عرض "نسابق الأحلام" الجوي يزين سماء العاصمة بمناسبة اليوم الوطني ال 94    كوليبالي خارج تشكيل الهلال بمواجهة الاتحاد    Space X متهمة بالتعدي على ممتلكات خاصة    لقاح على هيئة بخاخ ضد الإنفلونزا    بشرى سارة لمرضى ألزهايمر    اصطياد ال 6 الكبار..إسرائيل توجع حزب الله    "اليوم الوطني".. لمن؟    بعد اتهامه بالتحرش.. النيابة المصرية تخلي سبيل مسؤول «الطريقة التيجانية» بكفالة 50 ألفاً    تفريغ «الكاميرات» للتأكد من اعتداء نجل محمد رمضان على طالب    القيادة تعزي ملك البحرين في وفاة الشيخ خالد بن محمد بن إبراهيم آل خليفة    ضبط 22716 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    السعودية تتصدر دول «العشرين» في نمو عدد السياح الدوليين في 2024    الصين لا تزال المصدر الرئيس للاوراق العلمية الساخنة    كلية الملك فهد الأمنية الشرف والعطاء    الشرقية: عروض عسكرية للقوات البحرية احتفاءً بيوم الوطن    زاهر الغافري يرحلُ مُتخففاً من «الجملة المُثقلة بالظلام»    الفلاسفة الجدد    حصن العربية ودرعها    أبناؤنا يربونا    بلدية الخبر تحتفل باليوم الوطني ب 16 فعالية تعزز السياحة الداخلية    القيادة تهنئ الحاكم العام لبيليز بذكرى استقلال بلادها    شكر وتقدير لإذاعتي جدة والرياض    "البريك": ذكرى اليوم الوطني ال94 ترسخ الإنتماء وتجدد الولاء    مآقي الذاكرة    موعد مباراة الأهلي القادمة بعد الفوز على ضمك    مصر: تحقيق عاجل بعد فيديو اختناق ركاب «الطائرة»    اختفاء «مورد» أجهزة ال«بيجر»!    "الأوتشا" : نقص 70% في المواد الطبية و65% من الحالات الطارئة تنتظر الإجلاء في غزة    رياح سطحية مثيرة للأتربة والغبار على القصيم والرياض    فلكية جدة: اليوم آخر أيام فصل الصيف.. فلكياً    انخفاض سعر الدولار وارتفاع اليورو واليوان مقابل الروبل    الشورى: مضامين الخطاب الملكي خطة عمل لمواصلة الدور الرقابي والتشريعي للمجلس    2.5 % مساهمة صناعة الأزياء في الناتج المحلي الإجمالي    «النيابة» تحذر: 5 آلاف غرامة إيذاء مرتادي الأماكن العامة    خطيب المسجد النبوي: مستخدمو «التواصل الاجتماعي» يخدعون الناس ويأكلون أموالهم    الاتحاد السعودي للهجن يقيم فعاليات عدة في اليوم الوطني السعودي    "مدل بيست" تكشف مهرجان "ساوندستورم 2024" وحفل موسيقي لليوم الوطني ال 94    الأخضر تحت 20 عاماً يفتتح تصفيات كأس آسيا بمواجهة فلسطين    "أكاديمية MBC" تحتفل بالمواهب السعودية بأغنية "اليوم الوطني"    "تعليم جازان" ينهي استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني ال94    الدرعية تحتفل بذكرى اليوم الوطني السعودي 94    مجلس الأمن يعقد اجتماعا طارئا لبحث التطورات في لبنان    شرطة نجران تقبض على شخص لحمله سلاحًا ناريًا في مكان عام    حاملة الطائرات الأميركية «يو إس إس ترومان» تبحر إلى شرق البحر المتوسط    بيع جميع تذاكر نزال Riyadh Season Card Wembley Edition الاستثنائي في عالم الملاكمة    «لاسي ديس فاليتيز».. تُتوَّج بكأس الملك فيصل    الناشري ل«عكاظ»: الصدارة أشعلت «الكلاسيكو»    ب 2378 علمًا بلدية محافظة الأسياح تحتفي باليوم الوطني ال94    وزارة الداخلية تُحدد «محظورات استخدام العلم».. تعرف عليها    زعلة: ذكرى اليوم الوطني ال94 ترسخ الانتماء وتجدد الولاء    خطيب المسجد النبوي: يفرض على المسلم التزام قيم الصدق والحق والعدل في شؤونه كلها    خطيب المسجد الحرام: أعظم مأمور هو توحيد الله تعالى وأعظم منهي هو الشرك بالله    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    قراءة في الخطاب الملكي    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثقافة العربية الاسلامية وعلاقتها بالثقافات الاخرى 2من3

في بحثه عن أثر الثقافة الاسلامية في الغرب المسيحي، يقول الكاتب ت. كولر يونغ T. C. Young: "ان الدَّين الثقافي العظيم الذي ندين به للاسلام منذ ان كنا نحن المسيحيين، داخل هذه الألف سنة، نسافر الى العواصم الاسلامية، والى المعلمين المسلمين ندرس عليهم الفنون والعلوم وفلسفة الحياة الانسانية، يجب التذكير به دائماً. وفي جملة ذلك تراثنا الكلاسيكي الذي قام الاسلام على رعايته خير قيام، حتى استطاعت اوروبا مرة اخرى ان تتفهمه وترعاه. كل هذا يجب ان يمازج الروح التي نتجه بها - نحن المسيحيين - نحو الاسلام، نحمل اليه هدايانا الثقافية الروحية، فلنذهب اليه - اذن - في شعور بالمساواة، نؤدي اليه الدَّين القديم. ولن نتجاوز حدود العدالة اذا نحن أدّينا ما علينا بربحه. ولكننا سنكون مسيحيين حقاً اذا نحن تناسينا شروط التبادل، وأعطينا في حبّ واعتراف بالجميل" 1.
قامت الثقافة العربية الاسلامية بدورها الطليعي خير قيام في بناء النهضة العلمية العالمية، ونقل العلماء العرب والمسلمون التراث الاغريقي وغيره من ألوان التراث العلمي الذي تقدّم عليهم في التاريخ الى اللغة العربية التي كانت لغة علم وثقافة، وأثر العلماء العرب والمسلمون في النهضة الاوروبية. وكان طابع الثقافة العربية الاسلامية غالباً وواضحاً ومؤثراً في عديد من المجالات العلمية والفكرية والثقافية، مثل ابتكار نظام الترقيم والصفر والنظام العشري، ونظرية التطور قبل داروين بمئات السنين، والدورة الدموية الصغرى قبل "هارفي" بخمسة قرون، والجاذبية والعلاقة بين الثقل والسرعة والمسافة قبل نيوتن بقرون متطاولة، وقياس سرعة الضوء وتقدير زوايا الانعكاس والانكسار، وتقدير محيط الارض، وتحديد أبعاد الأجرام السماوية، وابتكار الآلات الفلكية، واكتشاف أعالي البحار، ووضع أسس علم الكيمياء.
ويمكن القول اجمالاً ان الثقافة العربية الاسلامية كانت واسطة العقد بين العلوم والثقافات القديمة وبين النهضة الاوروبية. فالفكر العربي الاسلامي والثقافة العربية الاسلامية سلسلة متصلة الحلقات امتدت من الحضارات القديمة، من مصرية وآشورية وبابلية وصينية الى حضارة الاغريق والاسكندرية الى العصر الاسلامي الذي تأثّر علماؤه بمن تقدمهم، وأثّروا بدورهم في من لحقهم من علماء النهضة الاوروبية الذين قرأوا أعمال العلماء العرب في كتبهم المترجمة الى اللغة اللاتينية واللغات الاوروبية 2.
حافظت الثقافة العربية الاسلامية على الثقافة اليونانية من الضياع، اذ لولا المثقفون والعلماء العرب لما وصلت الى أيدي الناس مؤلفات يونانية كثيرة مفقودة في اصلها اليوناني ومحفوظة بالعربية. وظل الغرب يشتغل على الثقافة العربية حتى بعد ان تقلّص ظلّها في الاندلس بجيلين أو أكثر الى ان وصل الى العصور الحديثة. وظلت الثقافة العربية الاسلامية تستهوي الكثيرين من أبناء العالم الغربي، اذ لم تتوقف الترجمة عن العربية في عصر النهضة وما بعد عصر النهضة على رغم الاتصال المباشر بالعالم اليوناني والحضارة اليونانية اعتباراً من منتصف القرن الثالث عشر للميلاد عندما بدأت الكتب اليونانية تنقل رأساً الى اللاتينية من دون الاستعانة بالترجمات العربية. فالثقافة العربية لها قيمتها وشخصيتها، فقد انتجت الكثير مما لم تستطع الثقافة اليونانية انتاجه في الحقول كافة: اضافات وتعليقات وابتكارات واكتشافات عربية لم يعرفها اليونان 3.
ان حركة النقل من الثقافة العربية الاسلامية التي خرجت بها اوروبا من عصورها المتوسطة المظلمة الى عصورها الحديثة المتنورة، لم تقتصر على "نقل" المعارف القديمة من يونانية وهندية وبابلية ومصرية من كتب باللغة العربية الى اللغة اللاتينية فحسب. ان اوروبا المسيحية "نقلت" ايضاً معارف عربية خالصة، كما نقلت انماطاً من الحضارة الاسلامية ومن الايمان الاسلامي الى حياتها العامة وحياتها الخاصة. ولو ان الكنيسة الكاثوليكية لم تضع ثقلها الى جانب الفرنجة في معركة تُورَ سنة 114ه 732م، لعمّت الحضارة الاسلامية والثقافة العربية الاسلامية في اوروبا منذ ذلك الزمن الباكر، ولوفّرت الكنيسة الكاثوليكية على العالم نزاعاً طويلاً وشقاء مريراً 4.
انتشرت الثقافة العربية الاسلامية في العالم الغربي، ونهل علماء اوروبا من المصادر العربية الاصلية، ووجدوا انها تراث علمي عظيم فاشتغلوا بدراسته وتحليله. ولقد كان العرب والمسلمون يمثّلون العلم الحديث بكل معنى الكلمة، كانوا رواداً في المناهج العلمية الحديثة. واكتسب المثقفون والعلماء في اوروبا من الثقافة العربية الاسلامية اكثر من مجرد المعلومات، انهم اكتسبوا العقلية العلمية ذاتها بكل طابعها التجريبي والاستقرائي بحيث وجد الاوروبيون في التراث العربي الاسلامي وفي الثقافة العربية الاسلامية ضالتهم المنشودة، فعكفوا على نشره 5.
ان الانبهار بحجم تأثير الثقافة العربية الاسلامية في النهضة الاوروبية وفي الثقافة والعلوم الاوروبية جعل مفكرة عالمة المانية تصد بهذه الحقيقة بقولها: "ان تلك الحضارة الزاهرة التي غمرت بأشعتها اووربا عدة قرون تجعلنا نعجب اشد العجب، اذ هي لم تكن امتداداً حضارياً لبقايا حضارات غابرة، او لهياكل حضارية محلية على قدر من الاهمية، أو أخذاً لنمط حضاري موجود، أو تقليداً ينسج على مناله المعهود، كما نعرف في الاقطار الاخرى مهد الحضارات في الشرق. ان العرب بثقافتهم هم الذين ابدعوا هذه الروعة الحضارية ابداعاً" 6.
وبينما كانت اوروبا ترتع في غياهب العصور الوسطى كانت الحضارة الاسلامية التي هي محضن الثقافة العربية الاسلامية في أوج ازدهارها. لقد أسهم الاسلام كثيراً في تقدّم العلم والطب والفلسفة، وقال ويل ديورانت Will Durant في كتابه "عصر الايمان" The Age of Faith: "ان المسلمين قد ساهموا مساهمة فعالة في كل المجالات، وكان ابن سينا من اكبر العلماء في الطب، والرازي اعظم الاطباء، والبيروني اعظم الجغرافيين، وابن الهيثم اكبر علماء البصريات، وابن جبير اشهر الكيميائيين". وكان العرب رواداً في التربية والتعليم، وقال دورانت في هذا الشأن ايضاً: "عندما تقدّم روجر بيكون Reger Bacon بنظريته في اوروبا بعد 500 عام من ابن جبير، قال إنه مدين بعلمه الى المغاربة في اسبانيا الذين اخذوا علمهم من المسلمين في الشرق. وعندما ظهر النوابغ والعلماء في عصر النهضة الاوروبية، فان نبوغهم وتقدمهم كانا راجعين الى انهم وقفوا على اكتاف العمالقة من العالم الاسلامي 7.
في اطار هذا المنظور الرحب الواسع، يمكننا القول إن الثقافة العربية الاسلامية ثقافة القوة والبأس لا ثقافة الضعف والبؤس. والقوة تؤدي الى النظام والانسجام والتناغم، في حين أن الضعف يتسبب في الفوضى والصراع والتصادم. ومن ثمة كانت الثقافة العربية الاسلامية ثقافة الحوار والتفاهم والتواصل، ولم تكن قط لتنأى عن التلاقح والتمازج والتداخل. في حين كانت جميع الثقافات التي تنتسب الى الأمم والشعوب القديمة تنزع نحو الانعزال والانغلاق، وتصطبغ بصبغة العرقية والعنصرية، ولم تكن على الاجمال ثقافة متفتحة قابلة للأخذ والعطاء.
إن الثقافة قوة فاعلة من قوى البناء الحضاري في مدلوله الشامل، الفلسفي والأدبي، السياسي والاجتماعي، الاقتصادي والتنموي. والثقافة طاقة للابداع في شتى حقول النشاط الانساني، ثم ان الثقافة البانية الهادفة الفاعلة لا بد وأن تكون في خدمة السياسات التي تتجه نحو ترقية وجدان الانسان وتهذيب روحه وصقل مواهبه وتوظيف طاقاته وملكاته في البناء والتعمير، والتي تعمل من أجل تحقيق الرقي والتقدم والرخاء والازدهار 8.
ولا يتأتى للثقافة أن تمتلك القوة والمناعة وتنهض بهذه المسؤولية على الوجه المرغوب فيه إلا إذا توافرت لها ثلاثة شروط تعتبر من مصادر القوة في الثقافة العربية الاسلامية، ومن أسس النهضة الثقافية، ومن العناصر الأساس لبنية الثقافة العربية الاسلامية:
أولاً: أن تكون الثقافة ذات مرتكزات تستند اليها ومبادئ تقوم عليها، فلا تكون ثقافة منبتة الجذور، لا هوية لها تعرف بها، ولا خصائص لديها تميزها.
ثانياً: أن تكون الثقافة ذات أفق مفتوح ورؤية شاملة، لها قابلية للتفاعل مع الثقافات الأخرى، ولها استعداد كامن في أصولها للتعامل مع الثقافات الانسانية من هذه المنطلقات.
ثالثاً: أن تكون الثقافة ذات منحى انساني تتخطى به المجال المحلي أو الاقليمي الى الآفاق العالمية، من دون أن ينال ذلك من خصوصيتها أو يؤثر في طبيعتها، فتكون بذلك ثقافة تواصل بشري، وتحاور انساني، وثقافة تفاهم يؤدي الى التعايش بين الأمم، وثقافة تعاون يحقق التضامن بين الشعوب 9.
بتوافر هذه الشروط لا تكتسب الثقافة العربية الاسلامية القوة والمناعة فحسب ولكنها تكتسب الى ذلك القدرة على السمو والرقي، لأن الثقافة القوية القادرة على البناء هي تلك الثقافة التي تسمو بالانسان الى المقام الأرفع والمكانة الأسمى. وكما يقول الرئيس علي عزت بيغوفيتش، فإن حامل الثقافة هو الانسان، وحامل الحضارة هو المجتمع، ومعنى الثقافة القوة الذاتية، أما الحضارة فهي قوة على الطبيعة عن طريق العلم. ان الثقافة تميل الى التقليل من احتياجات الانسان، أو الحد من درجة اشباعها، وبهذه الطريقة توسع في آفاق الحرية الداخلية للانسان 10. وتلك هي القوة الروحية والنفسية والعقلية التي تمكّن الانسان أن يمارس وظائفه في الحياة على النحو الذي يرضي خالقه أولاً، ثم يرضي نفسه بعد ذلك.
إن إبراز هذه السمات والخصائص التي تنفرد بها الثقافة العربية الاسلامية، أمر نراه ضرورياً في سياق الحديث عن الثقافة العربية والثقافات الأخرى، سواء كان القصد من هذا الموضوع هو المقارنة التي تعني بيان أوجه الأشباه والنظائر، وكشف نواحي الالتقاء والافتراق، أم رسم حدود العلاقة التي يفترض أن تقوم بين الثقافة العربية الاسلامية وبين الثقافات الأخرى.
وفي كلتا الحالتين فإن المنطلقات الأساس في البحث عن مصادر قوة الثقافة العربية الاسلامية وعن خصائصها ووظائفها ورسالتها وأهدافها ومظاهرها، تستند الى ثلاثة أسس:
الأساس الأول: ان الثقافة العربية الاسلامية في مبادئها وأصولها وفي مفاهيمها ودلالاتها تعبر عن جوهر رسالة الاسلام السمحة، فهي بذلك ثقافة انسانية بالمعنى العميق، تنفتح على ثقافات الأمم والشعوب، فتتلاقح وتتمازج وتتصاهر معها، وإن مصدر ثرائها وقوتها ومناعتها يكمن في هذه الخاصية التي لا يعرف التاريخ الثقافي البشري نظيراً لها.
ولقد حدد المفكر مالك بن نبي أربع دعائم تقوم عليها الثقافة العربية الاسلامية، هي:
أ - الدستور الأخلاقي.
ب - الذوق الجمالي.
ج - المنطق العملي.
د - الصناعة أو التقنية 11.
والثقافة التي يعرّفها الغربيون بصورة عامة بأنها "فلسفة الانسان" يحددها مالك بن نبي بالقول انها "مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولى في الوسط الذي ولد فيه"، أي أنها المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته. وعلى هذا الأساس تكون الثقافة "نظرية في السلوك" أكثر من أن تكون "نظرية في المعرفة". وفي هذا التحديد يكمن الفرق بين الثقافة والعلم، فالثقافة سلوك أما العلم فمعرفة. والثقافة بهذا المعنى وثيقة الصلة بالتاريخ وبالتربية، فليس ثمة تاريخ لأمة بلا ثقافة، والشعب الذي فقد ثقافته فقد حتماً تاريخه، إذ هي الوسط الذي تتكون فيه خصائص المجتمع التاريخية من عبقرية وتقاليد وأذواق ومشاعر. والثقافة من ناحية ثانية تتحدر بمضمونها التربوي من حيث انها "دستور تتطلبه الحياة العامة بجميع ما فيها من ضروب التفكير والتنوع الاجتماعي" 12.
وتنطوي هذه الخاصية المتفردة على عناصر القوة في الثقافة العربية الاسلامية، وعلى مصادر الحيوية والتدفق فيها، وعلى ما يمكن أن نعبر عنه بالقدرات الذاتية التي تجعل منها ثقافة قوية متغلغلة في البيئة والوسط، فاعلة ومؤثرة في الفرد والمجتمع.
الأساس الثاني: ان الثقافة العربية الاسلامية، في عمقها وجوهرها، ثقافة تدافع لا ثقافة تصارع، فالتدافع هو سنة الحياة أما التصارع، أو الصراع، فهو مفهوم يعود الى التراث الاغريقي والروماني والهليني الذي عرف أساطير صراع الآلهة، ولا يعبر عن الطبيعة البشرية والفطرة الانسانية. وهذا أيضاً منبع من منابع القوة والحيوية والقدرة على الحضور في ساحة التنافس الثقافي، لأن التدافع الثقافي مصدر قوة في حين أن التصارع، أو الصراع الثقافي، يؤدي الى إضعاف الذات، والنيل من القدرات والملكات، ويسير في اتجاه معاكس للغايات الانسانية النبيلة.
وليس عزوف الثقافة العربية الاسلامية عن الصراع ضعفاً في تركيبتها أو خللاً في عناصرها الأساس، ولكنه عنصر تحضر فيها وعلامة نضج ووعي ومظهر صحة. ومن المؤكد أن خاصية النزوع نحو التدافع بدلاً عن التصارع هي التي مكّنت الثقافة العربية الاسلامية من الصمود أمام الأعاصير الثقافية والفكرية والمذهبية التي واجهتها عبر العصور.
الأساس الثالث: ان كثيراً من جوانب الثقافة العربية الاسلامية في أوضاعها ومستوياتها الحالية، مع شديد الأسف والأسى، لا تعبر عن هوية المجتمع العربي الاسلامي، لأنها جوانب يعتريها الضعف من كل النواحي، ولأن هناك تفاوتاً ظاهراً بين المنابع وبين البدائع. ونقصد بذلك أن أساس هذه الجوانب ليس مستمداً في مجمله من المنابع الأصلية، وأن هذه الظاهرة هي مصدر الضعف العام في الثقافة العربية الاسلامية في المرحلة التاريخية الراهنة.
إن الثقافة العربية الاسلامية هي ثقافة اجتهاد وإبداع مستمرين في اطار الضوابط الشرعية والقيم الخلقية التي تميز حضارة الاسلام، وتعبر عن هوية الأمة. لذلك فإن عطاء هذه الثقافة عطاء متجدد بتجدد الأحوال واختلاف القضايا والأفعال.
ولا ينبغي أن نخدع أنفسنا فنحسب ان الثقافة هي إبداع وابتكار في المقام الأول، وأن قوة الابداع تنبع من عقل الانسان المثقف المبدع ومن خياله ووجدانه، وأن لا صلة لذلك كله بالقيم والمقومات. إن هذا وهم من جملة الأوهام التي تسود حياتنا العقلية وأجواءنا الثقافية. إن الثقافة العربية الاسلامية لن تقوى على مواجهة الأخطار التي تتهددها والتحديات التي تواجهها إلا إذا استمدت قوتها من جذورها وأصولها، ومن قيم الأمة ومقوماتها. وليس في ذلك أي نوع من الحجر على الابداع أو القيد على التفكير والتعبير.
الهوامش
1 في بحث مطول بعنوان: The Cultural Contribution of Islam to Christendom، نقلاً عن كتاب "أثر العرب والاسلام في النهضة الاوروبية"، ص: 5، نشر الشعبة القومية المصرية للتربية والعلوم والثقافة، القاهرة 1987م.
2 المصدر نفسه، ص: 231.
3 د. سيمون الحايك، "تعربت... وتغربت: أو نقل الحضارة العربية الى الغرب" ص: 13 - 14 - 15، المطبعة البولسية، بيروت، 1987م.
4 د. عمر فروخ، الثقافة الاسلامية، ص 105، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، 1988م.
5 د. عبدالفتاح مقلد الغنيمي، الحضارة الاسلامية وتحديات القرن الحادي والعشرين ص: 53، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1995م.
6 زيغريد هونكه، الله ليس كذلك، ص: 54، دار الشروق، القاهرة، 1995م.
7 ريتشارد نيكسون الرئيس الاميركي الاسبق، "الفرصة السانحة - Seize the Moment" ص : 138، الطبعة العربية، ترجمة احمد صدقي مراد، دار الهلال، القاهرة، بلا تاريخ. وكتاب "عصر الايمان" هو الجزء 2 من المجلد الرابع في الاصل الانكليزي، ترجمة محمد بدران، المجلد: 13 - 14 من الترجمة العربية من موسوعة "قصة الحضارة للكاتب الاميركي ويل ديورانت، من الطبعة العربية التي تقع في 42 جزءاً 21 مجلداً، التي اصدرتها الادارة الثقافية لجامعة الدول العربية المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم اليوم. وتتضمن هذه الموسوعة التي ترجمت الى لغات عدة شهادات منصفة عن تأثير الثقافة العربية الاسلامية في النهضة الاوروبية.
8 د. عبدالعزيز بن عثمان التويجري، في البناء الحضاري للعالم الاسلامي، ج: 2 ص: 265، الرباط 1997م.
9 المصدر نفسه، ص: 266.
10 علي عزت بيغوفيتش، الاسلام بين الشرق والغرب، ص: 96، ترجمة محمد يوسف عدس، مؤسسة العلم الحديث، بيروت 1994م.
11 مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ترجمة د. عبدالصبور شاهين، ص: 117، نقلها عن "أسس التقدم عند مفكري الاسلام في العالم العربي الحديث" للدكتور فهمي جدعان، الطبعة الثانية 1981، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ص: 417 - 418.
12 المصدر نفسه، ص: 120.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.