منذ تسعينات القرن العشرين، نهضت في العاصمة العراقية، ولاحقاً في مناطق ومدن عدة في البلاد، عمارة بملامح ضخمة من «الكونكريت» والزجاج والأعمدة العالية، وهو ما يعرف بطراز «دبل فوليوم» أو «الحجم المضاعف» في العمارة، خصوصاً الأبنية السكنية، إذ أوقفت الدولة البناء نتيجة العقوبات الدولية. وهذا الملمح يراه معماريون «دخيلاً ومشوِّهاً» للعمارة العراقية التي طبعها مهندسون من أجيال وصفت بأنها زاوجت بين رؤية الحداثة والخصائص المحلية البيئية والاجتماعية. وازداد التشوه هذا بأثر من الفوضى وغياب مؤسسات الدولة العراقية بعد الغزو عام 2003، فتعطلت دوائر التخطيط الحضري في بغداد وكبريات المدن العراقية، ما أدّى إلى أن يبني المواطنون ما يريدون، وكيفما اتفق، دونما سياق هندسي أو ضوابط معمارية. وبما أن غالبية من تولوا الإشراف على الدوائر البلدية في بغداد والمدن العراقية، هم من أصول اجتماعية غير مدينية، ولم يألفوا تقاليد الحياة فيها، وتحديداً في سياقات التخطيط الحضري، فإنهم لم يعترضوا على أساليب بناء تفتقر إلى الانسجام الهندسي والسلامة المعمارية، فسادت فوضى معمارية هي أقرب إلى التشوه، عمّقها الفساد الواسع الذي رافق ما سمي «مشاريع إعادة الإعمار» التي انتهت إلى أبنية عامة ورسمية مطلية بألوان فاقعة يعوزها التناسق والذوق السليم. فلا غرابة في أن تجد في بغداد اليوم مبنى حكومياً وقد طليت واجهته باللون الأرجواني، ولا مفاجأة في أن تجد مبنى هو حالياً الأعلى في بغداد، أي مبنى «مصرف الرافدين»، وقد تحول من اللونين الأبيض والذهبي إلى بناء من 15 طابقاً مغلف بمادة بلاستيكية واللونين الرصاصي والأحمر! وليس غريباً أيضاً أن تكون مراكز أمنية أو حواجز تفتيش مسورة بال «كونكريت» المصبوغ بالوردي، من دون أن ينسى القائمون عليها «تزيينها» بسلال من الورد الصناعي الذي تلاشت ألوانه لفرط الغبار والرصاص الذي تتركه عليه عوادم السيارات. اليوم يرد معماريون ومثقفون وفنانون تشكيليون أزمة غياب الذائقة إلى تحولات بغداد الصاخبة، وما تعيشه من هواجس موت وحياة في آن واحد. فيقول أستاذ العمارة في الجامعة الملكية الدنماركية للعمارة خالد السلطاني: «أياً تكن الأسباب التي أوصلت بغداد إلى هذه الحالة، فنحن إزاء مدينة-عاصمة لا تشبه مدن العالم ولا تماثل عواصمه، مدينة تائهة، فاقدة لذاكرتها، وطاردة لأهلها ومحبيها، هي الشاهدة الآن على موجات نزوح سكّاني، تعيد به ترتيب وضعها الانثروبولوجي والديموغرافي، وتجترح منظومة تراتبية جديدة، إضافة إلى قدر تعايشها مع التناقضات، خصوصاً ثنائية الحرب والسلم على سطح واحد». ويضيف السلطاني عن القلق البغدادي أن هذه «معايشة نادرة في تاريخ المدن، من حيث مراعاتها أولاً لمتطلبات الحرب، المفروضة عليها، ففضاؤها المكاني الآن مسرح لعمليات عسكرية مجنونة، لا رحمة فيها، ولا تراعي حرمة مواطنيها، وفي الوقت عينه، عليها أن تأخذ في الاعتبار شروط سلام ما والتحايل للتعايش معه، وهذا الوضع الغريب أفضى إلى هذا الوضع الملتبس الذي تعيشه بغداد اليوم وينعكس على كل مظاهر الحياة بما فيها العمارة». غير أن هناك من الفنانين والمعماريين من يذهب إلى أكثر، فهم أقرب إلى الغضب منهم إلى «التفهّم» الذي يبديه السلطاني في تحليله الهادئ، إذ يرون تلك الأبنية بالملامح المزركشة والألوان الفاقعة فيتحدّثون عن «انحدار بغداد إلى السوقية والابتذال»، ويلومون «الأجهزة الفاسدة والسفاهة الحكومية». غير أن مواطنين ممن اختاروا السكن، أو يعجبهم العمل في أبنية ضخمة مبهرجة الألوان، يقولون إنهم ملّوا «الوصاية» التي مارستها طويلاً أجهزة التخطيط الحضري في مؤسسات الدولة العراقية أيام النظام السابق، في إشارة إلى الألوان الترابية الكئيبة والعمارة المحافظة التي كانت سائدة، ويعتبرون أنهم «يحاولون إبعاد الماضي المحبط ونسيانه عندما لم يكونوا أحراراً في اختيار الألوان التي يريدون». الألوان الفجّة هي سيدة المشهد المعماري في بغداد وعدد من المحافظات. مؤسسات حكومية بالوردي والبرتقالي والأصفر، وجدران جامعات مطلية بالنفسجي، في ظاهرة يسميها التشكيلي قاسم سبتي «الاستهتار اللوني»، مضيفاً: «إنه لأمر مخجل، هذا أقبح شكل ظهرت به المدينة في تاريخها». ويرى المسؤولون إنهم «ليسوا مثل السلطة السابقة كي يتدخلوا في الاختيارات الشخصية لبناء المساكن والعمارات»، فيما يعتبر النقاد إن الظاهرة ناتجة من فساد مؤسسات وشخصيات تختار الأرخص والتعامل مع مقاولين يفتقرون إلى المهنية. الابتذال الذوقي صار سمة مكاتب العديد من المسؤولين. ومع انهمار الأموال عليهم بسبب امتيازات وحصص من صفقات، ظهرت شراهتهم إلى التعبير عن ثرواتهم الجديدة، حتى أن مسؤولين عدة بنوا قصوراً مطلية كالعادة في شكل فاقع، في مناطقهم الريفية الأصلية، ما جعل تلك القصور تبدو كيانات ممسوخة ومنفصلة عن البيئة الريفية المحيطة بها. وحيال هذه الفجاجة المعمارية، أطلق ناشطون «الحملة الوطنية لإنقاذ تراث بغداد العمراني»، وجاء في بيانها: «إننا كمواطنين عراقيين نفخر بموروثنا المعماري، ونعتبره جزءاً لا يتجزأ من هويتنا الوطنية، نناشد المسؤولين العمل في صورة عاجلة وجدية لإنقاذ تراث المدينة والحفاظ عليه، والابتعاد عن عمليات الهدم والترقيع والتجميل الزائفة، ما أساء إلى المدينة وشوّه طابعها». ولعل اللافت جمالياً في تلك الحملة، مشروع يحاكي إلى حد ما مشروع تطوير «وسط بيروت»، وهو مشروع «تطوير شارع الرشيد» الذي يعتبر، والمناطق المتصلة به، وسط بغداد القديمة ومركزها. ويأتي المشروع ضمن الخطوات العملية للحملة التي يصفها المهندس المعماري والمخطط المدني تغلب تقي عبدالهادي، بأنها جاءت بعدما «عانت مدينتنا، خصوصاً خلال العقد الماضي، الأمرّين، فتدهور نسيجها الحضري وتشوه طابعها المعماري، الأمر الذي لا يسعنا أن نسكت عنه، فمسؤولية الحفاظ على الموروث العمراني والثقافي تقع على عاتق الجميع بمن فيهم الدولة التي لا تعير الموضوع اهتماماً يذكر».