من عناصر الافتراق في منحنيات القول السياسي في لبنان ما يتصل مباشرة بتعريف الثوابت. فما يُشهَر من مطاعن على المعارضة يرد في باب الانتصار للثوابت وتنكب الدفاع عنها ليس باعتبارها من أدوات اشتغال السياسة ونتائجها واسبابها في آن، بل بتقديمها كأصل واحد تصدر عنه هوية متوهمة للجماعة السياسية والاهلية التي ينطق بمصالحها لسان حراس الثوابت. وبتقديم الثوابت على هذا النحو ينزع الخطاب اللبناني المأذون له سورياً الى استدخال مكونات السياسة، وصفتها المرونة والحراك، في مكونات الهوية، وصفتها الاستعصاء والممانعة، لينتج عن ذلك آلية متراصة وارء تعطيل السجال والامساك عنه. هكذا يصير سجال اللبنانيين اجوبة لا اسئلة كما يفترض جوهر السجال، في حين يصير السؤال انقلاباً على الثوابت وتهديداً للهوية والموقع "الوطنيين" من غير ان يفطن حماة الموقعين الاخيرين الى كون الثابت الوحيد في عالم اليوم أنه متغير. وعبر هذا الآلية لا ينهض سؤال في السياسة الا ليسقط في فخ الهوية مقدماً احتمالات المنازعة العنفية على المنازعة المؤسساتية نتيجة تغييب الادوات الديموقراطية الفاعلة والكفيلة بامتصاص العنف المباشر، لتصريفه في قنوات الجسم السياسي للدولة. واذا صح ذلك، وهو صحيح، فتمتين الصلة بين السياسة والهوية في بلد متعدد كلبنان لا ينفي السياسة الا بمقدار تعريته لهشاشة الثوابت - الهوية وعبرها هشاشة الدولة المنذروة للثوابت الموصوفة تبعاً للموازير السورية للعروبة. فكيف تكون الثوابت ثابتة بالمعنى المعجمي على الاقل ولا يستتبب نقاش او سجال الا يتنطح من يؤرّقنا سهراً على حساسيتها من الاهتزاز؟ وعلى ثوابت مفرطة في حساسيتها كهذه لا يؤمل الا الافضاء الى دولة عرضة للتفكك كلما علا صوت السياسة. فبين الثوابت الحساسة والدولة الهشة يضيق حيز الاختلاف بما هو شرط للسياسة، في مقابل اتساع حيز التخوين. هكذا لا يخلص نقاش حول جدوى المقاومة "الشبعاوية" الا الى تحريم السؤال اصلا باعتبار السائل يقدم خدمة مجانية للعدو تهدم ركنا من اركان السلم الاهلي في البلد. ومثل هذا التحريم يطال السؤال عن عدم ارسال الجيش الى الجنوب باعتباره يهدد ثابتا آخر هو عروبة الجيش الذي لن يكون حارسا لاسرائيل كما يفيد الفهم السوري للعروبة على الجبهة الجنوبية للبنان. ويبلغ الرهاب منتهى ذراه حين يطال السؤال العلاقة اللبنانية السورية وينحو صوت الاعتراض نحو المطالبة بتصويب اعطالها العديدة. حينذاك يتنطح حماة الثوابت الى ربط دافع الاعتراض برغبات الخارج العدائي الذي يتحين الفرص للقضاء على انظمة المنطقة بعد ان احسنت الاخيرة، وهي في الطريق الى القدس، القضاء على شعوبها. فلا دافع للاعتراض على العلاقة اللبنانية السورية الا الارتباط بالخارج ورغباته، ولا مناص من ربط هذا المطلب بفعل الاستهداف الذي يقيم عليه الغرب فيما نقيم نحن، دولا وحكومات وشعوباً، على التصدي. وبما ان الثوابت تبدو اوثق صلة بسياسات لبنان الخارجية وعلاقاته، يسهل جعل الاعتراض عليها خارجي المصدر والتحريض، اي بابراء حد الاعتراض مما يكتنفه من عوامل داخلية هي نتاج احتكام اللبنانيين الى سؤال عيشهم المشترك. وليس من باب الصدفة ألاّ يحضر طيف لبنان في الاعلام العربي لا سيما التلفزيوني الفضائي منه الا بما يربطه بالمقاومة وسورية واسرائيل، حتى ليغدو وكأنه دولة خارج لا داخل لها على غرار ما هي معظم الدول العربية كما يلاحظ حازم صاغيّة. وبما ان الثوابت خارجية مرة أخرى وعلى نحو قاهر، يبدو اللبنانيون وهم يسلكون مسالك السياسة عرضة لامتحان الانتساب الى البلد من باب سياسته الخارجية فقط. فهم اهل داخل بمنسوب اقرارهم بالسياسة الخارجية والا فهم أهل خارج وخروج على الدولة. واذ رافق مثل هذا المعطى مسيرة تكون لبنان واستتبابه وطناً لابنائه جعلته الادراة السورية منذ استئثارها بدفة البلاد عقب حرب الخليج الثانية المعطى الوحيد وراحت تسحب القول السياسي برمته من هوامش الداخل الى متن الخارج الذي انتصبت عليه حكماً ومقرراً. وبذهابها هذا المذهب فاقمت تعسير القول السياسي خارج ثنائية الاخلاص والخيانة، وبددت مباني السياسة في معرض تعريب البلد حتى صار اختلاف اللبنانيين باهظاً ولا طاقة لأحد على احتماله.