ما زال الانقسام حاداً بين المثقفين المصريين حول ما انتهى إليه مارتن برنال في كتابه "أثينا السوداء" الترجمة العربية التي صدرت أخيراً عن المجلس الأعلى للثقافة جعلته "أثينة السوداء" نسبة إلى ربة العقل والحكمة عند الإغريق القدماء. لكن الجدل لا يخص فقط مضمون الكتاب الذي يعلي من شأن تأثير الحضارة المصرية القديمة على حضارة أوروبا المعاصرة ويناهض المركزية الأوروبية، وإنما يتطرق إلى نيات كاتبه "عالم اللغويات اليهودي الأصل" بحسب توصيف أحدهم، بل إن محرر المجلد الأول الذي يقع في نحو سبعمئة وخمسين صفحة، المشرف على مجموعة الترجمة الدكتور أحمد عثمان رئيس قسم الدراسات اليونانية في كلية الآداب - جامعة القاهرة، يؤكد أن ثمة ميلاً لدى برنار نحو اضفاء "أهمية متزايدة على الدور الذي لعبه اليهود في حضارة الغرب". يقول عثمان في مقدمته: "بصراحة يبدو برنال أكثر مجاراة للحركة الصهيونية التي تزعم بأن اليهود هم بناة الحضارة الإنسانية، فإليهم يعود الفضل في كل شيء، فالهدف ليس إنصاف مصر وحضارتها كما هو معلن". ويضيف: "إذا كان يحسب لبرنال أنه عرّى المركزية الأوروبية وفضح انحيازها وتعصبها، فإنه يؤخذ عليه انحيازه التام وتعصبه الملموس للتأثير العبري على الحضارة المصرية والهيللينية معاً، وانحيازه هنا لا يقل عن انحياز الأوروبيين، كما أنه يحاول بشتى الطرق الإيحاء بأن مصر هي التي تأثرت بالتراث الكنعاني العبري وليس العكس". الرأي الذي انتهى إليه الدكتور عثمان لا يلغي أهمية الكتاب التي أشار إليها في أكثر من موضع في مقدمته، كما أنه رأي يتبناه عدد غير قليل ممن ناقشوا برنال قبل عام حين دعاه المجلس الأعلى للثقافة إلى زيارة مصر ولقاء مثقفيها. حتى أن أحدهم الدكتور جاب الله علي جاب الله الأمين العام الحالي للمجلس الأعلى للآثار في مصر قال إن المكان الطبيعي لهذا الكتاب هو "صندوق الزبالة". لكن صدور الجزء الأول من كتاب برنال، الذي سيتبعه جزءان آخران، سيتيح الفرصة لقراءة أوسع ونقاش أكثر علمية لأفكاره. وهذا ما بدأه المجلس الأعلى للثقافة حين دعا إلى ندوة لمناقشة الترجمة العربية للكتاب مساء الأحد 28 كانون الأول ديسمبر الماضي، بدأت بإشادة الدكتور جابر عصفور الأمين العام للمجلس بالكتاب ومترجميه، مؤكداً عبر شهادتين، إحداهما لسمير أمين في أحد كتبه، وثانيتهما وصلته عبر الفاكس لأنور عبدالملك، أن كتاب برنال دحض مزاعم مركزية الحضارة الأوروبية التي يؤثر المؤرخون الأوروبيون أن يعيدوا أصولها إلى الحضارة اليونانية القديمة وليس الإفريقية أو الأسيوية كما ذهب برنال. ثم تناول الدكتور أحمد عثمان بعض أوجه النقد التي رآها في الكتاب، فأضاف إلى ما جاء في مقدمته من وجود "قدر عالٍ من الحدة تصل إلى حد المبالغة أو الشطط في طرح القضايا ما يثير الاستفزاز"، و"إهمال برنال للدور العربي والإسلامي في إحياء الدراسات الكلاسيكية وبعث النهضة الأوروبية". وأضاف إلى ذلك ميل برنال إلى الاستطراد والحشو وإثقال عمله بزوائد كان يفيده لو تخفف منها. لكنه مع ذلك أثنى على الكتاب واعتبره أهم ما صدر في الدراسات الكلاسيكية في الخمسين سنة الأخيرة، كونه وضع الدراسات الكلاسيكية الأوروبية في أزمة بإعادته قراءة نصوص كان اتفق عليها، فعصف ببعض المسلمات التي يتوقع أن توجه الدارسين إلى موضوعات ربما لم تخطر ببالهم. واعتبر الدكتور لطفي عبدالوهاب استاذ التاريخ القديم وأحد المشاركين في الترجمة أن الكتاب يثير من جديد مسألة البحث عن هويته، التي هي محصلة الأخذ من الحضارات الأخرى والإضافة إليها. وقال أن احتكاك مصر بالحضارة اليونانية كان كبيراً وملموساً، مشيراً إلى أن المدرسة الآرية في أوروبا. تسعى جاهدة الى الغاء أي فضل للحضارة المصرية القديمة على أوروبا، وتستبعد من دوائرها الثقافية كل من يشايع هذا الرأي، معتبرة أنه مجرد مردد لمرويات قديمة وأساطير، حتى أنهم اعتبروا أن هيرودوت هو "أبو الأكاذيب" وليس "أبو التاريخ". ورأى الدكتور لطفي في كتاب برنال ثورة تصحيحية لما أقدم عليه أصحاب هذه المدرسة المتطرفة فكرياً، وقال إن قيمة الكتاب تعود إلى أن صاحبه كان صريحاً منذ البداية حين ذكر أن تخصصه الدقيق هو في الحضارة الصينية واليابانية، وأن ما يطرحه في كتابه هو مجرد فروض قد تتحول إلى نظريات لو تناولها متخصصون. وعاب على برنال محاولاته الإلحاح على أن الأثر المصري في حضارة اليونان تم عبر هؤلاء الأسيويين، خصوصاً الهكسوس واليهود. كما عاب عليه أيضاً اعتماده على التشابه السطحي بين الألفاظ للإيحاء بوجود تأثيرات متبادلة بين الحضارات، واعتبر أن مبحث برنال هذا غير دقيق "لأننا نعتمد على جذور الكلمات وليس مجرد التشابه السطحي بينها". من جهته ركز أستاذ الفلسفة الدكتور حسن حنفي على عيوب الترجمة، ومنها مثلاً "تأنيث" أثينة مرة وتذكيرها أثينا مرة أخرى ورد الدكتور عثمان على ذلك بأن "التأنيث" جرى حين الحديث عن ربة العقل والحكمة عند الإغريق، أما التذكير فحين قصد البلد. ومنها عدم التوحيد في اللفظ لبعض المسميات التي وردت مراراً في الكتاب، مثل الكلام عن الإغريق واليونان، وكلاهما صحيح. لكنه رأى أن التوحيد يكون أفضل، واعتبر أن عدم التوحيد مرده إلى اختلاف المترجمين، وذكر إن بعض العبارات كانت بحاجة إلى شروح في الهوامش كونها غير معروفة للقارئ غير المتخصص. أما النقد الأساسي الذي واجهه الكتاب - الأصلي والمترجم على السواء - فجاء من الدكتور مراد وهبة استاذ الفلسفة المخضرم، الذي اعتبر كتاب برنال ضد التنوير لأنه يعلي من شأن حضارة قامت على الأساطير ولم تستند إلى العقل. فضلاً عن أن الحضارة اليونانية - كما ذهب وهبة - هي التي وضعت القوانين والنظريات، فيما اكتفت الحضارة المصرية بالقياس. وكان فيثاغورث هو أول من تحدث عن البرهان الذي أمكن بواسطته أن يتوصل أرسطو إلى علم المنطق. ورأى وهبة أن مفهوم البرهان هو صلب الفارق بين الحضارة المصرية القديمة والحضارة اليونانية... "الإشكال أن الحضارات الأصلية القديمة بدأت بقليل من التفكير العلمي وكثير من الثراء والأساطير". وطالب وهبة بتوسيع رقعة النقد للحضارة المصرية القديمة، واستند إلى ما قاله برنال في نهاية كتابه من أنه مليء بأخطاء كثيرة في الوقائع والتأويلات. واستفزت كلمات الدكتور مراد وهبة بعض الحضور، فقال الباحث أحمد عثمان: "إن رفض الدكتور وهبة للحضارة المصرية القديمة لن يلغي تأثيرها الفاعل، ففيثاغورث نفسه لم يكتب شيئاً مما وصلنا عنه، وأول ما نسب إليه جاء بعده بنحو ثلاثمئة سنة، كما أن ما وصلنا مكتوباً باليونانية لم يكتبه كله يونانيون بل كتبه مصريون وشوام ومنتمون إلى شعوب شمال افريقيا، وأغلب ما وصل إلينا من هذه الكتابات جاء عبر الاسكندرية". وقال شوقي جلال مترجم كتاب "التراث المسروق" والمشرف على الجزء الثاني من كتاب برنال إن "المعارضة الحقيقية لكتاب برنال تأتي عبر أوروبا وأميركا، ليس بوصفه كتاباً ضد التنوير كما يذهب مراد وهبة، وإنما لأنه يفضح المركزية الأوروبية ويؤكد زيفها". وانتقد الدكتور مصطفى النشار قول وهبة إن اليونان هم أهل النظرية بقوله إن المصريين ما كان لهم أن ينجزوا حضارتهم بما اشتملت عليه من فنون رفيعة وعمارة فائقة الدقة لو لم تكن لديهم نظرية واضحة، وإلا كيف نفسر تعامد الشمس على وجه رمسيس الثاني في معبد "أبو سمبل" في الوقت نفسه من كل عام؟ وفي رده على عدم تضمين مقدمة الكتاب العربية تصدير برنال الذي رأى وهبة أنه مهم، قال محرر الكتاب الدكتور أحمد عثمان إن "حذف التصدير جاء لأنه لم يتضمن جديداً، بل إن أفكاره جميعاً جاءت في ثنايا الكتاب، لكنه وعد بإضافته في الطبعة الثانية". أخيراً، فإن الندوة التي عقدت حول كتاب برنال فيما نتصور لن تكون الأخيرة، ونتوقع أن تشهد الندوات المقبلة حوارات أكثر سخونة وجدية، خصوصاً أن جهات علمية ومراكز بحثية عدة، بدأت تدعو إلى حلقات علمية لمناقشة أفكار الكتاب، الذي ربما سيشهد ردوداً علمية على بعض ما تضمنه من أفكار، سيضطلع بها أفراد وهيئات.