بيروت - "الحياة" حاز الروائي المجري ايمري كيرتيش جائزة نوبل للآداب لعام 2002 "لنتاجه الذي يروي تجربة الفرد الهشة في مواجهة تعسف التاريخ الوحشي" وفق ما اوضحت الاكاديمية السويدية في استوكهولم. وقد لا يكون من باب المبالغة اعتبار كتاب "كائن من دون مصير" لايمري كيرتيش احد اهم ثمار الأدب الاوروبي المعاصر. فعندما صدر الكتاب منذ قرابة 3 سنوات بترجمته الالمانية تحول بين ليلة وضحاها الى الحدث الأدبي الابرز حاملاً كاتبه على جناح الشهرة. ويعود الاصدار الاول لهذا الكتاب الى العام 1975 في هنغاريا، غير انه لم ينل الاهتمام الكافي وتجاهلته الاوساط الأدبية، حتى انه لم يتم الاعتراف به كأثر أدبي في بلاده الا عام 1985 عندما صدرت الطبعة الثانية منه. وأوضحت الاكاديمية في حيثيات قرارها ان "نتاج ايمري كيرتيش يسعى الى معرفة ما اذا كانت الحياة والفكر المستقلان لا يزالان ممكنين في زمن خضع فيه البشر في شكل شبه كامل للسلطة السياسية". ولد كيرتيش في 9 تشرين الثاني نوفمبر عام 1929 في بودابست في كنف اسرة يهودية. وما كاد يطوي 15 سنة من عمره حتى اعتقلته السلطات النازية وأودعته معسكر اوشفيتز ثم نقل الى معسكر بوخنفالد قبل ان يتم الافراج عنه عام 1945 في بوشنوالد. ومضت 15 سنة وبدأ كيرتيش العمل على "كائن من دون مصير" وانتهى منه بعد 10 سنوات ليكون قد انتج كتاباً يستفز المشاعر ويخضها. عمل كيرتيش بعد الحرب صحافياً، إلا انه طرد من الصحيفة اليومية التي عمل فيها عام 1951. ومنذ عام 1953 بدأ كيرتيش يكسب قوته من قلمه، فكتب مسرحيات وعمل مترجماً لاعمال كتّاب المان من أمثال نيتشه وهوفمانشتال وشنيتسلر وفرويد، ما ترك اثراً كبيراً في كتاباته التي لم يفارقها شبح اعتقاله وهو مراهق. ويروي كتاب "كائن بلا قدر" قصة حياة شاب يهودي في معسكر للموت. قطارات وعمليات فرز وغرف غاز. صقيع وألم وتعذيب. جوع وظلمة ووحل. واختار كيرتيش ان يخبر كل ما لديه. وأن يقص غير آبه بالنتائج، واصفاً كل ما يراه. نساء يبرزن جمالهن عند اقتراب القطار الذي يربط معسكري اوشفيتز وبوخنفالد "كهمزة وصل متعرجة". وشروق الشمس "كان جميلاً وممتعاً. ففي مثل هذه الساعة، في البيت، كنت لا ازال نائماً". اما "المعتقلون، فكنت اتوق لمعرفة جرائمهم". و"لطالما كان رفاقي يتساءلون عن المحارق هناك في البعيد وان كانت العدوى فتاكة الى هذه الدرجة لتحصد كل هذه الارواح". قبل ذلك كله كان كيرتيش فتى في الخامسة عشرة يكتشف تحت دوي القصف طعم القبل على شفاه محبوبته اناماريا. وما كانت النجمة الصفراء التي وضعها على صدره لتزعجه كثيراً في تنقلاته. لم ينتبه كثيراً الى والده الذي ودّعه بالأمس متوجهاً الى "معسكر العمل". اليوم جاء دوره هو. وصلته رسالة رسمية تبلغه ان عليه "الالتحاق بعمل ثابت" في احدى المصافي. سعد لأنه سينال راتباً شهرياً وبطاقة هوية. وهو امر نادر بالنسبة الى يهودي مثله. اقتنع في قرارة نفسه أن الأوان حان ليودع الطفولة وان بعض النظام سيفيده كثيراً. لكن شرطياً يوقف الحافلة التي تقله وينزل منها اليهود كلهم. زملاؤه يمرحون، ويضحكون في شمس الربيع بانتظار ان يحدث شيء ما. وفي اليوم التالي حشر الجميع في مقطورات ضيقة، جاعوا وعطشوا، واستخدموا اوعية بدل المراحيض. لم يُفاجأ الشاب من هذا الوضع، فالبلاد في حال حرب. وليس ما يقلقه. على العكس هو فرحان ويسخر من موقف ذويه الذين قد ينتظرونه للعشاء. وعند معسكر اوشفيتز، يطمئن لرؤية الجنود الالمان "نضرين منمقين وسط الضوضاء. هم وحدهم يوحون بالثبات والسكينة". لم يكن يعرف ماذا ينتظره، ولا حتى القارئ الذي يكتشف راوياً ساذجاً لم يدرك انه ليس في "معسكر عمل"، بل في "معسكر موت". ويرتبط سّر كيرتيش وشهرته ارتباطاً وثيقاً بمقاربته الفلسفية النشيطة للوجود. فهو ينتمي الى اولئك الكتاب الذين اعادوا الى القصة قوتها وحدّتها. فهو لم يسع الى ادخال النفحة الشعرية الخفيفة، لأنه على علم تام بأن وزن القصة يكمن في أنها لا توارب الحياة بل تطيل التأمل فيها، وفي القلق الوجودي والضغط الفكري الذي يلفها. ومرة جديدة، تعود تجربة المعسكر لتتحول افقاً لتأملاته التي لا تتعب. لم يصنع هذا الكاتب فلسفته على ضوء المعاهدات المنطقية، بل بفضل عليها "غسق" السرد الذي يحمي حيناً ويفضح احياناً. ولا يتغلب قارئ "كائن من دون مصير" على الرعب الذي يدب في اوصاله، بل يتجاهله في احسن الاحوال. ومن يتابع كيرتيش عن كثب ربما يصبح على استعداد لفهمه. فرواياته تأملات طويلة من القدر وعدمه، الحرية وحاجة البقاء، والنظم والاخلاق. ويقول كيرتيش "هناك، وسط المداخن وفي الفسحات الضيقة بين عذاب وآخر، كان ما يشبه السعادة .... نعم قد اتحدث عن نتف السعادة في المعسكرات المرة المقبلة عندما يطرح علي السؤال. اذا وجد من يسألني اصلاً، واذا لم تخني الذاكرة". أما كتاب يومياته المعنون "آخر" فيكشف بأن "أنا" أصبح آخر، وينطلق بحثاً عن ذاته. ولا يجد هنا مندوحة من ان ينكب على الكتابة، بتأثير معترف به، من فتغنشتاين، وذلك على شكل دفتر سفر / دفتر طريق / دفتر منفى / دفتر تجوال بين فيينا وفرانكفورت ولايبتسغ وبرلين وهامبورغ وبال وباريس، وهو، في طريقه، يحصى كل ما يمكنه ان يدل ويمكنه من ان يشكل إمارة ما. والنتيجة جعبة أدبية جيدة، وكتاب صغير ثري يمكن ان يغني عن كل الكتب / الجردات صدر لمناسبة مجيء الألفية الجديدة. الاستاذ العجوز الذي يصرخ صراخ ممسوس في ليل لايبتسنغ يتحدث باسهاب عمّا كان عليه نظام ألمانياالشرقية، وعن الجراح التي لا تزال في حاجة الى الالتئام بعد عشر سنوات من سقوط جدار برلين. والحال ان وضع "أوروبا الأخرى" لا يلخص هنا بصورة مؤمثلة: "ان روح الأمم الصغيرة في أوروبا الشرقية، والتي تعاني من عقدة الأب وقد غرقت في نوع من الضلال السادو - مازوكي، لا يمكنها ان تعيش، كما يبدو، من دون وجود اولئك المضطهدين العتاة الذين يمكنها ان تفرغ عليهم سوء طالعها التاريخي، ومن دون كبش محرقة هو الأقليات التي يمكن ان تنقل اليها الحقد والمشاعر المتراكمة بفعل الهزائم اليومية". أما في صدد اشكالية وضع اليهود في هنغاريا، فإن المؤلف يلعب على هذه التيمة بحذق بفضل مروحة أدبية تمتد من درجات الرمادي الى أقصى درجات الاسود الساخر: "تماماً كما ان عالم فيزياء لم يسمع بالنظرية الكمية لا يمكن اعتباره عالم فيزياء، فإن شخصاً معادياً للسامية لا يأخذ في الحسبان أوشفيتز لا يمكنه ان يكون معادياً حقيقياً للسامية، وذا صدقية، جاداً وضمن اطار فكرته الثابتة الجاهزة، مكوّناً وذا معلومات". وهذا ليس كل شيء. فالواقع ان الوصف البسيط لزوجين يجلسان الى طاولة في مقهى، قادر على ان يعطي فكرة عن الهوة الوجودية التي تنفتح في كل لحظة تحت كل خطوة من خطانا "نحك كهف لغز العالم ثم ننطلق نحو أمر آخر. كما لو كان ثمة امر آخر" كما يقول شارل - ألبير سنغريا. وفي الكتاب ايضاً نعثر على جردة حسابية بكل ما يتعلق بقرننا العشرين المنتهي: "هل لاحظتم ان كل شيء في هذا القرن قد أضحى أكثر حقيقية، أضحى ذاته حقاً؟ فالجندي صار قاتلاً محترفاً" والسياسة أضحت لصوصية" ورأس المال، مصنعاً لتدمير الناس مزوداً بأفران" والقانون قاعدة لعبة يمارسها مخدوعون" ومعاداة السامية، "أوشفيتز"" والحس القومي، مذبحة. إن عصرنا هو عصر الحقيقة، وهو أمر لا مراء فيه الآن". ان هناك كل شيء في هذه الخفة النثرية الصغيرة، حيث تنافس دقة العبارة بصيرة الرؤية. بل ثمة حتى شيء من الأمل هنا وهناك.