في سنة 1945 حصل الشيخ محمد مصطفى شلبي على درجة العالمية في أصول الفقه من جامعة الأزهر الشريف عن رسالته في موضوع «تعليل الأحكام: عرضٌ وتحليلٌ لطريقة التعليل وتطوراتها في عصور الاجتهاد والتقليد». وعلى رغم أن هذه الرسالة تعتبر فتحاً جديداً في دراسة أصول الفقه بعامة، وفي مبحث «العلة» بخاصة؛ إلا أنها لا تزال مغمورة، ولم تأخذ حقها من الذيوع والانتشار بين طلاب العلوم الشرعية، ويكفي للتدليل على ذلك أنها طبعت مرتين فقط خلال سبعين عاماً؛ حيث صدرت طبعتها الأولى سنة 1947، وصدرت طبعتها الثانية سنة 1981، وتوفي صاحبها سنة 1418ه 1997 م. ما يجعلنا نعيد قراءة هذه الرسالة هو أن الشيخ شلبي رحمه الله اختط منهجاً نقدياً رصيناً وغير مسبوق في دراسة أصول الفقه. وقد حاول تحرير هذا العلم من كثير من القيود التي كبّلته وعزلته عن مجريات الحياة ومشكلاتها. وفي سياق الرسالة برهن الشيخ على جواز تعليل الأحكام الشرعية بالحكمة. والحكمة هي المقصد، والمقصد هو المصلحة باعتبار أن مدار أحكام الشريعة رعاية المصالح ودرء المفاسد. وهذه القراءة التي نقدمها تنصب فقط على مسألة «التعليل بالحكمة» أو «التعليل بالمقصد» في ضوء ما ذهب إليه الشيخ شلبي. فالعملُ بمقتضى المقاصد؛ التي هي المصالح؛ هو الصوابُ المحمود كما يقول كثيرون من قدماء الأصوليين ومحدثيهم. وكلما طالع غيرُ الأصوليين مثلي ما قاله النظار قديماً وحديثاً في «مبحث العلة» ومسائلها المتشعبة؛ يتمنى أن يترجح هذا الجدل المقيم في العقل الأصولي منذ قرون من دون أن يثمر شيئاً عملياً، وأن يرسو على قاعدة «التعليل بالمصالح المعتبرة»، أو بالمقاصد الشرعية. وهذا الحسمُ بالترجيحِ وذاك الرسو لهما ركن شديد يأويان إليه ويعتمدان عليه. وقد كشفَ الشيخُ شلبي في رسالته عن أن هذا «الركن الشديد» مشيد بمسلك القرآن، ومسلك السنّة، ومسلك الصحابة والتابعين وتابعيهم من قبل أن يبدأ عصر تدوين الفقه وأصوله. وتكشفُ لنا البحوثُ الأصولية ذات الحس التاريخي وما أندرَها وما أحوجنا إليها عن أن هناك خطاً متصلاً للقول بالتعليل بالحكمة؛ أو بالمقصد، أو بالمصلحة؛ منذ الكرخي (ت332ه)، الذي كان أولَ من أشارَ إلى ارتباط الحكمة بالمقاصد، مروراً بالجصاص (ت 370ه) الذي افتتح التوجه المقاصدي عند الأصوليين، وتلاه الدبوسي (ت 432ه) الذي فسرَ الحكمةَ بأنها الفقهُ، الذي هو اسم لضرب معنى ينال بالتأمل والاستنباط، والجويني (ت 478ه) الذي قال: «ليس يمتنع في حكمِ الله أن تكونَ العلةُ المستثارة هي الحكمة المرعية الشرعية في القضية التي ثبت حكمها بالنص»، والسرخسي (490ه) الذي ربط الحكمة بالمعنى؛ فالحكمةُ عنده هي المعنى المُؤثِّرُ. ثم الإمامُ الغزالي (ت 505ه) وهو من كبار المعللين بالحكمةِ كما هو معلوم، والفخر الرازي (ت 606ه) الذي قال في محصوله «إن الفقهاءَ يسمون الحاجة لتحصيل المصلحة ودفع المفسدة بالحكمة»، وبدأ مؤيداً للتعليل بالحكمة لكنه انتهى إلى القول بالمنع في رأي البعض. وابنُ قدامة الحنبلي (ت 62ه) الذي قالَ إن «الحكمةَ هي المصلحةُ المظنونة في محل النصِ»، وتلاه الآمدي (ت 631ه) الذي قال «الحكمةُ تحصيل المصلحة أو تكميلها، ودفعُ المفسدة أو تقليلها على وجه تكون معه مقصودة للشارع من شرع الحكم»، ثم العز بن عبدالسلام (ت 660ه) الذي أكد أن معظمَ مقاصدِ القرآن «أمرٌ باكتساب المصالح وأسبابها، وزجرٌ عن اكتساب المفاسدِ وأسبابها»، والإمامُ القرافي (ت 684ه) الذي أكد أن القياس مقتضٍ الحكمة، ويوافق القواعد من جهة تضمنه لتحصيل المصالح ودرء المفاسد»، ثم الإمام نجم الدين الطوفي (ت716ه) وما أثاره من جدل عميق حول رعاية المصلحة، وتوسع في القول بجوازِ التعليل بها إلى وجوبه، وفسَّرَ المصلحة بأنها السبب المؤدي إلى مقصود الشرع من عبادة أو عادة، وفسر الحكمة بأنها «الغاية المطلوبة من التعليل؛ وهي جلب منفعة أو دفع مفسدة...». وإذا استثنينا آل السبكي، الأب (ت756ه) والابن (ت771ه)، إذ كان لهما رأيٌ أوصل الابن إلى التحفظ الشديد على التعليل بالحكمة؛ سنصل من بعدهما إلى ابن تيمية (ت782ه) الذي شدد على رعايةِ الحكمة في تعليل الأحكام، ومن عقبه تلميذه ابن القيم (ت 751ه) الذي رسخ القول بأن مبنى الشريعة على الحكم والمصالح في المعاش والمعاد، ورفض التمثيل لحكمة الله في شرعه بأي مثل، قائلاً «ليس كمثل حكمته شيء». والشاطبيُّ (ت 790ه) وهو من أئمة هذا الخط الذي يقول بالتعليل بالحكمة. وإذا ما وصلنا إلى العصرِ الحديث سنستمع إلى العلامة محمد الأمين الشنقيطي (ت 1393ه) في مراقي السعود وهو يقول: لم تُلفَ في المعللاتِ علةٌ خالية من حكمةٍ في الجملة». وهكذا امتد هذا الخط الأصولي المقاصدي القائل بالتعليل بالحكمة منذ البدايات الباكرة للكتابة الأصولية ولاحظ أننا لم نتتبع أعلامه على سبيل الحصر، وإنما على سبيل المثال فقط إلى أن نصل إلى الشيخ محمد مصطفى شلبي (ت 1418ه/1997م)، الذي افتتح برسالته في التعليل مرحلة جديدة في تاريخ الكتابةِ في الأصول. وكان الأساسُ الذي وضعه الشيخ لهذه المرحلة الجديدة هو «العودة إلى ما قبل تأليف الأصول؛ إلى عصر الصحابة ومن بعدهم من التابعين وتابعيهم، ومن قبل ذلك إلى طريقة القرآن والسنّة؛ إلى حيث يقف الجميع صامتاً مستسلماً» على حد قوله. ليس الشيخ شلبي وحده هو من جدد الكتابة في علم الأصول وعلم المقاصد معاً، وإنما هناك آخرون ساهموا في إرساء أسس هذه «الكتابة الجديدة» من أمثال الطاهر بن عاشور، وعلال الفاسي، والترابي، وباقر الصدر، واستفاد منهم كثيرون في محاولات تجديد الكتابة الأصولية منهم: يوسف حامد العالم، ومحمد أنيس عبادة. ولدينا اليوم جيل جديد بارع في الكتابة الأصولية الجديدة يضم في صفوفه أحمد الريسوني، وعبدالمجيد النجار، ونور الدين الخادمي، ومحمد الطاهر الميساوي، وجاسر عودة، وسيف الدين عبدالفتاح، ووصفي عاشور، وعبدالرحمن الكيلاني، وفريد شكري، والعبدلله. وهنا لا بد من نسبة الفضل الى أهله في تشجيع هذا الجيل الجديد في المقاصد والأصول. وأهل الفضل هنا هم القائمون على «مركز دراسات مقاصد الشريعة في لندن» وعلى رأسهم معالي الشيخ زكي يماني ومن معه. ويكفي استعراضُ قائمة مطبوعات المركز، وبرامجه التدريبية، ومحاضراته التكوينية في علم المقاصدِ كي نعرفَ مركزية الدور الذي يساهم به هذا المركز في هذا المجال منذ تأسيسه في لندن سنة 2005. إن من يقرأ رسالة الشيخ بمقدمتها وخاتمتها ومتنها جميعاً؛ وفي نفسٍ واحد، يتبين له أن رسالته هذه «منهج» جديد في البحث الأصولي والمقاصدي؛ قبل أن تكون كتاباً في «تعليل الأحكام». ويتبين أيضاً أن «النقدَ» و «النزوع العملي» هما أَميزُ ما في هذا المنهج. وإليك البيان: أ الدرسُ النقدي: قال الشيخ شلبي إن «البحث عن العلة أو الحكمة أوسع من أن يحصر في القياس وحده، بل هو ضروريٌ لمعرفة أسبابِ المشروعات من صيغ العقود، أو من العقوبات بصورها جميعاً...». ومتابعةً مني على هذا أقول: إن ما كتبه الشيخُ في تعليل الأحكام أوسع كثيراً من أن يحصر في «التعليل بالحكمة وجوازه ووقوعه في الشريعة والفقه». فمنهجيةُ تعليل الأحكامِ التي عالجها الشيخ شلبي اشتملت على مسائل العلة بما فيها مسألةُ التعليل بالحكمة، وكلاهما برؤية نقدية عميقة ومقارنة تكونية دقيقة، تمكنَ الشيخ بها من الخروج من تلاطم الأقوال فيها بعد أن ألم بمطارح أنظارِ النظار من مختلف المذاهب؛ من دون أن ينزلقَ إلى المسائل التي وصفوها بعد طول عناء بأن الخلاف فيها لفظي! وأن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ والمباني. وكأن الشيخ شلبي أراد أن يقول: ان استمرارهم في التناظر بعد إقرارهم هذا، هو نوع من الرياضة العقلية لا أكثر ولا أقل! في مقدمة رسالة التعليل نجد «النفسَ النقديَّ» حامياً عند الشيخ شلبي منذ الصفحات الأولى. وقد بدأ النقد من حيث تجب البداية. بدأَ بنقد منهجية التعليم الأزهري التي مر بها في أربعينيات القرن الماضي، وانتقد ما آلت إليه المؤسسة الأزهرية برمتها بشأن الدراسات العليا في زمنه. قالَ وهو يسردُ قصة اختياره لموضوع الرسالة ما معناه أنه «تهيب» الدخول في باب التأليف و «الانتساب الى جماعة المؤلفين». وكشف عن علة تخوفه وتهيبه فقال: «والتأليف فنٌ لم نتلقاه في سني الدراسة الطويلة، فهو شيءٌ صعب المنال». وهذا نقد قاس وجهه الشيخ بصراحة الى مناهج الدراسة الأزهرية كونها لا تتضمن تدريباً عملياً على البحث وتشجيعاً عليه بمقررات خاصة قبل مرحلة الدراسات العليا. ثم ذكر ما سمّاه «متاعب أخرى» وأورد منها: «عدمُ الإرشاد، وقلة ما بأيدينا من المراجع،... وتأثيرُ الحروب في التموين العلمي باحتجاب الكتبِ في مخابئها». وهذا تصعيد من الشيخ للنقد، حتى طاول هيئات الإشراف العلمي على الطلاب (ولنتذكر أنه كان لا يزال طالباً!)، ونبَّه إلى تقاعس المؤسسة الأزهرية عن تطويرِ خدماتها المكتبية وقواعد معلوماتها المختلفة التي يحتاجها هؤلاء الطلاب وغيرهم من مريدي العلمِ والمعرفةِ. وبعدما بثَّ الشيخ شلبي بعضَ أحزانه ومراراتِه مما لاقاه من حيرة في اختيار موضوع البحث، وانعدام الإرشادِ العلمي، ونقصِ المراجع؛ تحدثَ عن معاناته في صوغ مشكلة البحث وهيكلته، ووقوعِه في «بحث الأصول»؛ ووصف غالب بحوثها وصفاً نقدياً لاذعاً فقال إنها «بحوثُ نظرية جاءت وليدة الزمن، اضطر إلى وضعها أتباعُ المذاهب المقلدون ضبطاً لمذاهب أئمتهم، ودفاعاً عنها في مجالس المناظرات؛ فجاءت ملتويةً، على ما يوجه إليها من الطعون والاعتراضات». لم يكتف الشيخُ بوصف أغلب بحوث الأصول بأنها «بحوث نظرية ملتوية» وهو أجرأ وصف صدرَ من عالم متخصص في الأصول وتراثها النظري في ما اطلعنا عليه ؛ بل استمر يعمقُ نقده مؤكداً أن «جمود» منهجية التعليل، والتكلف فيه كانا سبباً من أسباب اتهام الشريعة بعدم مسايرتها للزمن، وانفصالها عن الواقع. وصب جامَ نقده على قدماء «علماء التعليل» لأنهم كما قال: «رسموا له طريقاً مدعين أنه مسلكُ أئمتهم، هو طريق طويل تسافر فيه الأفكار، وتنقطع فيه الأعناق، وينتهي السائر فيه إلى غير ما يفيد: تعريفات وشروط، ومسالك واعتراضات، وتضييق وتشديد، واختلاف في مواضع الاتفاق، ودعاوى كثيرة...». ثم تعمق أكثر وأكثر في نفَسِهِ النقدي، ولمح إلى أن سوء استخدام بعض العلماء لدعوى الإجماع «إذا عدم الدليل»، يقول: «والإجماعُ في نظرهم سيف الله الصارم الذي تنحني أمامه الرؤوس، وينقطع عنده كل خصام، وهو الركن الذي يأوي إليه المتناظرون إذا طال الكلام... فبينما هذا يقول: أجمع الناس على ما أدعي، إذ يجاوبه خصمه: وأنا الآخر أجمع الناس على مذهبي». وكأنَّ الشيخَ أرادَ أن يقول إن بعضهم لم يتورع عن اصطناع مثل هذا المشهد العبثي باسم العلم والأصول. تلك المعاناة التي تحدث عنها الشيخ من دون أن يجد معيناً عليها من أساتذته، لم تفل عزيمتَه، بل إنها في ما يبدو لي عمقت من نزعته النقدية، وأوصلته هذه النزعة إلى «اكتشاف» منهجية جديدة في مبحث «التعليل»؛ خرج بها من ضيقِ عباءة التقليد إلى رحابةِ البحث الجديد. وقد تحدثَ عن منهجيته التي اكتشفها ووصفَ خطواتها: التعليل في القرآن، وفي السنّة، ثم في عمل الصحابة وفتاويهم، ثم عند التابعين وتابعيهم، وأضاف مستوى آخر بالغ الأهمية وهو: «كتب التاريخ والتراجم»، ثم قال «فألفيت طريقةً أخرى غير ما نراهُ في كتب الأصول، ورأيت الأحكام تدور حولَ المصالح، ومناط الحكم أو الإفتاء هو ما يترتب على الأمر من صلاح أو فساد، وأن المصلحة نالت القسطَ الوفير، وتربعت في مكانها اللائق، وكان من نتيجة ذلك أن سارت الشريعة بالمنطوينَ تحت لوائها، المستظلينَ بسمائها إلى حيث سعادتهم». وكان من اليسير على عقلية نقدية كهذه أن تهتدي إلى إدراكِ قيمة «الحرية» في عملية البحث والتنقيب، وألا يجد غضاضة في اللجوء إلى مصادر تاريخية لتكميلِ بحثه وقال: «وتخللت نسماتُ الحرية بين حلقات تلك السلسلة التي أحكم صنعها أهلُ الاصطلاح، وألقى البحثُ التاريخي على موضوع البحث شعاعاً من نور الحق». وانتقل من ذلك إلى تقرير ما قرره علماء الاجتماع في العصر الحديث وهو أن كل علم كائن حي وليد الهيئة الاجتماعية يتأثر بمؤثراتها فينمو بنموها، ويتطور معها ويجمد عند جمودها». التوجه النقدي قوَّى عزيمة الشيخ وأعلى سقفَ طموحه حتى وجدناه يتطلع إلى أن يبحث مسائل العلة من منبتها إلى وضعها الأخير (في أيامه) وكيف تأثرت بالعوامل المذهبية، وما قيمتها من الناحيتين النظرية والتطبيقيةِ، ولكنه اعتذرَ عن ذلك بندرة المراجع، وضعفِ كفاءة المؤسسة الأزهرية في توفيرها، وبتواضع «مركزه في الهيئة الاجتماعية»! وظل طموحُه من دون إجابة، ولم يقم باحثون أصوليون آخرون بالإجابة عليه لليوم على رغم أهميته النظرية والعملية. ب النزوعُ العملي: إن العقلَ النقدي للباحث الأصولي يأخذ بيده من خضم المناظرات ومعمعان الأقوال والاعتراضات، إلى ميدان الأعمالِ والاقتراحات القابلة للتنفيذ. وهذا ما حدث للشيخ، فقد اقترح، قبل أن يغادرَ مقدمة الرسالة أن «لو كان للتأليف في الأزهر إدارةٌ، أو أولاه الرؤساءُ شيئاً من عنايتهم، لكان للرسائل وضع آخر غير ما يراه الناس اليوم، وقبل اليوم، ولا نفسح في المجالُ أمام محبي البحث... وتمكنوا من القيام برسالتهم كاملة في الحياة، وتبوأوا مكانهم العظيم بين الطوائف الأخرى في الهيئة الاجتماعية». النظر النقدي العميق ساعدَ الشيخَ رحمه الله كذلك على الإتيان بالجديد في موضوعه. ومن ذلك كشفه عن أن دوران الأحكام حول المصالح هو ابن الإدراك الكلي للمقاصد العامة للشريعة، وفرع على أصل التعليلِ بالحكمة. ولما وصل إلى هذه النتيجة لم يكن مفاجئاً بالنسبة إلي على الأقل أن ينتقل مباشرة إلى ربط هذا التوجه في التعليل بواحدةٍ من كبريات قضايا العصر الحديث ألا وهي قضيةُ علاقة الدين بالمدنية، والتفاعل بين الحضارات، والعدالة والمحافظة على حقوق الضعفاءِ من جور الأقوياء. وهكذا؛ ظل النفسُ النقديُّ عند الشيخ حامياً إلى أن وصل إلى خاتمة رسالته. فقد اختار بعد هذا المشوار الطويل (أكثر من ثلاثمئة صفحة) أن يختتم بتقديم جواب عن سؤال عملي بحت هو: ما الذي جعلَ العلماءَ المتأخرين يمتنعون من التصريح بجواز العمل بالمصلحة (الحكمة) بعدما ظهر اتفاق أئمتهم على العمل بها؟ وبعد أن التمس العذر لمانعي العمل بالمصلحة؛ بكونهم منعوا العمل بالمصلحة سداً للذريعة، وضرباً على أيدي المستهترين وحفظاً للشريعة من تعدي حدودها، أو تُتركَ نصوصها تحت ستار المصلحة؛ بعد هذا كله وجدناه يكر على هذه الحجج بسيف نقده البتارِ. وقد أوضح أن موقف هؤلاء المتأخرين لم يثمرْ سداً للذريعة ولا عملاً بالشريعة. وأوضحَ أيضاً أن سد الذرائع نوع من المصلحةِ وليس قسماً من الذريعة. وإن المصلحة المتنازع عليها وامتنع التصريح بها سداً للذريعة أدتْ في الواقع إلى «عزل الشريعة عن خلق الله، لما وجدوا جمودَها بسبب وقوف المقلدين عند ما روي أئمتهم، فتحلل الناس منها إلى القوانين الوضعية، وإلى التحايل»، كما أدى موقفهم إلى قفل باب الترقي في وجه الأمة بمنعهم من تحصيل مصالحهم، وفتح باب الطعن على الشريعة من أعداء الإسلام. وقال وكأنه يصف ما يحدث اليوم في أكثر من بلد من بلادنا «ومع أن منعَ العمل بالمصلحة لم يحقق المقصود منه، فقد كان عند كل ظالم مستهتر من يمهدُ له الطريقَ إلى رغبته ممن انتسب إلى الفقه باسم الشريعة». * مستشار المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية - القاهرة