} فجأة ومن دون مقدمات، انحسر الحديث عن دور لبنان في قطاعات المال والسياحة والخدمات ليتوسع هامش الدفاع عن القطاعات المنتجة زراعة وصناعة. والمناسبة هي توقيع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. ولتسويق "انجاز" الاتفاق وتسجيله لحكومة باتت تبحث عن "انتصار ما" على الصعيد الاقتصادي، تحول خطاب الحكومة من مسوّق للبنان على انه مركز مالي وسياحي اقليمي الى مدافع عن مصالح المنتجين الزراعيين والصناعيين. وبما ان جوهر اتفاق الشراكة هو تحرير التبادل التجاري من الرسوم الجمركية والقيود الأخرى، اصبح الدفاع عن الزراعة والصناعة المادة شبه الوحيدة التي تستخدمها الحكومة في تأييد اجراءات إعادة الهيكلة والاصلاح التي تسابق الانفجار في ربع الساعة الأخير. "انه ليوم عظيم للبنان" قال الرئيس رفيق الحريري في معرض وصفه لحظة توقيع اتفاق الشراكة في بروكسل في 10 كانون الثاني يناير الجاري. فتوالت التصريحات وعقدت الندوات واللقاءات للحديث عن "اليوم العظيم" وما سيليه من أيام ملاح بفضل الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. فجأة ومن دون مقدمات، غاب خطاب ساد منذ أوائل التسعينات مفاده ان خطة الاعمار تسعى، في ما تسعى إليه، الى استعادة دور لبنانالمالي والخدمي في المنطقة. وأشفعت أدبيات هذا الخطاب دائماً بتبريرات ركزت على فقدان التنافسية والميزات التفاضلية في قطاعات الانتاج التقليدية، وتعزز الخطاب بممارسات وتشريعات وتسهيلات ضاعفت الودائع المصرفية سبع مرات في سبع سنوات، وزادت الغرف الفندقية عشر مرات، وبني مطار حديث يتسع لاستقبال ستة ملايين سائح سنوياً، وتضاعفت اسعار العقارات مرات عدة وتدفقت في قنوات هذا القطاع استثمارات من كل حدب وصوب حتى باتت قيمة المخزون العقاري غير المسيّل ستة بلايين دولار بحسب تقديرات صادرة عن مصرف لبنان. واحتدمت مضاربات محمومة في قطاع البناء والمقاولات حتى وصل متوسط استهلاك الفرد من الاسمنت 1500 كيلوغرام سنوياً في مقابل متوسط عالمي لا يزيد على 500 كيلوغرام. في المقابل، نمت الصادرات اللبنانية بمعدلات متواضعة حتى انها لم تتضاعف مرة واحدة في عشر سنوات. فتكدست المواسم الزراعية وكسدت. وكان المشهد عينه يتكرر سنوياً في مواسم البطاطا والمشمش والعنب والتفاح والموز. وفي القطاع الصناعي اقفلت معظم مؤسسات انتاج الخيوط والألبسة وتقهقرت صناعة الأحذية والجلديات وغيرها من قطاعات عرفت عصوراً ذهبية في لبنان. إذاً، "انه ليوم عظيم". ومنه فصاعداً، سيزيد لبنان صادراته الزراعية والصناعية على نحو يبدو معه المشهد وكأن مشكلات البلاد الاقتصادية والمالية حُلّت، وأن الانفتاح على العالم يمثل حلقة أولى وأخيرة من حلقات النمو الموعود. وبما ان قطار العولمة لا يسير إلا على سكة تحرير انتقال السلع والخدمات بلا معوقات، وبما ان العالم الغربي يحظى لوحده بأكثر من 75 في المئة من انتاج تلك السلع والخدمات، وبما ان الاتحاد الأوروبي يصدّر للبنان ما يساوي 20 ضعف ما يستورد منه، فإن "عظمة" توقيع اتفاق الشراكة ستؤول الى المنتجين الأوروبيين ويبقى للآخرين عظمة المغامرة في التحول الى اسواق استهلاكية. هل يعني ذلك ان امام لبنان خيارات اخرى غير الانخراط في هذه الشراكة اليوم او في الانضمام الى منظمة التجارة العالمية غداً؟ الجواب بسيط وساذج: لا خيارات اخرى متاحة لأن لبنان شأنه شأن الكثير من دول العالم الثالث بلد غير منتج بما يكفي اكتفاءه الذاتي، فكيف الحال بالنسبة الى التصدير؟ فصادرات لبنان تكاد لا تساوي 10 في المئة من مستورداته، ويمكن القول ان سلعة واحدة فقط من كل عشر سلع يستهلكها المواطن اللبناني هي من انتاج محلي! إذاً للبنان مصلحة في التحرير ونزع السلاح الجمركي لعل صادراته تزيد، أو تنخفض اسعار السلع المستوردة لمصلحة المستهلكين. وعكس ذلك يعني قطع الطريق على اي فرصة امام المنتجين الزراعيين والصناعيين في ولوج اسواق جديدة، في الوقت الذي لا يمكن الاعتداد بسوق داخلية لا يزيد عدد سكانها او المستهلكين فيها على عدد سكان مدينة في أوروبا. ويعني عدم التحرير ايضاً قطع الطريق على امكان خفض اسعار السلع المستوردة بالنسبة الى مستهلك قدرته الشرائية متواضعة، وهي في ضمور في ظل ازمة مالية واقتصادية جُمدت فيها الأجور منذ 1996 وزيدت الرسوم والضرائب آخرها الضريبة على القيمة المضافة على نحو مطرد لسد فجوة المالية العامة عجز الموازنة 50 في المئة وسداد دين عام نسبته الى الناتج 170 في المئة وحجمه 28 بليون دولار وهو مرشح للارتفاع الى 30 بليوناً نهاية العام الجاري. أين تحقق الإنجاز؟ وعلى ماذا نص الاتفاق؟ وأين الوهم من الحقيقة؟ في القطاع الصناعي، سيخفض لبنان رسومه الجمركية على السلع الصناعية الأوروبية المستوردة إليه بعد خمس سنوات من بدء نفاذ الاتفاق المتوقع منتصف العام الجاري، ويستمر الخفض تدريجاً حتى التحرير الكامل بعد 12 سنة. في المقابل يمنح الاتحاد الاوروبي الصادرات الصناعية اللبنانية إعفاء كاملاً من الرسوم فور بدء العمل بالاتفاق على ان يكون المنتج لبنانياً بقيمة مضافة عالية، أي ليس مجمعاً أو تحويلياً خفيفاً. أما بالنسبة الى السلع الزراعية اللبنانية المصدرة الى الاتحاد الأوروبي فقد حصل لبنان على إعفاء تام من كل الرسوم الجمركية المفروضة على لائحة من السلع. واستثنيت من هذا الاعفاء لائحة سمّيت باللائحة السلبية وتضم 42 منتجاً اساسياً ستخضع لقيود كمية كوتا سنوية قصوى 50 ألف طن بطاطا، 5 آلاف طن بندورة، ألف طن زيتوناً، 10 آلاف طن تفاحاً .... في المقابل، امام لبنان فترة سماح خمس سنوات، عليه بعدها اجراء خفض كبير على الرسوم الجمركية المفروضة على السلع الزراعية المستوردة من اوروبا خفض بنسبة 20 الى 30 في المئة على الرسوم التي تزيد على 5 في المئة وإلغاء الرسوم المفروضة الآن بنسبة 5 في المئة أو أقل. واستطاع لبنان الحفاظ على ما يسمى بالحد الأدنى للاستيفاء، أي الرسوم النوعية المفروضة على الحجم كلغ أو طن وليس على الفاتورة او القيمة. وهذه الرسوم تؤمّن بعض الحماية للمنتج الزراعي اللبناني. لكن المفاوض الأوروبي استثنى من هذا الاتفاق الأجبان الأوروبية غير المصنّعة في لبنان التي يجب خفض الجمارك المفروضة عليها في السنة الاولى للتنفيذ، وأنواع النبيذ الفاخر التي تخفض جماركها في السنة الخامسة والأزهار التي يجب خفض رسومها في السنة الأولى وفي السنوات اللاحقة حتى الاعفاء الكامل بعد خمس سنوات. أما بشأن السلع الزراعية المصنعة او الصناعات الغذائية التي تشكل جزءاً كبيراً من صادرات لبنان الى الاسواق الاوروبية فكان هناك خلاف حول التصنيف، إذ ان الاوروبيين يعتبرون المربى والكبيس، على سبيل المثال، مواد زراعية في الوقت الذي يصنّف لبنان هذه المواد على انها صناعية، وهذا الخلاف شمل نحو 100 سلعة. وما تم التوصل اليه في هذا المجال هو اعفاء المكون الصناعي لهذه المنتجات اللبنانية المصدرة من كامل الرسوم، إضافة الى اعفاء المكون الزراعي لنحو 77 سلعة. في المقابل منح الاتحاد الاوروبي لبنان خمس سنوات يبدأ بعدها بخفض الرسوم المفروضة على السلع الاوروبية المماثلة مع الابقاء على حد ادنى للاستيفاء، أي الرسم الحمائي. وهناك جداول تفصيلية طويلة تحدد السلع الخاضعة والأخرى المعفية مع تحديد للنسب وفترات السماح، فضلاً عن تحديد للمكون الصناعي او الزراعي. أسئلة موقوفة ظاهر الاتفاق ايجابي ويُعد انجازاً للبنان، لكن باطنه يختزن تساؤلات شتى في مختلف المجالات ابرزها الآتي: - حصل لبنان على قبول اوروبي قضى بإمكان تصدير ما يزيد على 150 ألف طن من الخضر والفاكهة اللبنانية الى الاسواق الاوروبية في الوقت الذي لا يتجاوز حجم تصدير هذه المنتجات الآن ال5 آلاف طن فقط! أي لا يستطيع لبنان، حتى تاريخه، تصدير 3 في المئة من الممكن تصديره. إذاً، يبقى الانجاز نظرياً ما لم يستطع لبنان زيادة حجم انتاجه الزراعي على نحو كبير وكبير جداً. ويبقى هذا الانجاز نظرياً إن لم نقل وهمياً إذا عرفنا ان معظم المنتجات الزراعية اللبنانية لا يمكن ان تلج الاسواق الاوروبية لأنها تفتقد المواصفات والنوعية المطلوبة هناك معظم انتاج البطاطا هو من نوع السبونتا غير المقبول اوروبياً ومعظم انتاج العنب غير مقبول ايضاً لأنه من النوع المشبع بالبذور وانتاج المشمش لا يمكن تسويقه في اوروبا لأنه لا يحتمل النقل... ناهيك عن لجوء المزارع اللبناني الى استخدام المبيدات والأسمدة والكيماويات المحظرة اوروبياً. الى ذلك، فإن معظم المنتجات الزراعية اللبنانية لا تستطيع منافسة مثيلاتها المنتجة في مصر والأردن وسورية لأن تكلفة الانتاج في هذه البلدان اقل من تلك التي يتكبدها المزارع اللبناني تكفي الاشارة الى ارتفاع كلفة ضمان الارض أو استثمارها 10 الى 20 مرة مقارنة بالكلفة المماثلة في الدول المجاورة فضلاً عن ارتفاع كلفة اليد العاملة وأسعار الفيول والمازوت.... وما برنامج دعم الصادرات الزراعية الذي بدأ تطبيقه قبل اشهر قليلة إلا لأن الأكلاف مرتفعة ولا يمكن المنافسة إلا بدعم حكومي لكلفة النقل فضلاً عن الدور المطلوب من الدولة في الارشاد وتجويد المنتجات وإيجاد زراعات بديلة ذات قيمة مضافة عالية. - أما في مجال الصناعة فلم يربح لبنان "معركة" قواعد المنشأ التي يتشدد في تطبيقها الاوروبيون لجهة وجوب توافر قيمة مضافة منتجة محلياً تراوح بين 40 و60 في المئة من المنتج المصنّع في لبنان. ويعني ذلك ان معظم الصناعات التحويلية التي تشكل جزءاً كبيراً من الانتاج الصناعي اللبناني ستتعرض للمنع من دخول الاسواق الأوروبية. ففي قطاع الملبوسات على سبيل المثال لا يمكن تصدير سلعة تم استيراد قماشها من الخارج أو قامت بخياطتها يد عاملة سورية على سبيل المثال لأن القيمة المضافة المنتجة محلياً في هذا النوع من السلع ستكون ضعيفة جداً، وبالتالي لا تصدر الى اوروبا. ويمكن جر المثال على الصناعات الكيماوية والورقية وغيرها من الصناعات المزدهرة في لبنان. - على صعيد آخر، ستبقى سياسة التثبيت النقدي المتبعة منذ 1993، وترفض الحكومة الحياد عنها، ضاغطة على المنتج اللبناني لتفقده تنافسيته في الاسواق الخارجية. فربط سعر صرف الليرة بالدولار يعزز جانب الليرة على حساب اي شيء آخر في دورة الانتاج، وبالتالي سيكون المنتج اللبناني "عزيزاً" ايضاً، أي مرتفع الثمن مقارنة مع سلع أنتجت في بلدان اعتمدت سعر صرف عائماً لعملتا على غرار إيطاليا تاريخياً، وتركيا منذ العام الماضي. الى ذلك فإن ربط الليرة بالدولار بسعر صرف شبه ثابت يرفع كلفة الفوائد وبالتالي ترتفع كلفة تمويل القطاعات المنتجة لتزيد معها الاكلاف مجدداً ويفقد المنتج اللبناني تنافسيته ايضاً. تبقى الاشارة الى ان فترات السماح الممنوحة للبنان والمتراوحة بين سنة و5 سنوات و12 سنة بحسب السلعة لخفض الرسوم على السلع الاوروبية المستوردة اليه، تعد تحدياً او سباقاً ضد عقارب الزمن. فهذه الفترات القصيرة نسبياً تفرض تحديات جمة في امكان تسريع عمليات تحديث قطاعات الانتاج. وبما ان اللبنانيين "سلاطين" في اضاعة الوقت فثمة خوف من انقضاء فترات السماح هذه سريعاً من دون الإفادة منها حتى يتفاجأ المنتج اللبناني بأن سوقه ستغرق بمنتجات اوروبية معفية من الرسوم او تكاد تكون معفية. وعندئذ لات ساعة مندم. والحديث عن اضاعة الوقت ليس وهماً إذا عرفنا ان التنظير للاصلاح الاداري مستمر منذ الستينات ولم ينجح اللبنانيون في عصرنة ادارتهم، وإذا عرفنا ان التنبيه الى خطورة الدين العام مستمر منذ ست سنوات حتى بتنا في صراع مع الزمن قبل الانفجار وفي ربع الساعة الأخير، والأمثلة كثيرة على هذا المنوال في الاقتصاد والسياسة والاجتماع. هذه العجالة التقنية مفيدة إذا عرفنا ان الفصول المتعلقة بتحرير التبادل تشكل عصب الاتفاق برمّته، وما جاء في الاتفاق من بنود متعلقة بالشراكة الاجتماعية والثقافية والإنسانية بحاجة الى بروتوكولات خاصة من نوع حفظ أو تطوير الارث الثقافي والحضاري لدول البحر المتوسط ورعاية مشاريع التعاون الاعلامي ودعم الاختلاط والتعايش والمشاركة في الحفاظ على البيئة وما الى هنالك من عناوين مهمة لكنها تأتي في المراتب متأخرة من حيث الأهمية في الاتفاق. وهناك فصول متعلقة بمنع الهجرة غير القانونية والمشاركة في الابحاث والدراسات والتعاون العلمي. وفي الشق السياسي والأمني تسير الأمور على ما هي عليه منذ عقود ما دام الاتحاد الاوروبي لا يملك مفتاح حل ازمة المنطقة المركزية، أي الصراع العربي - الاسرائيلي. * صحافي لبناني.