صراع الحضارات عنوان مثير، وإن كان موجوداً فحسب في عقل من اخترعه.إن الحضارات لا تتصارع... إنما تتصارع الجيوش والمصالح، أما الحضارات فطبيعتها تختلف. إنها تستخدم الفكر بدلاً من السيف، والسيف لا يحملك على الاعتقاد أو الإيمان، إنما يحملك الاقتناع والوعي. وتمضي الحضارات في دورات، إنها تصعد في عصر تهيأت فيه أسباب الصعود، ثم يتقدم بها العمر بعد القوة ويحل الضعف وتبدأ دورة الهبوط. ثم تولد من جديد. ومن التهم التي توجه الى الحضارة العربية أنها تنقل ولا تُبدع، أو تقلد ولا تخلق. وهذه التهمة نشأت أساساً حول الآرية والسامية والتمييز بينهما، وهي تهمة تريد أن تخصص الحضارة العربية بالنقل من دون الإبداع، وتميز عنها الحضارة الآرية بملكة الإبداع والتفكير الحر، ولا سيما في الأمور النظرية التي يراد بها العلم للعلم ولا يراد بها العلم للتطبيق أو للانتفاع به في أحوال المعيشة. وهدف هذه التهمة تمييز الآريين وبالتالي تمييز العنصر الأوروبي في أصوله الآرية الأولى، حتى يسوغ هذا العنصر سيادته على أمم العالمين، وهذه التهمة مدحوضة. إن كل حضارة تنقل ثم تبدع، وأين هي الحضارة التي ابدعت ولم تنقل، وعندما يطلب من الحضارة ألا تورث الناس شيئاً إلا من إبداعها يكون هذا معناه طلب إلغاء كل ما سبقها، وهو طلب يناقض الحضارة في فضيلتها الكبرى. هذه التهمة التي كانت توجه قديماً للحضارة العربية والتي ساعد على نشرها بعض المستشرقين الذين يشك في أمانتهم العلمية، هذه التهمة وجدت في العصر الحديث من يتصدى لها من ابناء أوروبا وعلمائها المنصفين. قال بريفو إن العلم الغربي مدين بوجوده للحضارة العربية. ويقول ج. د. برنال في كتابه "رسالة العلم الاجتماعية": نحن مدينون للعرب بكل علمنا، فهم لم ينقلوا إلينا تراث الإغريق فحسب، وإنما أضافوا إلى هذا التراث أحكاماً أدق وروحاً علمية لم تكن ظاهرة في عمل الإغريق. ويعتقد روجيه غارودي أن أحد مظاهر سياسة التفرقة العنصرية التي يتبعها المستعمرون هي إنكارهم الدور الذي لعبته الحضارة العربية في تكوين العالم الحديث. إن مؤامرة الصمت والتشنيع المنظم على هذه الحضارة تهدف إلى تجاهل هذه الحقيقة الواقعة. وهي أن الشعوب العربية ساهمت في ظروف تاريخية معينة بين العصر القديم وعصر النهضة مساهمة غنية في التقدم الإنساني في كل ميادين الفكر والفن. وقد أصبح الباحث الأوروبي حين تدفعه الرغبة إلى دراسة الفتح العربي يشعر وهو يقرأ ما وضع بين يديه من كتب صغيرة وموجزة أنه أمام سر أو معجزة. وفي أكثر من مجال، كان للثقافة العربية والإسلامية فضل لا ينكره إلا جاحد. في مجال الطب يلمع اسم الرازي، فقد وحد هذا العبقري بين الملاحظة والتجربة، فوضع بذلك تصنيفاً منهجياً للأمراض، وقد أعيد طبع موسوعته الطبية التي ترجمها فراجوت إلى اللاتينية، وطبعت 40 مرة قبل عصر النهضة، وفي عصر النهضة أعيد طبعها في فيينا عام 1520، وفي فرانكفورت عام 1588، أي أنها ظلت خلال ألف سنة توجه الأبحاث الطبية لدى كل الشعوب.. حتى ظهر كلود برنار. ومجدت الحضارة العربية والإسلامية الثقافة، وشجعت حركة الترجمة. بين عامي 813 و833 ميلادية، وبينما كانت أوروبا تجهل القراءة كان الخليفة المأمون يؤسس في بغداد "بيت الحكمة"، وهو مكتبة عظيمة وجامعة كبيرة ومكتب هائل للترجمة. وقد أصبح التراث اليوناني بعد بيت الحكمة شيئاً في متناول الذين يقرأون القرآن. وبعد زمن قليل كان الخليفة الحكم الثاني في قرطبة يملك 600 ألف مجلد بينما لم يستطع ملك فرنسا شارل الحكيم أن يجمع بعد ذلك بأربعمئة سنة أكثر من 900 مجلد، وظل إنتاج الكندي 850م الذي ترجمه جيرار دي كريمون إلى اللاتينية يثقف الغرب خلال قرون عدة. وأعلن ابن سينا وابن رشد قبل ديكارت بخمسة قرون حق اخضاع كل شيء لحكم العقل، باستثناء العقائد الصادرة عن الإيمان، وأدرك الشاعر دانتي ذلك فأثنى على ابن رشد ثناءً عظيماً في النشيد الرابع من كتاب الجحيم في الكوميديا الإلهية، وأدرك ذلك روجر بيكون أكبر مفكر غربي في القرن الثالث عشر فقال إن الفلسفة مستمدة من العربية وليس هناك لاتيني واحد يستطيع أن يفهم كلمة الكتاب المقدس والفلسفة إذا لم يكن يجيد اللغة العربية، أما الترجمة فكانت كافية لصعود المترجم إلى صفوف الارستقراطية الحاكمة، وكان المأمون يزن الكتاب المترجم بالذهب، اعترافاً منه بقيمة الثقافة التي تنقل ثقافات اليونان والفرس والهند.