سقوط طائرة الهليكوبتر الروسية في الشيشان غدا برهاناً آخر مدوياً على ان الحرب القوقازية الثانية التي أعلن الجنرالات مرات "انتهاءها"، ما برحت جرحاً يوجع الشيشانيين ويستنزف روسيا. القيادات العسكرية الفيديرالية نفت بشدة روايات عن اسقاط الطائرة بصاروخ أو تحطمها بسبب عمل تخريبي، لكن سوابق كثيرة تدفع الى الشك في ادعاءات جنرالات تحرجهم الاحتمالات التي تدحض عملياً أقوالهم السابقة عن "السيطرة الكاملة" على الوضع في الشيشان، خصوصاً ان الحادث الأخير جاء اثر سلسلة عمليات واشتباكات اثبتت ان النزف في القوقاز لم يتوقف بعد. وفوجئت القيادة الروسية بتزامن التصعيد الميداني مع حملة ديبلوماسية - اعلامية في الولاياتالمتحدة وأوروبا ومناطق أخرى من العالم، للمطالبة بوقف الحرب والجلوس الى طاولة المفاوضات مع الشيشانيين. وكانت موسكو تأمل بأن تكون مؤازرتها الحرب الأميركية في افغانستان، مفتاحاً يفك أبواب الغرب ويدفعه الى معاملة روسيا بالمثل وتأييد حربها القوقازية، أو على الأقل التغاضي عنها. لكن واشنطن اختارت ان تعبر عن "عرفانها" بالصواريخ الفضائية التي يجري اختبارها بعد اعلان الانسحاب من معاهدة "آي بي أم"، ما عنى كسر التوازن العسكري وخدش كرامة موسكو. وبعد تحجيم روسيا استراتيجياً بدأت مساع لتقليص دورها ومحاصرتها اقليمياً، بإقامة قواعد عسكرية أميركية في آسيا الوسطى والتحضير لقبول اعضاء جدد في حلف الاطلسي. ويتوقع ان يصدر الشهر المقبل قرار بالموافقة على انتساب دول البلطيق الى الحلف، لتكون أولى الجمهوريات السوفياتية السابقة التي تنضم رسمياً وفعلياً الى تكتل عسكري - سياسي كانت روسيا دائماً هدفه الأساسي. والى جانب ذلك، تساهم روسيا في اضعاف نفسها بالصراعات السياسية والعجز عن ايجاد حلول ناجعة للمشكلات الاقتصادية، وبالحرب الشيشانية التي تشل جزءاً كبيراً من امكانات التحرك الدولي وتعطل علاقات روسيا مع دول عدة. ولعل إصرار موسكو على "الحسم العسكري" واحد من المسببات الرئيسية لاستمرار الحرب الشيشانية، لكن هناك بالتأكيد أطرافاً داخل روسيا وخارجها ترش الملح على الجرح القوقازي. واللافت عودة الحياة المفاجئة الى "التعاطف" الغربي مع القضية الشيشانية التي بدا انها وضعت على رف بعيد. فالولاياتالمتحدة تجاهلت احتجاجات الكرملين واستقبلت السياسي احمدوف وزير الخارجية في حكومة مسخادوف. واصدرت الجمعية البرلمانية للاتحاد الأوروبي قراراً يطالب بأن تطبق على الحال الشيشانية بنود معاهدة جنيف المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب، ما أثار غضب موسكو التي اكدت ان المعاهدة تنطبق على الحروب بين دول، بالتالي فإن الدعوة الى تطبيقها تعني الاعتراف غير المباشر باستقلال الشيشان. وجاء هذا التحرك الديبلوماسي الغربي المقترن بتغطية اعلامية واسعة على خلفية صمت مريب إزاء القضية الفلسطينية، بل واستنكار لشرعية مقاومة الاحتلال الاسرائيلي. وهذا لا يعني اعتماد معايير مزدوجة فحسب، بل يوحي بأن ثمة مقاصد واضحة لاستثمار المأساة الشيشانية كوسيلة لصرف الأنظار عن المصيبة الفلسطينية، وتوجيه الانتقادات المريرة الى القيادة الروسية، لحماية الحكومة الاسرائيلية من المساءلة الأخلاقية والقانونية عن الجرائم التي ترتكبها. هذه الحقيقة تقتضي استيعاباً عربياً وتفادياً للأفخاخ وتحاشي الانجرار الى اللعبة الخبيثة، من دون ان يعني ذلك الكف عن مساندة قضايا عادلة في العالم. ونحن في الظروف الحالية نفتقر الى "انانية" تجعل الهم العربي متمحوراً حول القضية الفلسطينية، وتمنع الدخول في أزمات مع أطراف دولية نحن في حاجة الى مؤازرتها، أو على الأقل حيادها.