في الوقت الذي بدأت انواع جديدة من التكنولوجيا غزوها حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتغيير انماط عيشنا، وفي الوقت الذي جاء التقدم الهائل ليقلب ما كنا عليه رأساً على عقب، فنتخلى عن هويتنا أو نطعّمها من هنا وهناك لاهثين وراء التطور، لنتناول منه قدر الإمكان ونفوز بلقب "شو على الموضة"" تأتي ظاهرة لتقف أمام الابتكارات متحدية الموضة الجديدة فتجعل ممن يعتنقها صاحب لقب "شو على الموضة". هذه الظاهرة بتنا نرصدها في نواح عدّة. الأزياء كانت السبّاقة في هذا المجال. وإذا عدنا بالذاكرة إلى السنوات القليلة الماضية وجدنا السروال ذا الأرجل الفضفاضة والقميص المكشكش والمزممة ياقته وربطة العنق القصيرة... من أهم ما أعادته دور الأزياء إلى تصاميمها وهي تصاميم كانت رائدة في السبعينات. أما الأغاني فكانت أحد مظاهر هذه الأرتكاسة. فإذا قلبنا في أجهزة الراديو أو زرنا احدى المكتبات الموسيقية وجدنا أن أغاني السبعينات عادت في توزيعها السابق أو في توزيع جديد لتحتل المراتب الأولى في سباق الأغنيات. والظاهرة الثالثة التدخين، خصوصاً عند الشباب. لا تبدو مؤكدة علاقة هذه الظاهرة بموجة السبعينات وموضتها العائدة، غير انه من الواضح أنها ظاهرة التدخين عادت لتنتشر في شكل قوي وتشكل أحد عناصر الموضة في هذه الأيام. المجتمع اللبناني كله يدخن. مشوار قصير في وسط بيروت أو في إحدى المدن اللبنانية كافٍ إلى دفعك لملاحظة تعاظم عدد المدخنين من الشباب وكيف أن السيجارة عادت إلى صورة الشاب، تماماً كما سبق ان التصقت بصورته في السبعينات. فبعد ان انخفضت نسبة التدخين في لبنان في الثمانينات أو على الأقل لم تكن منتشرة كما هي اليوم عادت السيجارة لتعبق بدخانها في أجواء بيروت و بقية المناطق. وتقرير جمعية تجار التبغ الأميركي خير شاهد على ذلك. إذ إن لبنان بحسب التقرير الذي نشر سنة 1997يحتل المرتبة الرابعة كأكبر مستهلك للتبغ الأميركي بعد اليابان وبلجيكا وروسيا، وهذا يدفع لربط الظاهرة بفترة السبعينات، وعودة مفاهيم السيجارة المتعلّقة بتلك الفترة إلى أيامنا هذه، اذ يتسم الشاب وهو يحملها بالرجولة والجاذبية والفتاة بالإثارة والجرأة. الشباب اللبناني له ما يقوله في هذا الخصوص. يعرف تمام المعرفة كيف أصبحت السيجارة "مهمة" في مجتمعنا اللبناني وكيف باتت تشكل احد عناصر الموضة. تجربة البداية أسباب عدة تدفع الشاب الى التدخين، ويبدو أن البدايات تكون دائماً متشابهة. وها هو محمد 24سنة يخبرنا قصته وكيف بدأ بالتدخين. "بدأت التدخين حين كنت في الرابعة عشرة من العمر وكنت في حينها في الصف الرابع المتوسط. كنت أرى رفاقي يتسللون إلى مكان بعيد في ملعب المدرسة. وعندما عرفت انهم ينزوون لكي يدخنوا أحببت أن أجرب ذلك رغبة في تجربة شيء جديد. ما أعجبني هو شعوري بأنني اكبر. ومنذ ذلك الوقت بدأت أتعود على النيكوتين وبدأت احمل علبة الدخان. كنت اشتري كل يوم علبة وقداحة وأذهب لمحل البيليار المجاور للمنزل وهناك كنت أدخن براحتي. ما كنت أخشاه هو أن يعرف أهلي. غير أن أمي فاجأتني أدخن مرة، فاضطررت لإخبارها الحقيقة واعداً إياها بأنني سأقلع عنها، ولكن جنّ جنونها وطلبت مني بإلحاح الإقلاع عن التدخين مهددة بأنها ستخبر والدي. حاولت بالفعل ان اقلع عن التدخين غير أنني كنت قد تعودت على السيجارة وبات من الصعب جداً تركها. وعندما عرفت أنني أصبحت مدمناً، صارحت أمي ومن بعدها أبي وعرفت كل العائلة. ويتابع ساحباً نفخة من سيجارته، مرجعاً كتفيه إلى الوراء، مخرجاً الدخان من ناحية واحدة من فمه: "لا ادري ما إذا كنت أرى في السيجارة مظهراً من مظاهر الرجولة غير أنني لا أنكر أنني احب أن اظهر والسيجارة في يدي. فضلاً عن ذلك لديّ هوس بتذوّق أنواع السجائر، كما أنني أهوى تذوّق النكهات المختلفة والغريبة كتلك التي على شوكولا أو على ليمون أو على نعناع... كما أنني احب السيجار فهو يظهر صاحبه بشكل أنيق...". وعند سؤاله عما إذا كان يفضل عدم التدخين، قال: "في الحقيقة لا احب شعور التقيّد التي تولده السيجارة فأحياناً كثيرة اشعر بالإحراج عندما احتاج إلى التدخين في أمكنة غير مسموح أو غير مرغوب التدخين فيها. انصح كل إنسان أن يبتعد عن التدخين... أما بالنسبة إليّ فأنا أقلعت عنها لمدة أسبوع، وهذا يكفي!". هند 18 سنة تؤكد أنها لولا صديقاتها لما بدأت بالتدخين. "بدأت التدخين في سن ال16 وكنت في سنتي الثانوية الثانية. رفيقاتي كن يدخن، مانعت أولاً ولكن كنا نذهب إلى الغذاء وبعد الأكل الكل كان يدخن، وبدأت معهن مع أنني لم احبها من المرة الأولى. إلا أن رفيقاتي كنّ دائما يعطين السيجارة أهمية كبرى في شكل أنها الحل لمشاكلهن. بعدها تعرفت على شاب كان يدخن ما زاد تعلقي بها، خصوصاً بعد المشاكل التي ولدّتها علاقتي به. ومن ذلك الوقت أصبحت السيجارة كل شيء في حياتي". ويمر المراهق بتجارب وأدوار جديدة وسلوكيات عدة مختبراً مواقفه وسلوكه. ويلجأ الشاب إلى التدخين كرد فعل على كل ما يواجهه. يتذكر داني 24سنة كيف بدأ التدخين ويقول تاركاً السيجارة طوال الوقت في فمه: "اذكر أنني كل مرة كنت امسك فيها السيجارة كنت أواجه نفسيا سلطة أهلي، كما أنني كنت اشعر بالراحة من توتر علاقتي بهم وبأنني بذلك ابدأ بتكوين شخصيتي". التلفزيون والتلفزيون صاحب التأثير الأهم. وكما كان مُشاهد السبعينات ينتظر نجمه المفضل ليظهر على الشاشة فيقلده في المأكل والملبس والفعل، يعمل مشاهد اليوم على تقليد ما يراه على التلفزيون وفي وسائل الإعلام والإعلان المختلفة. إذ تؤكد زينة 22 سنة : "ان التلفزيون ساهم في شكل كبير في إقبالي على التدخين. فأنا مهووسة بالممثلات ورغبتي بتقليدهن كبيرة. كلنا يتذكر "شارون ستون" وكم بدت أنيقة ومثيرة حين أمسكت السيجارة في Basic Instinct. كل مرة امسك السيجارة وأحركها بيدي أحس بأنني بمنتهى الأناقة والثقة بالنفس". واللافت عند زينة امساكها الأنيق للسيجارة فهي بالكاد تمسكها بين الإبهام والسبابة وتكاد لا تلامسها بشفتيها. كما إن السيجارة بحدّ ذاتها لافتة إذ إنها رفيعة، تناسب حجم أصابع زينة مما يسهل عملية تحريكها بيدها. والتأثير يتناول الشبان أيضاً فكما كان الممثل يبدو أنيقاً وجذاباً في السبعينات تأتي إعلانات اليوم لتكمل ما كان سابقاً، فنرى الشاب المدخن أنيقاً، وسيماً، جذاباً للجنس الآخر، سعيداً، مملوءاً بالصحة، وجهه مشرق يطالب بالحرية والسعادة. وهذا الأمر كان واضحاً في حديث سامي 17سنة الذي يرى في السيجارة "وسيلة للتعبير عن استقلاليتي ورجولتي. وأنا معها اشعر بالثقة. واعرف كيف تتغامز علي البنات و كيف أبدو بها جذاباً وأنيقاً. وكم أحس بالفخر حين تقول لي إحداهن "شو بتلبقلك السيجارة". ولا يخفى على الجالس مع سامي مفهومه للسيجارة. فالطريقة التي يمسك بها السيجارة لافتة إذ انه يتناولها من علبة الدخان بخفّة ويضع السيجارة في فمه بلباقة ويرسم بالدخان بعد كل سحبة أشكالاً دائرية يتفنن بإخراجها من فمه. أسباب إضافية مقنعة واللجوء إلى التدخين يرتبط بأسباب أخرى لا تقل أهمية عن تلك التي سبقتها فهي ترتبط أحياناً كثيرة بمجاراة الموضة أو بحسب العادة السائدة. ومن هذا المنطلق يؤكد رالف 19سنة. يمسك رالف بالسيجارة بين اصبعيه ويضعها في فمه ويشدّ عليها، بنفخ الدخان تارة من فمه وتارة من انفه: "يهمني جداً أن أكون على الموضة والكل يثني على أنني السباق في ذلك. لذا لا أستطيع ألاّ أكون IN . والتدخين اليوم موضة وإن لم أدخن أجد نفسي كثيراً OUT . كما إن شقيقي لا يدخن ولا يحب التدخين. غير انه وفي مناسبات عدة يضطر لحمل السيجار الكبير الحجم لكي يبدو أنيقاً". وقد تعود الأسباب إلى أمور يتوهم من خلالها المدّخن انه يحل مشكلات عدة كالسمنة مثلاً، حيث تعترف رامية 22 سنة ومن الواضح أنها لا تعرف كيف تدخن إذ أنها تسحب من السيجارة بسرعة وتخرج الدخان بسرعة اكبر "بدأت بالتدخين رغبة في تخفيض وزني. فأنا أجوع كثيراً والسيجارة قد تلهيني عن الأكل فأتسلى بها بدلاً من أن أتسلّى بالأكل. التدخين يقطع القابلية" ويعيد عدد كبير من الشبان ظاهرة التدخين إلى الحرب اللبنانية. فهو يرى أنها رد فعل طبيعي بدأ أثناء الحرب اذ كانت أعصاب الناس مشدودة ومتعبة، أو يربطها بالظروف الاجتماعية والاقتصادية الضاغطة فتكون السيجارة بمثابة "التنفيسة" أو "فشة الخلق". ولا يخفى أن البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الشاب المدخن تلعب دوراً كبيراً. وعن هذه التجربة تقول ندى 20 سنة "بدأت أدخن بعد أن تعوّدت على شمّ رائحة السجائر في كل مكان في المنزل. والدي يدخن وأمي وأخي الأكبر كذلك، وعندما حاولت التدخين لم يمنعني أحد". أما بالنسبة إلى تأثير التدخين في صحتها تقول ندى: "سأموت إن دخنت أم لم أدخن. فلماذا لا أتمتع بحياتي وأعيشها كما يحلو لي". وندى تدخن في شكل محترف فهي تلتقط السيجارة بطريقة جيدة، وتغمض عينيها عندما تسحب من السيجارة، وتدخن سيجارتين متتاليتين كل مرة. أشكال جديدة ويتخذ التدخين اليوم أشكالاً عدة، منها ما هو قديم ومنها ما هو جديد. فتدخين سجائر اللف يعتبر أمراً قديماً في التدخين غير انه عاد اليوم ليظهر مع المدخنين الشباب. وعن هذا يخبرنا جو 24سنة وهو منكب على تحضير سيجارته بعناية فائقة فينتقي التبغ بتأنٍ ويلّفها بإتقان: "بعد أن وجدت أن السيجارة الجاهزة تتعبني، وبعد أن جربت أصنافاً عدة ولم ارتح لأي منها، قررت أن أدخن "لفّ". ومن ذلك الوقت بدأت ارتاح في التدخين فلا آلام في الصدر ولا سعال حاداً. شخصياً، أظن أن سجائر اللف انظف وصحيةّ اكثر من الجاهزة. على الأقل أنت تعرف نوعية التبغ الذي تلفه وتجهل ما هو موجود في التبغ الجاهز. صحيح ان السجائر الجاهزة اسهل للتدخين غير أنك في اللف تربح صحتك". أما سجائر أل"LIGHTS" فهي من أهم أشكال التدخين الجديدة. وتقول سهى 22سنة في هذا الخصوص: "في الواقع إن تدخين أل"LIGHTS" يريح ضميري. فمع كل ما يقال عن التدخين ومع عدم قدرتي على إيقافه أجد ان السجائر الخفيفة أقلّ ضرراً فنسبة النيكوتين تكون أخفّ وبالتالي ضرر السيجارة يخفّ. أعرف أن هذا النوع من السجائر مضر من ناحية مكوناته حيث كمية المواد الكيماوية كثيرة. إلا انك وعند المقارنة تجد أن المواد الكيماوية أخف ضرراً من النيكوتين. عكس التيار وسط هذه الأجواء العابقة بدخان السجائر قلة من الشباب تحاول إخماد بعض هذا الدخان. فيظهرون منزعجون متضايقون من كثرة السجائر هنا وهناك، ومتفاجئون من عودة هذه الظاهرة وتسلّقها أعلى قمم مظاهرنا الاجتماعية اليوم. ومن بين هذه الجماعة القليلة يأتي عصام 23سنة ويخبرنا عن رأيه منفعلاً: "اكثر ما يفاجئني في المدخنين انهم يعرفون مدى التأثير السلبي للدخان في صحتهم غير انهم يستمرون. من المؤسف أن يعتقد هؤلاء الشباب بأن التدخين هو الحل لمشاكلهم. وما يؤسفني أكثر هو وقوع هؤلاء الضحايا في شبكة السياسة الإعلانية التي تحيكها شركات التبغ العالمية. ما يغضبني هو الربط الساذج الذي يقيمه الشباب اللبناني بين السيجارة والرجولة والإثارة والسعادة... أريد فقط أن اعرف ماذا يكون موقف المدخن حين يعلم أن بطل دعايات "مارلبورو" - القوي الوسيم - مات مصاباً بمرض السرطان، وذلك بسبب التدخين".