتياح من جانب دول العالم يلتقي مع النقائص التي يشعر بها الديبلوماسي الاسرائيلي في اعماقه وشعوره الدائم بالحساسية تجاه العالم واتهامه الجاهز له بأنه يرتكب افعالاً لاسامية ويناهض السامية بطبيعته. ومن مظاهر شذوذ اسرائيل أنها الوحيدة المتحدثة بالعبرية، وليس لها سوى يهود الشتات، وهذا هو السبب، في نظر السفير الاسرائيلي، أن مبعوثي اسرائيل مهتمون بيهود الشتات ويدافعون عن قضاياهم لدرجة ان السفراء الاجانب يسألون السفير الاسرائيلي عن ماهية اليهود هل هم أمة أم ديانة؟ ويقول ان الاجابة تحتاج الى صبر لإخبارهم ان اليهود هم من دون غيرهم امة وديانة في آن واحد. وعندما كان السفير يقدم اوراق اعتماده الى الملكة اليزابيث في انكلترا، العام 1983 فاجأته بقولها إنها لا تستطيع ان تفهم انها المرة الاولى التي تقبل فيها اوراق اعتماد سفير اجنبي مولود في انكلترا كيف ذلك؟ وهنا يعكس السفير الاسطورة التي استقرت في وعيه ووعي قومه عندما اجاب صاحبة الجلالة: "على رغم انني ولدت في انكلترا، فقد ولدت ايضاً في القدس التي نُفي منها اجدادي على يد الرومان منذ ألفي عام"، فانتقلت الملكة بحديثها الى الطقس وهي تتمتم ازاء هذا اللغز: "هل حدث ذلك حقاً، يا لسوء الحظ؟". وعذرها السفير مدعياً أن مآسي التاريخ اليهودي لا يمكن فهمها بسهولة، مردداً اباطيل آبائه: كيف للملكة اليزابيث أن تدرك الرغبة التي لا تقاوم في صدره وهو شاب يقيم في مانشستر ويتحرق لإجلاء الانكليز عن فلسطين حتى تتحرر بلاده. العبارة نفسها كررها شارون وسائر السياسيين الاسرائيليين في مذكراتهم وهي ان اليهود حرروا فلسطين وطنهم من الاستعمار البريطاني متناسين ان العالم كله يعرف ان بريطانيا كانت منتدبة على فلسطين العربية وأنها نفذت المشروع الصهيوني في فلسطين، فكان يجب شكرها لا مهاجمتها. ومن متناقضات اسرائيل انها الدولة الوحيدة التي لا يعترف لها العالم بعاصمة، ولا بحدود ولا بعضوية منظمة تجارية، ولا يعترف لها بشعار منظمتها الطبية كالصليب او الهلال، وليست عضواً في اي مجموعة اقليمية في الاممالمتحدة، ولا امل لها في عضوية مجلس الامن على رغم أن 60 في المئة من جداول اعمال المنظمة الدولية تنشغل بإدانة اسرائيل كل عام. من ناحية اخرى، تعد اسرائيل الوحيدة الشاذة في الاعلام الدولي، هذه الدولة الصغيرة هي الاكثر تغطية من اجهزة الاعلام العالمية، فهي ثاني اكبر مركز عالمي يقصده رجال الاعلام بعد واشنطن، ولم يقل لنا السفير شيئاً عن سبب هذا التكثيف الاعلامي، وهو المجازر والشذوذ في سلوك اسرائيل. واسرائيل ايضاً في ما يقول السفير دولة شاذة من حيث ان احداً لم يصدق "أن تعاد ولادتها من جديد بعد 1900 عام من تشتيت ابنائها ثم تجميعهم في هذا البلد القاحل من اكثر من مئة بلد، وسيظل اهم انجازات الصهيونية انها اعادت تسكين هذه الجماعات اليائسة المقهورة، وجسدت الحق في تقرير المصير لشعب ظل ضحية دائمة للبشرية كلها، فصورة اليهودي الغريب المقهور المشتت التائه تبددت في حرب الاستقلال العام 1948. حيث تحولت صورة الخراف اليهودية المستكينة الى صورة الفدائي البطل الذي قهر اعداءه المرة تلو الاخرى". يقول السفير الاسرائيلي: "إن العالم لا يتعاطف مع تاريخنا ولا يفهم مأساتنا ودلالات بطولتنا. فكثيراً ما يواجه الديبلوماسي الاسرائيلي في برامج التلفزيون الاجنبية بمزاعم سخيفة وادعاءات باطلة حول "المذابح" و"الفظائع" وجرائم الحرب في جنين والاعدامات الشبيهة بمعسكرات الاعتقال النازية، وقوات الصاعقة الاسرائيلية S.S كذلك تتكرر هذه الافتراءات على اسرائيل في حفلات الاستقبال الديبلوماسية، وعلى رغم جهود الديبلوماسيين الاسرائيليين في تفنيد المزاعم ضد اسرائيل لديبلوماسي اجنبي يتحلى بالأدب والذوق والرقة، لكنك تلمح في عينيه ما لا يقال وما يدور في عقله، وهو أن الدولة اليهودية فكرة فاسدة ما كان يجب أن تتحقق. وهذا الذي يدور في ذهن الديبلوماسي الاجنبي هو قمة معاداة السامية، وهو لوم لليهود على اعتزازهم بتاريخهم وحضارتهم، بل الادهى ان بعض نقاد اسرائيل اليوم هم من بين اليهود. توقع فقهاء الصهيونية اواخر القرن 19 وبداية القرن العشرين ان يكون اليهود في دولة خاصة بهم ستندمج في اسرة الاممالمتحدة وان مشكلتهم تنتهي الى الابد، مثلما تنتهي بالتالي معاداة السامية، ولكن صدقت فيهم مقولة بلعام أحد انبيائهم قبل ثلاثة آلاف عام من ان هذا الشعب مكتوب عليه أن يعتمد على نفسه ولن يصبح في عداد الامم الاخرى، وهذا ما يحدث الآن حيث تعتبر اسرة الامم ان اسرائيل ليست عضواً فيها. فهل يعني ذلك تفرد الدور اليهودي من دون سائر الامم، أم أنه فصل جديد في مأساة اليهود عبر التاريخ، هذا ما يزال اليهود يتناقشون حوله حتى الآن؟". ماذا يريد أن يقول الديبلوماسي الاسرائيلي المخضرم الذي خدم في مكاتب خمسة من رؤساء وزراء اسرائيل وقضى قرابة نصف قرن في وظيفته عبر عدد من الدول الرئيسية وكان تلميذا لأبا إيبان وزير خارجية اسرائيل الاشهر؟ لعل القارئ يلحظ الرسالة الخفية، وهي ان اسرائيل تجسيد لدور تاريخي لليهود، وأن شذوذها ضرب من التميز، ولا يهمها أنها منبوذة داخل النفوس والمجتمعات، يكفيها انها نبوءة تاريخية. لكن هذا الديبلوماسي المخضرم يجب أن يدرك ايضاً ان شعب اسرائيل محفوظ مع قدر من المهارة والمثابرة، فهو اختار بلداً تحيطه شعوب مسالمة لها ظروف خاصة، فلو قامت اسرائيل في اي منطقة اخرى في العالم بمواصفاتها وغطرستها وسياساتها وبطشها واحتقارها لكل قيم بالبشر، فإن غالب الظن ان شعوب المنطقة كانت قد اجهزت عليها في اقل من عشر سنوات، ولجعلت حياة شعبها جحيماً لا يطاق. والحق أنه إذا كان يشكو فعلاً من اضطهاد الشعب الاسرائيلي، فبوسعه ان يحقق لاسرائيل كل ما حرمت منه، كما يحقق لها قبولاً عالمياً واقليمياً. عليها فقط ان تنسحب من الاراضي الفلسطينية ليعيش الفلسطينيون الى جانبها وهي ترتع على الاراضي التى اغتصبتها منهم بصرف النظر عن الاوهام التاريخية التي يسوقها السفير. مطلوب منها ان تدرك ان هذه فرصة تاريخية قد لا تستمر طويلاً لان سياسة الابادة التي تنتهجها والسياسة العنصرية التي تتبناها إزاء العرب والمسلمين لا تتفق مع الصورة التي رسمها السفير والتي فهم زملاؤه الديبلوماسيون في كل مكان ان ديبلوماسيي اسرائيل ينشرون الاكاذيب والخداع، والعالم كله يقارن بين اقوالها وافعالها. يبدو ان السفير وشعبه سعداء بهذا الدور الذي يكرس الأحقاد عليهم، وإذا كانوا يشعرون بالفخر بهذا الدور وانهم ضحية تميزهم، فإن القضية كلها في حاجة الى مراجعة معهم لعلاج ما اختل تاريخياً في حساباتهم. * كاتب مصري.