تركت التطورات الدولية التي نشأت بعد أحداث 11 ايلول سبتمبر 2001 في واشنطنونيويورك آثاراً سلبية مباشرة على الصراع العربي - الاسرائيلي، وتبدلت أولويات السياسة الاميركية المتعلقة بمعالجة النزاعات الاقليمية والدولية وأعلنت بدء الحرب على الارهاب، ولحقت بها دول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين وهيئة الاممالمتحدة ومؤسساتها. واحتلت الحرب في افغانستان وضد الارهاب موقع الصدارة في توجهاتها وتقلص اهتمامها بصنع السلام في الشرق الأوسط وحل النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي. وانتزعت تفويضاً بقيادة وتوجيه الحرب ضد الارهاب في كل مكان، ويبدو ان هذا التوجه الاميركي الجديد سيتحكم في وجه السياسة الدولية في العام الجديد 2002 وسنوات اخرى لاحقة. بسرعة استوعبت القيادة الفلسطينية الرسمية مدلولات هذا التحول وأبعاده على القضية الفلسطينية، وتحركت في أكثر من اتجاه لتجنيب الشعب الفلسطيني سلبياته. وأبدى الرئيس ياسر عرفات استعداداً لدخول التحالف الدولي ضد الارهاب. وأعلن عن وقف تام وشامل لإطلاق النار مع اسرائيل، ودعا حكومة شارون الى وقف عملياتها العسكرية في الأراضي الفلسطينية والعودة الى طاولة المفاوضات. وعلى رغم ان دعوته لم تلق تجاوباً اسرائيلياً وصعّد شارون أعماله العدوانية ضد الفلسطينيين شعباً وسلطة وأرضاً وممتلكات، إلا انها لقيت استحساناً في الشارع الفلسطيني وتركت أثراً ايجابياً في حقل السياسة الدولية. وأرسلت ادارة بوش "الجنرال زيني" مبعوثاً خاصاً للشرق الأوسط على رغم انشغالها بالحرب في افغانستان، وكلفته البقاء في المنطقة حتى يتم تشغيل قطار السلام الفلسطيني - الاسرائيلي واعادته الى سكته. وبدلاً عن استيعاب القوى الوطنية والاسلامية "قيادة الانتفاضة" هذه التطورات الكبيرة، تخلفت، ولم تحدث أي تغيير جوهري في خطابها السياسي أو في برامجها ونشاطاتها النضالية. ولم تقم بما يلزم لتحصين الجبهة الداخلية درءاً للاخطار التي تحملها موجة الحرب ضد الارهاب على القضية الفلسطينية. وبدلاً عن "التفاعل" مع موقف السلطة تخلفت "قيادة الانتفاضة" مرة أخرى، وعارضت التوجهات التي أعلنها عرفات ولم تستوعب مدلولات موقف حكومة شارون السلبي منها. وتمترست خلف شعار تلازم "الانتفاضة والمقاومة"، وواصلت "عسكرة" الانتفاضة. ونفذت حركتا "حماس" و"الجهاد الاسلامي" سلسلة عمليات "انتحارية" في حيفا والقدس والعفولة ومدخل مستوطنة عمانويل... الخ قتل فيها عدد كبير من المدنيين الاسرائيليين الأبرياء، واغتالت الجبهة الشعبية وزير السياحة الاسرائيلي "رحبعام زئيفي". ولم تفكر في نتائج عملياتها على الشعب الفلسطيني وعلى علاقتها بالسلطة. ونسيت ان المدن الاسرائيلية تعرضت في حرب الخليج عام 1991 الى قصف كثيف بالصواريخ، لكن شامير وأركانه غلاة المتطرفين فضلوا كسب الرأي العام العالمي وكسب الموقف الأميركي على توجيه طائراتهم لضرب المدن والمعسكرات العراقية. واستقبل الرأي العام العالمي العمليات "الانتحارية" ضد المدنيين الاسرائيليين باستنكار شديد، وظهرت اسرائيل في مرآة السياسة الدولية كأحد ضحايا "الارهاب" الفلسطيني. واستثمر شارون موجة التضامن الدولي في طمس جرائمه ضد الشعب الفلسطيني، ووظفها لصالح توجهاته المدمرة لعملية السلام والاتفاقات التي انبثقت عنها. ورفع شعار محاربة الارهاب الفلسطيني ومضى قدماً تحت سمع وبصر العالم في تحطيم مقومات قيام الدولة الفلسطينية المستقلة الى جانب دولة اسرائيل. واستغل الثنائي بيريز - شارون اندفاع ادارة بوش في الحرب ضد الارهاب، ونجحا في ادراج حركتي "حماس" و"الجهاد الاسلامي" و"حزب الله" اللبناني ضمن قائمة القوى الارهابية وقررت الادارة الاميركية وحلفاؤها عزلها ومحاصرتها تمهيداً لمطاردتها. وعلى رغم ادانة السلطة الفلسطينية اغتيال الوزير زئيفي والعمليات الانتحارية وتعهد رئيسها عرفات بمعاقبة المسؤولين عنها، الا ان ادارة الرئيس بوش اعتمدت مقولة شارون، ان السلطة الفلسطينية اطار يرعى الارهاب ورئيسها يقود منظمات ارهابية. وساوت هجوم حركتي "حماس" و"الجهاد الاسلامي" على المدنيين الاسرائيليين بالهجوم الارهابي على المدنيين الاميركيين. وحمّلت السلطة الفلسطينية ورئيسها عرفات مسؤولية التهاون في محاربة الارهاب والتساهل مع "حماس" و"الجهاد". وعدم بذل الجهد الكافي لتوفير المناخ الملائم لنجاح مهمة مبعوثها الخاص "زيني". ومنحت شارون ضوءاً أخضر لتصعيد حربه على "الارهاب الفلسطيني" وتدمير المنظمات الفلسطينية التي ترتكب أعمالاً ارهابية ضد المدنيين الاسرائيليين الأبرياء. وربطت ادارة بوش تفعيل دورها في رعاية عملية السلام، وتخفيف معاناة الفلسطينيين وقهر الاحتلال واجراءاته غير الانسانية، بتنفيذ السلطة الفلسطينية عدداً من الاستحقاقات الداخلية، أولها، اثبات سيطرتها الأمنية على الوضع في الأراضي الفلسطينية، ومحاربة "المنظمات الارهابية" ومنع وقوع عمليات جديدة ضد المدنيين الاسرائيليين، واعتقال مدبري العمليات الانتحارية التي نفذت داخل اسرائيل وتقديمهم للمحاكمة. وثانيها، تفكيك بنية حماس والجهاد الاسلامي التي صنفتها ضمن قائمة المنظمات الارهابية. والتقط شارون هذا الموقف الاميركي واندفع باتجاه القضاء على بقايا عملية السلام، وشطب "أوسلو" والاتفاقات الأخرى التي انبثقت عنها، وتدمير مؤسسات السلطة الفلسطينية وركائزها المدنية والعسكرية. وتجاوزت اجراءاته العملية جميع الخطوط الخضراء والحمراء، وبلغت حد اعتبار القيادة الفلسطينية الشرعية المنتخبة "غير ذي شأن" والتخطيط للاطاحة بها. ومنع شارون الرئيس عرفات من المشاركة في احتفالات عيد الميلاد المجيد في بيت لحم، ودفع دباباته نحو مقر السلطة في مدينة رام الله ووقفت على بعد مئات الأمتار فقط، ولم تحاول ادارة بوش وضع حد لأعمال شارون وظهرت وكأنها تباركها. وفي سياق حماية المصالح الفلسطينية العليا وتجنيبها شر العاصفة الهوجاء وتوفير الغطاء الدولي للنضال الفلسطيني المشروع، وتقليص جبهة الخصوم والاعداء ومنع شارون استثمار التطورات والأحداث السلبية، أقدم رئيس اللجنة التنفيذية على اعلان حال الطوارئ في الأراضي الفلسطينية، وأكد مجدداً على الوقف الشامل والفوري لجميع الأعمال العسكرية. واتخذت السلطة الرسمية عدداً من الاجراءات الأمنية والتنظيمية الداخلية، وضمنها اعتقال كوادر في الجبهة الشعبية وحركتي حماس والجهاد الاسلامي واغلقت عدداً من مؤسساتهما الحزبية والاعلامية ووضعت اليد على مراكزهما الاجتماعية والصحية. وبدلاً عن استيعاب "قوى المعارضة" الدوافع والأسباب التي دفعت القيادة الفلسطينية لاتخاذ هذه الاجراءات، أعلنت هذه القوى، في بيانات مستقلة، تمسكها بالمقاومة المسلحة ضد الاحتلال باعتبارها حقاً مشروعاً. ودعت الى التعبئة العامة...! واكد بعضها عزمه على مواصلة عملياته القتالية بجميع أنواعها ضد اسرائيل. وبدلاً عن قيامها بمبادرات ذاتية نوعية تحول دون عزل النضال الوطني، دعت قيادات المعارضة في بيانات علنية الى "عدم الرضوخ إلى قرار ما يسمى بوقف اطلاق النار، وإلغاء حال الطوارئ والمشاركة في صنع القرار وإلغاء اغلاق مؤسسات حركتي حماس والجهاد الاسلامي، وعدم الارتهان الى خيار ما يسمى بالمفاوضات السياسية العبثية على أساس مرجعيات واتفاقات أوسلو وتحت رعاية اميركية منحازة... الخ"، واعتبرت اجراءات قيادة السلطة مساساً بالوحدة الوطنية وتضعف تماسك الجبهة الداخلية. ونفذ بعضها عمليات عسكرية جديدة ضد المدنيين الاسرائيليين. لا شك في ان تباين مواقف القوى الوطنية والاسلامية واختلاف رؤاها السياسية والتنظيمية والفكرية مسألة طبيعية وظاهرة صحية. وبينت التجربة الفلسطينية الطويلة، قبل وبعد قيام السلطة، ان الاجماع حول هذه القضايا مستحيل، ناهيك عن كونه ليس مطلوباً من حيث المبدأ. وبصرف النظر عن النيات، أرى ان مواقف قوى المعارضة وخاصة حماس والجهاد الاسلامي والجبهتين الشعبية والديموقراطية من التوجهات الوطنية الجديدة التي أعلنها رئيس اللجنة التنفيذية ياسر عرفات في خطاب العيد، اتسم بضعف الشعور بالمسؤولية الوطنية، وتسبب في توتير الأجواء الداخلية. ودعوتها للتعبئة العامة للكفاح المسلح يظهرها، على رغم خبرتها الطويلة، وكأنها لا تزال تعيش مرحلة المراهقة السياسية والطفولة اليسارية. ويشير الى انها لم تستوعب المتغيرات التي وقعت في ادارة الصراع مع اسرائيل بعد هجوم 11 ايلول على نيويوركوواشنطن، مثل عدم استيعابها من قبل، أبعاد فوز شارون في الانتخابات الاسرائيلية. وظهرت العمليات الانتحارية التي نفذتها المعارضة في اسرائيل وكأنها تستهدف المصالح العليا للشعب الفلسطيني واضعاف مصداقية قيادته الشرعية "السلطة منظمة التحرير" اكثر من استهدافها مصالح اسرائيل الاستراتيجية، وتريد استدراج مزيد من الضربات العسكرية الاسرائيلية المدمرة لمؤسسات السلطة ومراكز اجهزتها الأمنية والعسكرية والبنية التحتية الفلسطينية. صحيح ان هذه العمليات أثبتت فشل شارون والمؤسسة الأمنية الاسرائيلية نسبياً في توفير الأمن للاسرائيليين، لكن الصحيح ايضاً انها وضعت الشعب الفلسطيني أمام خطر خسارة العديد من الانجازات المهمة التي حققها في السنوات القليلة الماضية، وخطر اسقاط نموذج الحالة الافغانية على نضاله العادل والمشروع ضد الاحتلال ووصمه بالارهاب. وعندما تصبح حركتا "حماس" و"الجهاد الاسلامي" و"الجبهة الشعبية" في دائرة القوى الارهابية المستهدفة أميركياً وأوروبياً وغدا من قبل النظام الرسمي العربي... فإن ذلك يشكل، في الظروف الراهنة المعقدة، مأزقاً ليس فقط لهذه القوى بل وايضاً للقيادة الشرعية الفلسطينية. وجعل صيغة "قيادة الانتفاضة" التي تجمع القوى الوطنية والاسلامية عبئاً ثقيلاً على الانتفاضة ذاتها. لا شك في ان اعلان قيادتي حماس والجهاد الاسلامي وقف عملياتهما الانتحارية التي تستهدف المدنيين الاسرائيليين خطوة في الاتجاه الصحيح يجب تقديرها، لكنها بالتأكيد لم تخرجهما من دائرة الاستهداف الدولي التي حشرت نفسها فيها، خصوصاً أنها جاءت متأخرة جداً. واذا كانت السلطة وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية ملزمة في المرحلة الراهنة بعمل كل ما يلزم لحماية المصالح العليا للشعب الفلسطيني ووضعها فوق كل الاعتبارات الأخرى، فإن قوى المعارضة الفلسطينية وبخاصة حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" و"الجبهة الشعبية" ملزمة بإجراء مراجعة شاملة واستخلاص عبر التجربة وإنهاء حال الترقب والقلق التي تعيشها كوادرها وجميع الحريصين على الوحدة الوطنية. وعمل كل ما يلزم للخلاص من المأزق التي حشرت نفسها فيه. وهي مطالبة ايضاً باحترام قرارات السلطة الشرعية المنتخبة ودعم جهودها من أجل تجاوز مرحلة الخطر. وتخطئ المعارضة اذا اعتقدت ان اضعاف اسرائيل بدعم اميركي للسلطة الفلسطينية يوفر فرصة لخلق نوع من ازدواجية السلطة. ومفيد ان تتذكر المعارضة الفلسطينية ان الشعبين الفلسطيني والأردني دفعا دماً زكياً ثمن شعار ازدواجية السلطة الذي رفعته فصائل في المقاومة الفلسطينية في العام 1970. * كاتب فلسطيني.