الرئيس الأميركي الأربعون رونالد ريغان نزيل البيت الأبيض بين عامي 1981 و1989، لم يعد يعرف نفسه. الخبر المنشور في وكالات الاعلام قبل اسبوع قد لا يستوقفنا طويلاً. الرجل، بعد كل الحسابات، ليس في ربيع العمر. منذ زمن بعيد جاوز تلك المرحلة المزهرة. حين انتخب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية في 4 تشرين الثاني نوفمبر 1980 كان يدخل في عامه السبعين. حين رُشح لولاية ثانية في 1984 هاجمه الديموقراطيون بحجة انه ينام 20 ساعة من ال24. رونالد ريغان لم يغضب. انتقى ان يردّ على منافسَيْه والتر موندال وجيرالدين فيرارو بأسلوب سينمائي. لم يظهر ريغان في 53 فيلماً لكي يهزم باتهامات من هذا النوع. تعمد ان يخرج كل ليلة بصحبة زوجته الثانية نانسي الى مطاعم العاصمة. وتعمد ان يسهر الى وقت متأخر. الديموقراطيون وهذا كلام عواميد ضاحكة في صحف اميركية من ذلك الزمن البعيد عقدوا مؤتمرات صحافية وأكدوا ان ريغان بات كدراكيولا ينام في النهار ويخرج في الليل. الرأي العام حسم المعركة لمصلحة ريغان بصفته الرئيس الذي منح البلاد رخاء اقتصادياً، و"أعاد الى الأمة ثقتها بنفسها". الثمانينات كانت عصر أميركا الذهبي. ريغان اكتسب شعبيته رويداً رويداً. الضربات القاضية التي وجهها لأعدائه توّجت مسيرة سياسية حافلة بدأت أمام الكاميرا ووراء الكواليس. طوال عقدين من العمل في هوليوود حارب الشيوعيين. من ليبرالي يلعب الكرة ويشارك في مسرحيات جامعية كتبها وليم شكسبير في القرن السادس عشر، تحول ريغان في ليل لوس انجليس الصاخب بالكهرباء والفراء الى محافظ من الطراز الرفيع. في 1966 انتخبته كاليفورنيا حاكماً. في 1970 جددت عهد الولاء له. يوم فوزه بالرئاسة للمرة الأولى في 1980 وقف مع نائبه جورج بوش وحيا الجماهير. كان في بذلة سوداء، قميص أبيض، وربطة عنق زرقاء. رفع يمناه عالياً وابتسم عن صف كامل من الاسنان الاصطناعية. شعره الذي خطّه الشيب أضفى رونقاً على الصورة. صباح الجمعة 5 تشرين الثاني 1980 تفرج ريغان على صوره في صحف البلاد. لفت نظره خبر وفاة الملاكم الويلزي جوني أوين بعد غيبوبة دامت 6 أسابيع. الملاكم الويلزي أوين سقط الى غيبوبته القاتلة على حلبة شهيرة في لوس انجليس بينما ينافس المكسيكي لوب بنتور على لقب بطل العالم. جوني أوين كان في الرابعة والعشرين: بجسمه النحيل الذي يبدو عليلاً يمكن القراء العرب ان يفكروا الآن في عبدالحليم حافظ لم يفهم كثرٌ كيف بلغ أوين حلبة البطولة. لكن الشاب كان فاعلاً. بلكمات خاطفة مخيفة اعتاد ان يحطم خصومه. لكن تلك الليلة الماطرة، قبل 6 أسابيع من انتخاب ريغان رئيساً، فارق الحظ الشاب النحيل. حاول ان يتجنب اللكمة القاضية. لم ينجح. هوى الى الظلمات. ريغان قرأ الخبر قرب اعلان لفيلم "الرجل الفيل". ربما تأثر عندئذٍ. لكنه في الأغلب نسي الأمر سريعاً. معه حق. الحياة هي المستقبل. ثم انه صار للتو رئيساً للولايات المتحدة الأميركية. * أقام ريغان في البيت الأبيض 8 سنوات. وجد المكان مريحاً. الأثاث ممتاز. الحديقة فسيحة. وهناك مخصصات وطوافة و... لكن في 1989 أُجبر على المغادرة. حلّ على هضبة الكابيتول نزيلٌ جديد من أهل البيت: جورج بوش. رونالد ريغان جمع أغراضه بينما زوجته نانسي تلقي نظرة أخيرة على المرايا والسلالم والمزهريات، ثم غادرا. * بعد سنوات طويلة، بعد ان جاء كلينتون وذهب، حلّ جورج بوش الإبن في البيت الأبيض القديم نفسه. رونالد ريغان شاهد كل ذلك على التلفزيون ولم يفهمه تماماً. منذ 1994 يعاني ريغان مرض الزهايمر. نانسي ريغان قالت في مقابلة لشبكة "سي بي اس" قبل أسبوع انها لم تعد متأكدة ما اذا كان زوجها يعرفها ام لا. قالت المرأة التي طالما آمنت بقوة زوجها ان الرجل البالغ من العمر 91 عاماً لا يمنحها اليوم الا حياة حزينة. ريغان اعترف قبل خمس سنوات انه ما عاد يتذكر اصدقاءه القدامى. سكت لحظة ثم أضاف: "لا أذكر انني كنت رئيساً". بنيته ما زالت قوية، احياناً يلعب الغولف، وينجح في اسقاط الطابة في الثقب، لكنه في مرات أخرى ينسى ما الذي يفعله وسط المرج الأخضر واقفاً في ثياب "قطن" مع عصا معدن غريبة الشكل في يده. * نسي ريغان الغولف ونسي انه كان رئيساً. حين يشاهد نفسه في فيلم سينمائي قديم، هل يعرف وجهه؟ هل يعلم انه الممثل؟ اذا شاهد فيلماً وثائقياً عن اميركا الثمانينات ورأى صورته هل يدرك انه كان رئيساً ام يحسب انه يشاهد فيلماً درامياً، وهو يلعب دور الرئيس الأميركي فيه؟ ريغان نسي انه كان رئيساً. نسي انه كاد يقضي نحبه في 30 آذار مارس 1981 برصاصة اخترقت صدره على بعد أربعة إنشات من القلب ثم استقرت في رئته اليسرى. نسي أولاده ونسي امرأته ونسي لقاءاته مع غورباتشوف وحرب النجوم ومعاهدات الحد من التسلح النووي. نسي الغارة على ليبيا، ونسي الحرب العراقية الايرانية، وأزمة الرهائن في السفارة، ونسي منافسه القديم جيمي كارتر. مرضى الزهايمر ينسون أشياء كثيرة: بعضهم ينسى ان الطعام يؤكل بملعقة أو بشوكة وسكين فينحني برأس مرتجفة ويرشف الحساء بالأصابع والفم على نحو يُشعر الآخرين بالخجل والخوف. مرضى الزهايمر ينسون أسماءهم، معارفهم، حياتهم. الدماغ يتقلص، يتضاءل في صور الأشعة. النسيج يتبدل. الخلايا الرمادية تتغير. العطب يصيب الحياة في مركزها. ريغان الذي كان رئيساً لم يعد رئيساً. ريغان نسي من يكون. صار لا أحد.