حين اكتشف الأوروبيون ابن سينا باكراً، درسوا فلسفته وعلومه الطبية واطلعوا على ما ألف فيه من علوم إلهية وما إلى ذلك، لكنهم سهوا عن جانب أساس من فكره، هو الجانب العملي والسياسي ولا سيما منه المتعلق بالادارة والدولة وتدبير الشؤون المنزلية، بوصف ذلك التدبير مدخلاً لشؤون السلطة والحكم. ومن هنا حين كتب اتيان جيلسون عن ابن سينا قائلاً: "إن اسم ابن سينا مألوف لدى جميع الفلاسفة المسيحيين في القرن الثالث عشر" ولئن عدوّه خصماً، فهو خصم جدير بالاحترام لقوته بالذات، ولا بد من ان يحسب له حسابه، وفي الواقع انه واحد من أكبر الأسماء في الفلسفة"، حين كتب جيلسون هذا لم يكن في إمكانه ان يجعل تلك الفلسفة تشتمل فلسفة الحكم والسياسة والتدبير. ومع هذا كان ابن سينا مجلياً في هذه المجالات، حتى وإن لم يرقَ في اهتمامه الى مستوى الفارابي، ذلك المفكر المسلم الآخر الذي ارتبط اسمه به دائماً. بل ان الباحث السوفياتي آرثور سعداييف يقول ان ابن سينا لم يكن "معنياً مباشرة بصوغ العلوم العملية، التي أولاها سالفه ابو النصر الفارابي اهتماماً كبيراً. لكن الشيخ الرئيس ابن سينا يفترق عن الفارابي بأنه انخرط انخراطاً نشيطاً في الشؤون الحكومية والسياسية، ولو كان ذلك على مضض منه، بحيث يتعذّر رد عدم اهتمامه بالعلوم العملية الى أسباب شخصية، ذات صلة بدائرة اهتماماته وتوجهاته الذاتية...". ومهما كان شأن هذا كله، فإن ابن سينا ترك لنا الكثير من الآراء السياسية، المباشرة أو غير المباشرة، موزّعة في كل كتبه تقريباً، ولا سيما في "الشفاء" و"النجاة"، ولكنه خص السياسة العملية أو الحكمة العملية، أو "السياسة" في كل اختصار بكتابين هما: "كتاب العهد" و"كتاب علم الأخلاق". أما الكتاب الأساس في هذا المجال، فهو الكتاب الذي وضعه في "السياسة المنزلية" وسمّاه "كتاب السياسة"، ذلك ان ابن سينا كان يرى، مبكراً، ان السياسة الكبرى لا تصنع الا انطلاقاً من السياسة الصغرى. ومن هنا نراه يهتم كل هذا الاهتمام بالجانب الأولى من السياسة الجانب العملي المرتبط بالمواطن مباشرة. وانطلاقاً من "كتاب السياسة" هذا، وفي التفات الى الكثير من الشذرات والكتب العملية الأخرى التي تركها ابن سينا، يلخص الباحثون ومن بينهم الأب يوحنا قمير آراء ابن سينا في فروع العلوم السياسية بحسب تصنيفه وهي: الأخلاقية والمنزلية والمدنية على الشكل الآتي: السياسة الأخلاقية التي ترتبط بسعي الانسان للوصول الى الكمال في اكتساب العلم والفضيلة، حيث ان أصول الفضائل أربعة: العفة والشجاعة والحكمة والعدالة... وتتفرع من هذه الأصول فضائل عدة أخرى - السياسة المنزلية، حيث ان الانسان يحتاج الى قوت يبقي به شخصه، ومنزل يخزن فيه ما يقتنيه، وزوج تحرس وتدبر، و"بالزواج يكون الولد، وتكون الحاجة الى الخدم"، ومن ثم تكون سياسة الرجل مرتبطة بنفسه وماله وزوجه وولده وخدمه -. أما في مجال السياسة المدنية فيرى إبن سينا "ان الاجتماع ضروري لضرورة التعاون بين الناس. واذا كان الاجتماع كانت المدينة، وكانت الحاجة الى نبيّ يضع السنن، ثم الى خليفة يرعاها". وفي هذا الاطار يسهب ابن سينا قائلاً: "إن الله خلق الناس متفاضلين في عقولهم وآرائهم، متفاوتين في أملاكهم ورتبهم وذلك لئلا يفنيهم التنافس والتحاسد، وكي يبقى سبيل للخدمة والترافد". ويفسر الباحث سعداييف هذا بقوله ان المذهب السياسي السينوي يقوم "على التفاوت الطبيعي بين الناس، وهو تفاوت يرده ابن سينا الى موضوعة نزوع الكل نحو الوجود: لو كان الناس كلهم ملوكاً اغنياء لتفانوا عن آخرهم، نظراً للتنافس والتحاسد، ولو كانوا كلهم "سوقة" أو استووا في الفقر، لماتوا ضراً وهلكوا بؤساً. ولذا كان على كل منهم ان يقنع بما هو عليه: على الغني ان يعرف ان ثروته تعوِّض، إلى حد ما، عن العقل الذي عدمه" وذو الأدب المعدم، اذا تفقد حال الثري الجاهل، لم يشك في ان فضِّل عليه وقُدِّم دونه، حيث يقول ابن سينا: ذو الصناعة، التي تعود عليه بما يمسك رمقه، لا يضبط ذا السلطان العريض، ولا ذا الملك المديد". وفي هذا الإطار يرى ابن سينا ان أمور المجتمع تسير على النحو المطلوب بفضل تقسيم العمل بين المدبّرين الحكام والحفظة الجند - الحراس، بالمعنى الافلاطوني للكلمة والصنّاع. وبنية المجتمع - بحسب فهم سعداييف لآراء ابن سينا - يجب ان تكون هرمية، يحتل قاعدتها العبيد وهنا يستند ابن سينا، بحسب سعداييف، الى دور العامل الجغرافي. فهو يعلن الترك والزنج وأمثالهم "عبيداً بالطبع". والعمل النافع للمجتمع يكون حقاً على كل مواطن. أما الأشخاص غير القادرين على العمل، أو الذين لا يشتغلون بصنعة كالحفظة فتؤمن لهم الدولة معيشتهم، وذلك من أموال الخزينة، التي تردها في صورة ضرائب على الأملاك والمداخيل، أو غرامات مفروضة على أصحاب الجنايات، كاللصوص ولاعبي القمار، أو غنائم. ولنلاحظ هنا كيف ان ابن سينا يولي الزواج والحياة المنزلية أهمية اجتماعية خاصة، حيث يؤكد لنا ان السّان المشترع، أو النبي، عليه ان يدعو الى التزاوج لأن فيه بقاء النسل، ويحرّم الزنى لأنه قد يغني عن الزواج، ويجب ان يقع الزواج وقوعاً ظاهراً كي يسلم النسب من الريب والمواريث من الخلل. ثم "يجب ان يكون الزواج ثابتاً، فلا يشتت شمل الأولاد والوالدين". وعليه "لا تعطى المرأة حق الفرقة، بل تعطى حق اللجوء الى الحكام ليقرروها، ويفرض على الرجل، إن أراد الفرقة، غرامة". ويعرف ابن سينا، هنا "سياسة الرجل لنفسه" بأنها تقوم على مبدأ ان "على الانسان ان يعرف مساوئه، مستعيناً بأخ لبيب مرادٍ، مستهدياً بما يخبره من أخلاق الغير، معاقباً نفسه على المعصية، مثيباً على الطاعة". ويؤكد ابن سينا هنا ان "أحوج الناس الى معرفة عيوبهم الرؤساء، لاسترسالهم في الأهواء، ولأن العدو يرهب تعبيرهم، والصديق نصيحتهم والمداهن يغدق عليهم الثناء الكاذب". واذ يقول ابن سينا ان "السانّ يأمر الأهل بتربية الأولاد والأولاد بخدمة الأهل وإكبارهم"، يؤكد ان "خليفة السانّ عليه معرفة الشريعة، وعليه ان يجمع بين العقل والاخلاق وحسن السياسة" وعليه "ان يدعو الى ممارسة الفضائل ويقاتل اعداء السنّة ويفرض الاعياد. وهو ايضاً يفرض العدالة في المعاملات ويعاقب المخالفين، وعليه ان يعتدل في المزاج، ولا يتشدد ولا يتساهل". ومن الواضح هنا ان اهتمام ابن سينا بالسياسة والتدبير وبالحكمة العملية، لم يأت لديه من خلال تأمل فكري بحت، أو غوص في النزوع الفلسفي، بل من خلال تجربة معاشة، جعلته، لمراحل متفرقة من حياته يعيش في خضم اللعبة السياسية. فابن سينا، المولود العام 980 م. 370 ه. والراحل في العام 1036 428 ه.، ولد في بيت علم وجاه، ما جعله في احتكاك بشؤون الحكم والتدبير باكراً. ثم ازداد هذا الاحتكاك حين قيض له، إذ مرض نوح بن منصور، حاكم بخارى، ان يعالجه ويشفيه، ليجد نفسه داخل البلاط، محيطاً بالحاكم. ثم لما مات أبوه وهو في الثامنة عشرة، رحل عن بخارى و"جدّ يبحث عن أمير يقدره"، وينتهي به المطاف، بعد مساع طويلة، الى بلاط شمس الدولة، أمير همدان. وأصبح وزيره بعدما شفاه هو الآخر من مرض عسير. وصار "في ظله يقوم بأعباء الوزارة نهاراً، ويقبل على العلم والشراب ليلاً. وحين مات شمس الدولة، انتقل ابن سينا ليضع نفسه في خدمة علاء الدولة أمير أصفهان. وهو ظل هناك حتى مات، وفيها وضع أهم كتبه، ولا سيما ما يتعلق منها بالسياسة. ابراهيم العريس