مطلع النصف الثاني من هذا القرن بدأت الحقبة المصرية، أو بعبارة أخرى حقبة التيار القومي بتوجهاته الناصرية، وتزامن هذا التيار مع ميلاد حركة عدم الانحياز وحركة التحرر الافريقية وحركة الاستقلال. واستطاعت هذه الحقبة صياغة المجتمع العربي وبلورة توجهاته وتطلعات شعوب المنطقة، وتحديد الأهداف العليا للأمة وخلق وعي عربي عام بأهمية الأمة والمنطقة وشعوبها. هذه الحقبة المضيئة، برغم ما فيها من ايجابيات كثيرة وسلبيات ناتجة عن عامل الوقت، كانت بداية النهاية لها هي حرب الأيام الستة عام 1967 التي خلفت وراءها شعوراً مريراً بالاحباط والهزيمة. ومع وضع سلطان الزمان في الاعتبار نرى أن الآليات كانت وقتئذ أقل قدرة من نبل المقاصد وشرعيتها. إلا أنها رغم كل هذا خلفت جذوة مضيئة متقدة وسط تل من رماد الهزيمة وركامها. الحقبة الثانية كانت حقبة النفط الخليجية، مع دور رائد للسعودية. بدأها الراحل العظيم الملك فيصل مع فجر معركة العبور وكسر الحاجز النفسي في تشرين الأول اكتوبر 1973، وتصاعدت بعد موته في النصف الثاني من السبعينات. في هذه الحقبة ظهر أن العالم العربي كقوة اقتصادية مؤثرة، بقليل من نقاط الحد الأدنى من التضامن والتخطيط، يستطيع أن يربك خطط قوى كونية كبرى بيننا وبينها قرون من التجارب المعرفية والعلمية ورسوخ كيان الدولة وانصهار المجتمع. بيروت كرئة اقتصادية حرة ومركز إشعاع ديموقراطي ومجتمع خدمات مصرفي متقدم، ضُربت وبصورة مخطط لها في وقت كان فائض الأموال العربية لعائدات النفط - نتيجة لارتفاع أسعارها عندما دخل النفط سلاحاً اضافياً في معركة العبور - في حاجة ماسة لبيروت ومصارفها وكوادرها المصرفية لإعادة تدويره بصورة تجعل التنمية والأسواق، والمال العربي، أدوات اضافية لتحقيق ما تريده السياسة وتخطط له. المصارف الأميركية وحدها أصبحت مأوى فائض رأس المال العربي مع نهاية السبعينات، ولا تزال. وأذكر قولاً مشهوراً لكسينجر: "حسناً فعلنا فقد أصبح المودعون لدينا رهائن بما يودعون، والدائنون منا رهائن بما يستدينون"... ولم يكن هذا كل شيء... ففي حرب العراق وايران خسر العالم العربي مئة وخمسين بليون دولار، وفي حرب تحرير الكويت خسر مئتي بليون أخرى. وفي سباق التسلح انفق العالم العربي خلال عقدين فقط مئتي بليون أخرى مرشحة للزيادة في وقت تسارع التطور الالكتروني والتقني بصورة أصبح كل سلاح نشتريه مادة آيلة الى المتاحف بعد عقد واحد من الزمان حتى وان لم يستعمل أو تستكمل المقدرة الاستيعابية الكاملة له - وبيننا - والحمد لله - ذوو مقدرة يحسدهم عليها الشيطان نفسه على تنفيذ مخطط الاستنزاف المستمر للثروة، حتى أصبحنا كلنا، فقراؤها وأغنياؤنا، أمة تثقل كاهلها الديون وميزانيات مصابة بالعجز وما يتبعه من تضخم وبطالة وتوتر وعنف اجتماعي يهدد نسيج المجتمع بالتمزق وبعض الدول القائمة بالتفتت وربما بالتلاشي. على مشارف القرن الجديد بدأت بداية النهاية للحقبة النفطية، وتأثيراتها السياسية في مجريات الأحداث في المنطقة، بعدما أصيب التضامن العربي القومي في مقتل وأصبح الهم الأكبر ان يحافظ العرب على وحدة الدولة القطرية ذاتها التي لم تكن موضع سؤال أو تساؤل قبل عقدين فقط. العولمة، والبيئة، وحقوق الانسان، والدمقرطة، كثقافة كونية جديدة سائدة أصبحت تضغط على كاهل العرب، ما يدعوهم الى إعادة النظر في سياساتهم وخططهم الداخلية، واستراتيجياتهم على المستوى العالمي والاقليمي. فحربا الخليج الأولى والثانية قللتا من المستوى الاستراتيجي للخليج العربي، واستبدلتاه بالبحر الأحمر كشريان حيوي للطاقة والتجارة مع العالم. وقد أخذت سياسات القوى العظمى هذا المنحى بكل ما جرّه من آثار على الدول المطلة على البحر الأحمر والحاكمة للمضائق الحيوية لمفاتيحه الشمالية والجنوبية. الحلقة الباسيفيكية، ومنطقة بحر قزوين والقارة الافريقية كمناطق صناعة واستهلاك وموارد، أصبحت في قمة سلم الأولويات للدول الصناعية الكبرى والامبراطوريات القديمة أو تلك التي في طور التشكل والتخلق. ما يهمنا في هذا المجال هو القرن الافريقي بدوله الخمس - السودان، اثيوبيا، اريتريا، الصومال، وجيبوتي - وهي كتلة بشرية فيها أكثر من مئة مليون مواطن، 90 في المئة منهم ذوو أصول سامية، ومساحة أرضية تعادل خمس القارة الافريقية، تتحكم بأهم شواطئ البحر الأحمر ومعابره المئة وأهم الأنهار والموارد الزراعية على مستوى القارة. كل ذلك يجعلها عرضة لاهتمام القوى الكبرى القديمة منها والحديثة والقوى الاقليمية النامية. فرنسا موجودة في جيبوتي، ولايطاليا إرث ثقافي عريق في الصومال واريتريا، والمجموعة الانغلوساكسونية لديها تراث ثقافي وإداري في كل من السودان واثيوبيا، واسرائيل بالوكالة أو بالأصالة تشعر بأن باب المندب داخل الحلقة الأولى لأمنها الاستراتيجي وخطوط امدادها. الدراسات المتاحة والمصنفة لمراكز الأقمار الصناعية والاستشعار عن بعد أكدت وتؤكد منذ منتصف السبعينات ان القاطع الممتد من باب المندب عبر الهضبة الاثيوبية وكل السهول الوسطى للسودان وشمال تشاد وقطاع أوزو والجزء الجنوبي من أرض الجماهيرية الليبية، هو أغنى المناطق الافريقية بالنفط والغاز والمعادن الحيوية الأخرى ذات الأهمية الاستراتيجية كالذهب والنحاس والكروم واليورانيوم وخام المنغينيز وغيرها... بل ان آبار النفط السودانية في أبو جابرة وهجليج وحقل بانتيو، اضافة الى حقل الغاز العملاق في جبال البحرالأحمر لا تعدو أن تكون سوى أطراف لهذا الحقل العملاق. ثمة محاولات مستمرة من كل وزارات الخارجية الغربية لوضع السودان في دائرة شرق افريقيا أو القرن الافريقي، والسفور الأميركي خلال السنين الأخيرة لوضع السودان داخل هذه الدائرة وموقف الانتظار الذي تلزمه الولاياتالمتحدة لخطط تقسيم السودان التي تقودها طموحات ذاتية لبعض لوردات الحرب في الجنوب السوداني وكارتيلات ومصالح ومجموعات ضغط ومحاولات ابعاده بشتى الوسائل عن عمقه الاستراتيجي - الديموغرافي والثقافي - في مصر... ليست سوى جزء يسير مما ذكر. ففي غياب قيام الكيان الاقتصادي للقرن الافريقي، يكون المشروع البديل قيام كيان آخر له المواصفات ومكامن القوة نفسها من البحيرات في عمق القارة الافريقية الى البحر الأبيض. وله الموارد المائية والزراعية نفسها، لذلك له سيطرة على نصف الشاطئ الغربي للبحر الأحمر وممراته الاستراتيجية الحاكمة، فالسودان ومصر معاً يحكمان أكثر من مئة ممر، وبينهما وحدة أخرى من التجانس الحضاري التاريخي والثقافي. المشروع الأول، بداية لعهد الدولة والكيانات الاثنية الغالبة، والمشروع الثاني بداية لمشروع الدولة الأمة وامتداد للدولة القومية. وتدعمه عوامل منعة مضافة الى وجوده في القلب أو المركز بحيث يصبح السودان الاستوائي عمقاً له في منطقة البحيرات، والسودان الغربي شمال دارفور عمقاً له في تشاد ومناطق طريق الحج القديم والبجا في الشرق والأنواك في الجنوب الشرقي عمقاً له من الهضبة الاثيوبية والسهول الاريترية... وكلها عوامل إثراء إذا أحسنت السياسة المدروسة التعامل معها لترويض تناقضاتها ونزع بؤر التوتر المفتعل فيها والافادة من تناقضات القوى المتصارعة عليها في مواءمة ليست سهلة بين الممكن والمطلوب. على هذا المسرح العريض لاعبون كُثر في الساحة الداخلية والساحة الاقليمية بالوكالة. لا تكاد احدى بؤر التوتر تنطفئ حتى تشتعل الأخرى، يزكيها حكم النخب في تحالفها مع البيروقراطيات العاجزة والعسكريتاريا، وارستقراطيتها الناشئة التي أنهت دور المجتمع في الريادة، وأزكت نيران الغبن الاجتماعي وأوقفت عجلة التنمية وزادت تعرية الموارد، البشرية منها بالهجرة وإعادة التوطين في مجتمعات بعيدة وغربية ونائية، والطبيعية بتآكل التربة والتعرية بعوامل بيئية بعضها طبيعي وبعضها مصطنع. مصر بدأ عزلها منذ عهد محمد علي من امتدادها الاستراتيجي سواء بخطط نابليون بعد الثورة الفرنسية لانشاء دولة لليهود في فلسطين أو الخطط البريطانية اللاحقة بمساندة تركية من الباب العالي لمحاصرة مشروع محمد علي ومنعه من اقامة دولة تصبح دمشق بماضيها وبريقها الأموي حاضرة لها تنهي بها الرجل المريض المتربص به من الامبراطوريات القديمة في اسطنبول، وترثه. ويجري التخطيط الآن لعزلها عن عمقها في الجنوب. نهاية كل قرن، الثامن عشر وحلم نابليون الشرقي، والتاسع عشر ومؤتمر برلين وإعادة فتح السودان، والعشرون والصراع بين الكيان الاقتصادي للقرن الافريقي وربما الكونفيديرالية وبداية حلم الحقبة النيلية وايجاده على أرض الواقع كانت تشهد أحداثاً ومؤشرات لو أحسنت قراءتها ومعرفة اتجاهات تياراتها من أولي الأمر والدارسين لأمكن تجنب الكثير مما آلت اليه الأحوال اليوم. موازين القوى المتصارعة للسيطرة على المنطقة وإعادة تشكيل التكتلات فيها، لا تسمح بحسم الصراع لمصلحة جهة ماء، سواء كانت هذه الجهة القطب الأوحد في عالم اليوم أو الامبراطوريات القديمة التي بدأت في التكتل وإعادة قراءة حسابات المصالح مدعومة بتأثير اقتصادي وثقافي لا تزال بصماته واضحة في المنطقة. اضافة الى أن المسرح الداخلي لدول المنطقة ليس مهيئاً بعد لاستحالة كاملة تحسم صراع المصالح لأحد المتربصين لتقاطع الخطوط وتشابك الدوائر بصورة تجعل للانتصار ثمناً أكثر وأكبر من المردود أو المرتجى. في هذا بلا شك مصلحة للعرب، ولوقفة مع النفس ومراجعة، فيما هم يطلون على مشهد كامل للواقع الذي تفصل بينهم وبينه خطوة واحدة أو خطوات قليلة، لكي يتبينوا كيف وصلت بهم الحوادث الى هنا. فمن الضروري في أعقاب أي حقبة تاريخية ان يعرفوا الى أين وصلوا وما هي احتمالات المسار الجديد. "الحقبة النيلية" ليست حلماً، ولا هي مجرد أمنية تفرضها عواطف لا موضوعية، انها حقيقة تمكن رؤيتها مجسمة. ولكي تصبح واقعاً علينا: أولاً: نبذ الإرث القديم وتجديد الفكر والتطلعات وعدم التخفي وراء شعارات عاطفية جوفاء مكانها المتاحف. ثانياً: تحرير الانسان من كل مكبلات الحرية، وإعادة قيمته وكرامته وصيانتها، حتى لا يصبح شخصية مشوهة متوجسة لا تحسن إبداعاً ولا مبادرة. ثالثاً: العمل المستمر لتوسيع حلقات المجتمع المدني والأهلي لتأخذ مكان الريادة والقيادة تدريجاً، حتى لا يصبح الواقع عربة تقود الأحصنة. رابعاً: ان تتمتع الدولة بمقدار من الشفافية، يسمح برؤية ما في داخلها، لتخفيف عوامل الغبن والعنف الاجتماعيين، فبدون هذا لا تنمية ولا استقرار، كما أن بؤر التوتر يصبح من السهل اشعالها وتفجيرها. خامساً: مؤسسية القرار المركبة ضمان لتقليص مصالح النخب وتغليب مصالح الدولة وقيم المجتمع السائدة. سادساً: إعادة الاعتبار الى دور العلم ومراكز الدراسات وإعادة الاعتبار الى المثقف كجزء من جهاز التنظير لمجموعة المصالح والقيم بدلاً من النظر اليه كجزء من بؤر التوتر الاجتماعي. سابعاً: هدأة مع النفس لمراجعة التاريخ. ومناقشة ما كنا نعتبره "مقدسات" أو "محرمات" من دون حساسية أو تعالٍ أو مكابرة.