صدور مجموعة شعرية جديدة للشاعر السوري عبدالقادر الحصني، حدث له وقعه الخاص والمميز في الوسط الثقافي، بالقدر الذي حملته تجربته من خصوصية وتفرّد، في ساحة شعرية تمور بالكثير من الغث، ومن قليل الأهمية، وبالذات لأن الحصني عوّدنا خلال ربع قرن ونيّف على ندرة الاصدارات، حتى انه لم يصدر منذ مجموعته الأولى "بالنار على جسد غيمة" 1976، سوى مجموعتين فقط: "الشجرة وعشق آخر" و"ماء الياقوت" في عامي 1980 و1994 على التوالي، قبل أن يصدر مجموعته الجديدة والرابعة "ينام في الأيقونة". "ينام في الأيقونة" منشورات دار الكنوز الأدبية - بيروت تعلن منذ قصيدتها الأولى "المغني"، شهوة الشعر الى ما هو جديد: "كأن الكلام انتهى كأن المفاتيح ضوء غشيمٌ وأقفالها السود ليست لها كأن الذي لم يقل بعدُ قد قيل من قبل حتى تجيء السوابق من كل قول وخيل وليل فتلقى سواها من القول والخيل والليل قد وصلت قبلها". تقوم قصيدة عبدالقادر الحصني على مشهد حركي، فيه الكثير من "الوقائع" وحتى "الأحداث" التي يوظّف لها الشاعر، صوراً شعرية منسوجة بعناية، تجعلها قابلة للقراءة، وقابلة للاستعادة والتمثل. صور عبدالقادر الحصني الشعرية لا تبحث عن جمالياتها في أي شيء، قدر ما تبحث عنها في الحياة ذاتها... الحياة التي ينجح الشاعر في اعادة رسمها من جديد في القصيدة، ولكن ليس في صور فوتوغرافية مطابقة، بل في صورة تعكس التمثّل، وتعكس ما تمور به المخيلة في جدلها مع الفكرة. فخلال مقاطع القصيدة نقف على ولع شعري طاغٍ بالقبض على المشهد، على ما فيه من تفاصيل، وعلى ما تحمله هذه التفاصيل وما تضمره بين سطورها ونتف صورها من عوالم ومن حياة: "فمن ينقذ الآن هذا المغنّي إذا هربت من رؤوس أصابعه الخمرُ أو حطّ نملٌ كثيفٌ على راحتيه؟ ومن سيحنو على الناي صار إلى قصب يابسٍ وهو ما زال يحلم أن يستعيد على ضفة النهر خضرته وتمايلَ أوراقه في الهواء إذا انثال رمل ثقيلٌ على شفتيه؟". والذي يتابع تجربة عبدالقادر الحصني - ومنها هذه المجموعة الجديدة - سيلاحظ افتراقاً بيناً بين طريق هذا الشاعر الى الحداثة، وبين طرائق زملائه ومجايليه من الشعراء السوريين، إذ في تجربته، ثمة تشديد على عدّة فنية يراها الكثيرون قديمة وتقليدية، فيما يراها هو قابلة لمنح مشهدياته الشعرية كثيراً من أسباب الحياة والجمالية. ونعني بهذه العدّة الوزن والقافية، وهما حاضران دوماً في قصيدة الحصني، بل هما جزء أصيل من بنائيته الفنية التي تقوم في أساسها على استثمار ما في الشعرية العربية من عادات تقليدية، ولكن شرط اعادة استخدامها بطرائق فنية جديدة. تمكن ملاحظة ذلك في قصيدة "مقدمة للصمت"، التي أراحها أجمل قصائد المجموعة، بل وواحدة من أجمل ما قرأت في الشعر السوري الحديث خلال السنوات القليلة الفائتة. في هذه القصيدة يكثّف الحصني ولعه بالرسم وولعه بحيوية المشهد، ليقدم عالماً يقوم على الرؤيا، المنسوجة من الفكرة ومن جدلية المخيلة وخصوبة أمدائها وآفاقها: "لا بد من شجر كثيف في الظلام ليكون بيتٌ في البعيد سراجه كفٌّ من الحناء تخفق خلف نافذةٍ تشرّد في مدارات الأساور ما تراكم من تفاصيل النهار الى المدامْ". هنا يجد القارئ نفسه أمام قصيدة تزدحم بالصور الشعرية التي تأخذ كل واحدة منها بيد الأخرى، فتشكل مجتمعة ما يمكن وصفه بالحال الشعرية المتفاعلة، التي تقوم على وحدة القصيدة، ليس بمعنى امتلاكها مناخاً واحداً، أو حتى موضوعاً واحداً محدداً، ولكن أيضاً وأساساً بمعنى درامية المشهد الشعري الذي تتحرك في اطاره "الوقائع". فالحال الشعرية التي نراها في قصائد المجموعة تأخذ شيئاً من الغنائية لتمزجه في صورة عضوية، برؤى المخيلة، وأيضاً بالأفكار، التي لا تعود ثقيلة ترزح تحت أعباء الجفاف، قدر ما تنبض بالحياة. يمكن ملامسة الكثير من هذه المعاني عند قراءة قصائد عبدالقادر الحصني القصيرة، التي ضمتها هذه المجموعة. ففي مثل هذه القصائد بالذات، يحقق الشاعر اقتراباً أكبر من خطاب شعري يقوم في جانب منه على القص، الذي يسهم بدوره في منح القصيدة تلك الأجواء الدرامية التي أشرنا اليها: "على باب بيت صديقي وقفت وعلّقت كفي على جرس الباب لكن نبضاً بأنملتي كان أفتر من أن يثير بأسلاكه شهوة للرنينْ". أهم ما في مجموعة عبدالقادر الحصني "ينام في الايقونة"، اعتمادها الكلي على خطاب شعري خافت النبرة، لا يتوسل ما في الموضوعات الكبرى والعناوين العامة من صخب وضجيج، قدر ما يبحث عن الشعرية في تفاصيل المشاعر الانسانية الفردية، بكل ما تحمله من قوة ومن ضعف على السواء، ما يحفظ للشعر أحقيته في الانتماء الى الحقيقة التي تقدر أن تلامس روح الآخر إذ تخاطبه. عبدالقادر الحصني يؤكد في هذه المجموعة الشعرية الجديدة، وقوفه في الطليعة بين الشعراء السوريين كصاحب صوت مميز، وصاحب لغة فيها الكثير من نداوة الحزن النبيل وصدق التعبير عنه.