كانت صناعة الحروب في حوليات القرن الماضي تتم بالسر وبالتخطيط الصامت، لتندلع الحروب فجأة من خلال استغلال طارئ عابر او افتعال خلاف محلي. اما الصناعة الحديثة للحروب فتتم في هذا القرن في وضح النهار وبصراحة وقحة، وبتخطيط ناطق غطاؤه الافتراء والاكاذيب، مع الاستخفاف بالرأي العام العالمي الذي اتاحت له التقنية الحديثة وتطور وسائل الاتصالات العامة ان لا يبقى صامتاً وبعيداً من الاحداث المفتعلة. الصناعة تعني الاقتصاد والمال والتطور الحضاري. اما صناعة الحرب فتعني أيضاً إنعاش الاقتصاد وتدفق المال، إنما تقدم ايضاً الخراب والدمار للشعوب، سالبة الثروات الطبيعية من نفط ومعادن ومياه من اصحابها الشرعيين. وتشاء الظروف الدولية عقب الحرب العالمية الثانية ان تزدهر صناعة الحروب الاقليمية لأنها تبقى بعيدة على القطب او الاقطاب اصحاب اللعبة، في حين ان الحروب العالمية تطاول هذه الاقطاب، ولذا تبتعد منها ولا تخطط لها. ولصناعة الحرب وجه مادي يحمل قناعة تجار السلاح في العالم، ووجه اقتصادي يحمل لصانع الحرب ازدهاراً يقوم على خراب ودمار وقتل الشعوب في المنازعات الاقليمية المخطط لها. ويلي الخراب والدمار، استجداء الضحية لترميم ما قضت عليه الحرب، وهذا ما تم في لبنان سابقاً ويتم في افغانستان اليوم. ولصناعة الحرب، بعد جغرافي يحمل الى مخططها السيطرة والتسلط على الشعوب، خصوصاً اذا كانت تعيش في المناطق الاستراتيجية من الكرة الارضية... وبلدان الشرق العربي خير مثال على ذلك. واذا تابعنا نصف القرن الاخير الذي يلي الحرب العالمية الثانية، نجد ان هذه المنازعات الاقليمية التي تتالى في العالمين القديم والجديد، تحظى غالباً بتداخل غير مباشر من القوى العظمى التي تسعى ظاهراً لاطفائها، انما تسمح لها ان تتزود بالمال والسلاح من اجل استمرارها وبقائها. والحرب العراقية - الايرانية في اول الثمانينات من القرن المنصرم، خير مثال لهذا الصراع المصطنع المخطط له والذي تداخل فيه غباء سياسي اقليمي، فأطلق حرباً قضت على طاقة الشعبين على مدى ثمانية اعوام، ولم تسمح القوى العظمى بايقافها الا حين ارادت ذلك. وقد كانت الولاياتالمتحدة الاميركية تسمح ان يتزود العراق بالعتاد والسلاح، وكانت اسرائىل تغذي ايران بما دمرته الحرب من سلاح. وازدهرت مصانع الاسلحة التي تبيع للطرفين المتنازعين في وقت واحد. وصناعة الحرب تستخدم شعوب العالم الثالث واسطة لازدهار معامل العتاد الحربي التي تبيع ببلايين الدولارات اسلحة من شتى الانواع في الوقت الذي يمكن ان لا تسمح القوى العظمى باستعمالها حين الحاجة اليها... وقد انفقت دول عربية وغير عربية بلايين الدولارات في التسلح الا ان الولاياتالمتحدة تفرض قرار استعمالها في الوجهة التي تتوافق مع مصالحها. والغاية القريبة من صناعة الحرب بيع السلاح اولاً وتجريبه ثانياً في حروب مصطنعة، وهذا يعني استهلاكه وتدميره، وبالتالي الحاجة الى شراء ما يعوضه ثانية ما يسمح لمصانع السلاح ان تستمر في الانتاج مع التطوير عقب التجربة. والطريف ان الولاياتالمتحدة الاميركية، القطب العالمي الوحيد في القرن الجديد، تتدخل في اكثر الصراعات الاقليمية لتأخذ دور الوسيط، فإذا كانت لها مصلحة في الصراع، تظاهرت بأنها تعمل على انهائه، الا انها تسعى من وراء الستار الى بقاء الصراع بغية ابتزازه ما امكن، على نحو ما وقع في السودان اخيراً حيث تم احتلال المركز الاستراتيجي توريت من قبل قوات العقيد قرنق الانفصالية، بعد ان تم الاتفاق ظاهرياً على تسوية الصراع، ما دعا الحكومة السودانية لاستعادة نشاطها العسكري. حرب الخليج الثانية عام 1991 خططتها الولاياتالمتحدة اذ اعطت الضوء الاخضر للرئىس العراقي صدام حسين لاحتلال الكويت بلسان سفيرتها المعتمدة في بغداد، لتطلب منه الانسحاب في ما بعد، وكانت الحرب وبالاً على الاقطار العربية المحيطة، وهي رسخت اقدام الولاياتالمتحدة في الخليج الى اجل غير مسمى. وبعد ان ضمنت الولاياتالمتحدة الحضور في الخليج حيث لها قواعد عسكرية، وبعد ان وضعت يدها على افغانستان لتجاور عن قرب نفط بحر قزوين، فإنها الآن متجهة الى العراق لتسيطر على قسم مهم من الاحتياطي العالمي للنفط. والحجة الكاذبة هي امتلاك العراق اسلحة الدمار الشامل التي تحتكرها لنفسها بالاشتراك مع اسرائىل، في هذا العالم الذي زرعت فيه كل اوجه التناقض في مفاهيم الانسانية والديموقراطية وحرية الشعوب، من خلال ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين، واحد لها ولاسرائىل وواحد لغيرها تستعمل فيه كل تمويه وتضليل، والصراع العربي - الاسرائىلي نموذج لهذا التناقض. وما نستعرضه في هذه السطور ليس بعيداً من الرأي العام العالمي، وقد استقبلت برلين الرئىس الاميركي جورج دبليو بوش بيافطات كتب عليها ما معناه "تريدون النفط وليس العراق"، او ما قرأناه في الايام الاخيرة في شعارات تظاهرات في واشنطن ضد الحرب المخططة: لا للدم لأجل النفط No Blood For Oil. في اوائل القرن المنصرم، عام 1916 تم تقاسم الشرق الاوسط بين انكلترا وفرنسا من خلال اتفاق سايس بيكو، وانتهت الحرب عام 1918 ونفذ الاتفاق كاملاً في صمت وهدوء، اذ لم يكن العالم يعرف الاذاعات والتلفزيون والاقنية الفضائىة والاعلام السريع الخاطف. وفي عام 2002، وضعت خريطة جديدة للشرق الاوسط من محور تل ابيب وواشنطن، الا ان التقنية الحديثة والاعلام المرئي والمسموع ووسائل الاتصال السريع وتضارب المصالح بين اوروبا وأميركا لا تسمح بتطبيقها في صمت، وقد يعطلها ذلك ويربك تنفيذها، وهذا ما وجه الولاياتالمتحدة الاميركية، مشحونة من اسرائىل، التي زرعت في الشرق العربي لتأمين عدم استقرار دائم، لاستعمال القوة لتطبيق الخريطة. ويخطط محور تل ابيب وواشنطن الى حرب مع العراق كمرحلة اولى من تطبيق سايس بيكو جديد في هذا القرن الجديد. اوجد الاستعمار القديم اسرائىل لتأمين عدم استقرار دائم من خلال حروب مصطنعة في فترات متباعدة لتفرض على جوارها من البلدان العربية التسلح الدائم لهدر طاقات العرب المادية ومنعهم من إقامة حضارة متطورة. وتسعى صناعة الحرب الى تدمير هذا السلاح في شكل دوري، كي يعمل العرب على شراء سلاح جديد. * كاتب. استاذ في كلية الطب في جامعة دمشق.