حين اتهمت الدولة الأميركية، رئاسة وقضاءً واستخبارات، "قاعدة" أسامة بن لادن بجريمة الحادي عشر من أيلول سبتمبر أعرب عرب كثيرون عن دهشتهم بإزاء التسرع الأميركي، ووصفوا التهمة بالخفة وضعف البينة. وتحقق عندهم ما كانوا يعرفونه معرفة جازمة وهو أن القوانين والحقوق ليست إلا ستاراً تتستّر به القوة. وعندما مدح أسامة بن لادن في شريطه الأول، مساء اليوم الأول من القصف الأميركي على "القاعدة" وحماتها، "كوكبة الشهداء" الذين قتلوا حرقاً وخنقاً ودماراً نحو ثلاثة آلاف مدني، ورجا لهم عند ربهم خير مآل، لم يفهم طلاب البينة دعاء من يسمّونه "الشيخ" انتحالاً لشرف الفعلة، ولا حملوه على ادعائها أو دعواها. وإذا تراوى "الشيخ" المزعوم وضيوفه، في الشريط الثاني، فرحة من فرحوا بالفعلة، وتهاني من هنأوا وهنئوا، ومديح المادحين وشكر الشاكرين ورجاء الراجين، لم يقع طلاب البيّنة على بيان ولا على دليل. ونسبوا الشريط، وهو من بث وسيط أمين ارتضاه صاحب "القاعدة" رسولاً وزكاه مبلّغاً، الى تزوير اميركي ظاهر. ولم يقولوا كيف ظهر هذا التزوير لهم، او عليهم، ولا كيف خفي على سواهم وغيرهم. وما لم يحسمه الشريطان الأولان لم يبته الشريط الثالث ولا تمييزه "الارهاب المحمود" من "الارهاب المذموم". وربما لجأ طلاب البيّنة الى عكس الأمر فقالوا: إذا كانت هذه هي الدلائل على ما دين اسامة بن لادن به فكيف جاز للولايات المتحدة الاميركية ان تستبق الدليل، وتحشد الجيوش، وتقصف، قبل ان تستدل بالبينات على دعواها ومزاعمها؟ وفي الاثناء نسي المحتجون "التسعة عشر كوكباً"، وتقسيمهم على الطائرات الأربع، وسِيَرهم وتعليمهم وأسفارهم وانقطاعهم وأموالهم وحوالاتهم ورصدها كلها وروايتها سبقا العمل العسكري. والحق ان اهمال هذا الضرب من القرائن وازدراءه، ونعته بالتلفيق والانتحال، هو الوجه الآخر والمتمم لقرائن يستحيل الوقوع عليها. فما ينشده طلاب الأدلة الجرمية القاطعة على الارتكاب والمسؤولية هو ابراز المدعي، او المتهِم، صوراً غير مزورة لمراحل التخطيط والإنفاذ من أولها الى آخرها، ويسبقها إعلان العزيمة او العزائم بعد إعلان النية او القصد. وينبغي ان يشمل هذا الضالعين كلهم، واحداً واحداً. وإذا صدرت هذه الوثائق، على افتراض جوازها، عن المدعي بطلت حكماً. فإذا لم تكن ملفقة أو مزورة فهي بنت الإكراه والقسر، لا ريب في الأمر. واشتراط هذه الشروط وسبق اشتراطها على مدعي دعوى الإبادة النازية الألمانية في حق يهود أوروبا - لا يحول بين المشترطين وبين تعليل الحادثة الارهابية المروعة تعليلاً "منطقياً" و"نفسياً" بالغطرسة والاستعلاء الأميركيين. وعلى هذا ينفي طلاب البينة ثبوت البينة على بن لادن و"قاعدته" و"طالبانه" الذين آووه، من وجه اول، وينسبون العمل الارهابي، "المحمود" على مذهبهم ومذهب صاحبهم، الى سلسلة علل وأسباب تؤدي بمن يأخذ بها الى حمل العمل على عقلانية سياسية ناصعة. وتقلب سلسلة العلل والأسباب التبعة عن العمل. فليس بن لادن وأصحابه من يسألون عن العمل، بل ينبغي ان تسأل "أمريكا" عنه. فهي مقترفته، مادياً ومعنوياً. وليس اصحاب "الشيخ" المزعوم إلا أداة تدمير "أمريكا" نفسها بنفسها، على ما كتب لها وقدِّر. فمن يتحفظون عن الأدلة، وينبهون الى "سقطات" منطقية في بعض عناصرها، ويشككون في جواز التلفظ بهذه الكلمة، أي ان من يُصلون الأدلة المعلنة نقداً منطقياً صارماً، ينتهي بهم الأمر الى غيبيات وأقدار لا يزعم لنفسه علماً بها إلا ملهم لا تحصى كراماته والآيات البيّنات التي أظهرت على يديه. وهو شأن المشككين في الإبادة. وفي أحيان كثيرة القوم واحد. فمن يطلبون بيان الأمر او المرسوم الموقع بالإدارة ينتهون الى نسبتها الى ضحاياها نسبة اكيدة وموثقة. وهذا من بعض احوال الهذيان المعروفة. فهو يترجح بين نقيضين او ضدين: علواً وهبوطاً، يمنة ويسرة، منطقاً ورجماً. * كاتب لبناني.